بل هو خير لكم!
الشيخ / سلمان بن فهد العودة 19ـ محرم ـ1427هـ
الحملة الظالمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبنية على الجهل والهوى والعنصرية، وليست هي بأول ظلم وعدوان إعلامي تعرّض له هذا الدين، ونبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن معظم وسائل الإعلام الغربية والأفلام وفنون الدعاية تصور العربي والمسلم على نمطيّة الشهوة والغضب، والإرهاب والجهل، والقدرية العمياء والتخلّف، وهذا يعود لأسباب منها:
- التخلف الحضاري الذي يعيشه هذا العالم المسلم، والناس عادة يحترمون الأقوياء، والقوة ليست هي القوة العسكرية فحسب، بل قوة العلم والحضارة والعقل والمال والنظام.
- ومنها التقصير المفرط في عرض حقائق الإسلام الناصعة، وتقديمها للشعوب؛ مما أتاح لخصوم الإسلام أن يقوموا بدور التعريف وفق رؤيتهم ومصلحتهم الخاصة.
وقد دلت ردّة الفعل على أن الأمة لا تزال تحتفظ بقدر من الفاعلية والإيجابية والروح، وهذا بشير خير لكل المصلحين، أن الروح لم تنطفئ، لكنها تحت الرماد؛ فعلينا السعي لإيقاد جذوتها، وحسن توظيفها، وقد يكون من الطموح الممكن التطلع إلى أن تنتقل من ردة الفعل إلى الفعل والمبادرة والإنجاز.
كثيرون لا يصنعون شيئاً إلا إذا كان ثَمّة نازلة، وهنا يهبّون بقوة ليعوّضوا عن خمولهم وسكونهم؛ فتكون ردة الفعل صاخبة وغير منضبطة.
1- فيستغلّها أقوام للجدل والخصام الداخلي، وإدارة رحى التلاوم داخل الصفّ المسلم، فهذا يقول: ليس العتب عليهم، العتب على المسلمين، العتب على العلماء، على الدعاة، على التجار.. ويحوّلها إلى حرب ذاتية.
أو يختلفون حول بعض الوسائل؛ فيتحوّل الموقف إلى شجار، وكأننا قد أدْمنّا العراك والصراع مع أنفسنا، فلا نصبر على تركه!
2- ويصعدها قوم عاطفياً بغير تعقل؛ فيرون فاعلية المقاطعة الاقتصادية مثلاً، ليقولوا: علينا أن نقاطع الاتحاد الأوروبي، ثم نقاطع الغرب كله، ثم العالم كله؛ لأنه ضدنا!!
وماذا نملك نحن من المصنوعات والسلع والبضائع حتى نقاطع العالم كله؟!
إن المقاطعة سوط يُضرب به المخطئ، وليست سياسة أصلية في التربية والتعامل، والضرب ينبغي أن يكون حالة استثنائية طارئة، وليس وضعاً مستقراً أبدياً.
وإيجابية المقاطعة هي ثمرة لتوجيهها إلى بقعة معينة باعتبار الحدث الساخن، وإلى أن تتحقق مطالب مشروعة محددة.
3- وتحاول أطراف تصفية حسابات اقتصادية مع طرف منافس؛ فتزجّ باسمها في الحلبة، وتعرضها للأذى، والناس في حمى الغضب لا وقت لديهم للتأني، وأخذ الأمور بهدوء، وقد يقع هذا بحسن نية، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[سورة الحجرات:6].
4- وينتشي بعضهم بإنجاز ما؛ كبيان أثر المقاطعة على المنتجات الدنمركية، أو لجوء الصحيفة أو السفارة لتلطيف الأجواء.. فيقلّلون من أهمية هذا الأثر مطالبة بما هو أعظم.
والواقع أننا ينبغي أن نفرح ونُسرّ بهذه الآثار، ونرحب بالاعتذار، ونطالب بالمزيد؛ فالنتائج مهما كانت قليلة فهي مؤثرة.
5- وتنساق فئات وراء الأباطيل والخرافات، وتروج سوق الرؤى والأحلام ممن تعرف ومن لا تعرف، ويظهر قدر مستوى الوعي والفقه لدى بعض المتلقين، فهذه وصية الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحجرة النبوية تُتناقل عبر الوسائط ورسائل الجوال ومواقع الإنترنت.. وهي أكذوبة عمرها نحو مائة عام تقريباً، ولا تزال حيّة متوقّدة رائجة، عقول كليلة، وأبصار عليلة، وإلى الله المشتكى!
