:11612_1210249319:
ما الذي يجعل شخصاً غير قادر على رؤية قطة مفرومة تحت عجلات سيارة.. وآخر بكل صلابة وأريحية يضغط بيديه بقوة على رقبة تلميذة في الابتدائية نحيلة، فلا يرفعها حتى يتأكد من عبور آخر زفرة!!
ما الذي يجعل شخصاً يوشك على الغثيان وينتابه دوار من رؤيته الجبرية لآخر ينزف خلف مقود سيارته إثر حادث على الطريق، وآخر يتناول غداءه بعد الظهيرة على مشاهد تعذيب السجون؛ نزع أظفارهم، وجلد ظهورهم، وكي جباههم، وبقر بطونهم مسجلة على أسطوانات سي دي فلا يشتت انتباهه إلا علبة البيبسي خلال رفعها إلى فمه..
فيما أنت تستغرق في التحليل النفسي الذي أجراه إيريك فروم على شخصية هتلر ضمن كتابه (تشريح التدميرية البشرية) تجول برأسك مقاطع الفيلم الشهير (The Fall) للمخرج أوليفر هيرشبيغل، وقد جسّد ببراعة الممثل برونو غانس شخصية أدولف هتلر، والأيام الأخيرة من حياته، وبالتالي سقوط النازية (1945م)، بناءً على المذكرات التي كتبتها سكرتيرته الوحيدة تراودل يونغي. بدءاً من ملامح الممثل التي لا تلبث أن تستدعيها وأنت تقرأ حديث فروم بأن وجه هتلر يبدو وكأنه يشم رائحة كريهة، وهذه الملامح تتصف بها عادة الشخصيات المولعة بكل ما هو ميت ومتعفن من الجثث!! فضلاً عن ضحكته التي لم تكن حرة على الإطلاق، بل كانت نوعاً من ابتسام الاغتباط بالذات. وقدرته الخارقة على بعث الملل والضجر في نفوس من يجالسهم حتى لا يعودون يستطيعون كبح تثاؤبهم، ونظرته الثاقبة، ونوبات الغضب النارية التي كانت تعتريه كل حين.
كل القادة العسكريين، كل زعماء الكاثوليكية، كل نزلاء معسكرات الاعتقال، كل قادة التيارات العسكرية المعارضة.. بل كل الألمان.. كل هؤلاء سيتم قتلهم إذا ما حدث عصيان.. هكذا هو هتلر إذا ما أراد التهديد.. هذا التعبير المنغمس في شمولية الدمار الدليل الأبرز على نزعات التدمير التي تستحوذ على شخصية هتلر.. حيث أجرى عليها المحلل النفسي إريك فروم مبضعه التشريحي، منطلقاً من إشكالية السؤال: هل كان هتلر يختلف بشرياً عن أي رجل دولة أو جنرال آخر؟! من الوجهة الخارجية يبدو عدم اختلافه، لكن المتعمق في التاريخ يدرك بأن الخاص في حالة هتلر هو عدم التناسب بين التدمير الذي أمر به والأسباب الواقعية لذلك.. فأوامره بقتل الملايين من الأعداء، وانتهاء بالقضاء على الألمان كافة لا يمكن أن تفسر بأن باعثها إستراتيجي.. بل إن باعثها، كما يقول إريك فروم، هو أن هتلر كان كارهاً للجنس البشري.. كارهاً للحياة.
لقد كان الخلاص من أصحاب العاهات من الأهداف البشرية الأولى التي رأى هتلر وجوب العمل على إبادتها. يقول في كتابه (كفاحي): «إن أصحاب العاهات يجب أن يمنعوا من التناسل وكذلك ذريتهم..».
بلغت ساديّة هتلر بما فعله مع حبيبته إيفا التي عانت طويلاً من انصرافه عنها، وحين حلّت الهزيمة بألمانيا، وأوشك الروس الاستيلاء على غرفة هتلر المحصنة في القبو، قررت إيفا أن تنتحر مع هتلر، عند ذلك فقط كافأها هتلر بعقد قران قانوني قبل أن يموتا منتحرين بزمن قصير، وقبل أن يقتل معه كلبه بالسم.. كان هتلر يرى أن الموت هو الشيء الوحيد الذي يمكن لامرأة أن تثبت من خلاله بأنها تحبه، وهو الزعيم غير القادر على الوثوق بامرأة فضلاً عن الحب.
إن من أبرز تشكلات الشخصية التدميرية كما يقول المحلل النفسي إيريك فروم هي كبت إدراك الشخص لتدميريته بحيث يظهر الشخص السمات التي هي على النقيض. هتلر يمتنع عن أكل اللحم، مقرراً اتباع الأسلوب النباتي في الغذاء، وهو المعروف بأنه آكل لحوم البشر بما حصد من ملايين الأرواح. هتلر ينفر من هواية الصيد، وهو الشديد القنص لملايين الرؤوس. هتلر الفنان الذي كان يهوى رسومات واجهات الأبنية والتصاميم الهندسية عُرف بهوسه الشديد في تدمير المباني، حتى وصل الأمر بأن دكّ جميع مدن موطنه ألمانيا في سبيل عدم هناءة العدو بها عندما أوشك على النصر. هتلر الذي كثيراً ما صرّح عن حبه للسلام والأمن وتبنيه الغايات النبيلة، كان يشتهي الدمار، ويعشق الحرب. هتلر الذي كان من الصعوبة بمكان إقناعه بحضور مشهد إعدام، كان وراء قرارات الإعدام التي كانت تنفذ بالجملة. هتلر الذي عانى من الإفراط الإكراهي (الوسواس القهري) في الاغتسال والتماس النظافة، كان يرمي إلى غسل ما علق بيديه وجسمه، رمزياً، من آثار الدم والقذارة. هتلر الذي كان يحيط به الأصدقاء، كان الصديق الحقيقي والوحيد، الذي يمكن الوثوق به، هو كلبه..