6- ويتنافس آخرون في اختراع الأكاذيب، واختلاق الأخبار التي تروق للعامة والدهماء والسذّج، فهذا المصوّر وُجد محترقاً، ومقرّ الجريدة تعرض لهزّة، و.. و..
والنفوس تميل إلى تصديق ما تتمناه، وبعض ضعفاء النفوس لا يتورّعون عن نسبة ما يكذبونه إلى مصادر موثوقة، وبعضهم يقول: الحكومات تتكتم على الخبر، فيا للعجب.. هل وقفت عليه بنفسك؟!
إن عقل الإنسان وذكاءه يجب أن يحكم تصرفاته وأقواله وتصديقاته حتى تكون في مصلحته، وإن وسائل الاتّصال بين الناس اليوم عززت بصورة كبيرة أهمية التثبت والتأني، والهدوء وعدم التسرع في تقبّل الأقوال والنقول والمواقف، حتى يظل المجتمع الإسلامي ناضجاً، ويرتقي في سلم الوعي والمعرفة والتأثير.
7- ويُهرع بعض ضعاف النفوس إلى استغلال الأحداث والكوارث التي يمر بها المسلمون؛ بجمع التبرعات بطريقة فردية وغير موثقة، حيث انتشرت دعايات لجمع التبرعات الإغاثية، أو الدعوية للتعريف بالنبي عليه الصلاة والسلام والدفاع عنه بلغات عالمية من أشخاص أو مواقع مجهولة عبر الإنترنت أو رسائل الجوال.
وهذه التبرعات التي تذهب إلى أفراد أو جهات مجهولة عرضة للتلاعب بها، أو تحويلها لبعض الجهات الغالية التي تصرفها فيما يضر المسلمين، ويعود عليهم بالوبال.
ويجب توجيه هذه التبرعات إلى الجهات الرسمية أو المؤسسات المعروفة والمزكاة، حتى تبلغ تبرعات المسلمين وصدقاتهم محلها، وتُصرف في مصارفها الشرعية وتوضع في أولى وأحق أماكنها.
8- إن المقصد الأعظم هو البلاغ، وإقامة الحجة، وكشف اللبس والزيف، وإظهار الوجه المشرق لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، (...لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...) (البقرة: من الآية143)
وهذا هو "الفعل" الذي يجب أن تتطلع نفوسنا إليه بعد هدوء العاصفة؛ فثمة فرصة كبيرة لاستثمار الاتصال الإعلامي، وآليات القرية الكونية؛ لإيصال رسالة الإسلام المؤثرة للمسلمين أولاً؛ فكثيرون يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم حباً غامضاً غير مصحوب بالمعرفة والاقتداء (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[سورة آل عمران:31].
ولغير المسلمين، فإنني على يقين أن ثمة مجالاً لصياغة ناضجة وعصرية لسيرة النبي المختار، لا يقرؤها منصف إلا أحبه صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي مجرد العرض التقليدي المألوف.
هذا (غوته) شاعر الألمان يقول لشيخه الروحي حافظ الشيرازي:
يا حافظ:
إن أناشيدك تبعث في القلب السكون..
إنني مهاجر إليك بأجناس البشرية المحطمة...
بهم جميعاً..
أرجوك أن تأخذنا بطريق الهجرة إلى المهاجر العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إننا مسؤولون مسؤولية كاملة عن رفع اللبس المتعلق بشخصيته عليه السلام، وهذا ليس مرتبطاً بحدث الرسوم أو غيرها، لكنه رسالة زمنية دائمة، يُفترض أن يُنتدب لها السياسي والإعلامي والمؤرخ والتاجر وكل أحد.
وسيُنسى الحدث يوماً، لكن يبقى الفعل، يبقى الأثر؛ فنقول: هذه جامعة عتيدة، وهذه قناة فضائية، وهذا مقرر مدرسي، وهذا كتاب عظيم، وهذا مؤتمر سنوي، وهذه مؤسسة، وهذه وهذه... وكلها من الآثار الإيجابية المباركة للغضبة الإيجابية التي عمت العالم الإسلامي، وبهذا يتحقق موعود ربنا عز وجل، (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[سورة النــور:11].
والله من وراء القصد.
تقبلوا احترامي ..