[align=center]
فــــــن تــهــيــئــة الــنــفــوس
النفوس البشرية أشبه بالمعادن الصلبة. كلاهما يصعب كسره أو ثنيه أو تشكيله إلا في أفران خاصة عالية الحرارة. تلك الأفران التي يمكن فيها تشكيل النفوس البشرية هي أفران التهيئة النفسية. وتهيئة النفس مرحلة متقدمه علي فعل الفعل. وهي مرحلة هامة. يقصد منها دفع الأفراد ذاتيا إلى تحقيق أعلى معدلات الإنجاز لأي فعل يقدم عليه الإنسان. فأي فعل يقدم الإنسان على فعله –كبر أم صغر - يحتاج إلى حسن تهيئه وجودة إعداد ، إن مرحلة التهيئة النفسية تستنهض همم الأفراد وتجعلهم يخرجون الطاقات المخبوءة داخلهم. وقد يصعب على أي قوة استخراج مثل هذه الطاقات غير قوة التهيئة النفسية.
ويوم تبوك لما فكر الروم أن يعدوا العدة لضرب الإسلام في شمال الجزيرة العربية. استنفر الرسول المسلمين لملاقاة هذا العدوان. ولكن كانت الأيام أيام قيظ ، وقحط، وعسرة. والسير إلي العدو م يتطلب جهد كبيرا ونفقات أكبر. إضافة إلى أن \" قتال الروم ليس صداماً مع قبيلة محدودة العدد والعدة، بل هو كفاح مرير مع دولة تبسط سلطانها على جملة قارات، وتملك موارد ثرَّة من الرجال والأموال. \" كما يقول الشيخ محمد الغزالي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث المسلمون على التبرع لتجهيز الجيش. فأخذ يهيأهم، ويشجعهم، ويمعن في الترغيب والتحفيز والحث على الإنفاق. استنهض صلى الله عليه وسلم همم أصحابه . وما أن لامست أذان الرجال صيحات الرسول المدوية والمحفزة :
((من جهز جيش العسرة فله الجنة، من جهز جيش العسرة فله الجنة))
حتى تسابق المسلمون في الجهاد بأموالهم تسابقا عجيبا. فهاهو أبو بكر الصديق يأتي بكل ماله. وعمر بن الخطاب يأتي بنصف ماله. وتبارى القوم في التبرع في صورة تُظهر ما في قلوبهم من إيمان راسخ ونفوس سخية. ولم ينفق أحد أعظم نفقة من ذي النورين عثمان بن عفان الذي جهز ثلث الجيش وحده، وجاء بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وبألف دينار استرخصها رضي الله عنه وبذلها في سبيل الله. حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه:
\"ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم\" قالها مرارًا.
ولك أن تتساءل: ما الذي دفع هؤلاء إلى تحقيق معدلات الانجاز هذه ؟. أسباب عديدة. أهمها حسن التهيئة. فالرسول صلى الله عليه وسلم استطاع أن يسمو بهمم الرجال، ويجعلهم يصلون إلي هذه الدرجة من العطاء لما أحسن تهيئة نفوسهم بالطريقة المناسبة. فحسن التهيئة يعني حسن التلبية. وهذا ما يجب ألا يغيب عن الأذهان .
وهذا ما حدث يوم بدر. قبل التحام الجيشين. لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فهيأهم وحرضهم. أعطي للتهيئة وقتها الكافي. فهو اعلم الناس بحرج موقف جيش قوامه ثلث عدد جيش العدو . رفع معنويات الجنود. وغير حالتهم النفسية والمزاجية. وانعكس ذلك علي حالاتهم الفسيولوجية. هيأ صلى الله عليه وسلم نفوس الجند لما هي مقبلة عليه. وصاح فيهم قائلا :
( والذي نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة ) .
فأقبل الجند. وأدبر الخوف من قلوبهم. وكان الانجاز. الانجاز الذي وصل معدله إلي 300% تقريبا. إذ استطاع 314 مقاتل أن يصمدوا في وجه 1000 بل ويلحقوا بهم الهزيمة المذلة.
وانظر إلى رسول الله في احد رحلات العودة إلى المدينة. ففي هذا اليوم نزل المسلمون في الطريق، بمنزل بالقرب من قبيلة\" لحيان\". وهي قبيلة مشركة تكن العداء الأسود لله ورسوله. كان يفصل بين المسلمين وبين قبيلة\" لحيان \" جبل. هذا الجبل قد يكون العدو مختبئاً فيه. ولن يغامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه قبل أن يرسل طليعة على الجبل تكشف الأكمة وما وراء الأكمة. فقرر الرسول انتداب احد الصحابة لاستطلاع الأمر واستكشاف الطريق وتأمينه قبل مرور الجيش. ولك أن تتخيل خطورة مهمة من هذا القبيل. ولك أن تتخيل خطورة حياة من سيقوم بها. ولكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ثقل المهمة وخطورتها، فقرر أن يوقد نيران أفران التهيئة النفسية ليصهر فيها نفوس الجند. فاخذ صلي الله عليه وسلم يهيئ ويحفز ويشجع الأفراد قبل أن يكلفهم. ولكن دعنا تتساءل :
* ألم يكن في مقدوره صلى الله عليه وسلم أن يأمر أو يجبر أو يكلف احد أصحابه بتنفيذ هذه المهمة ؟
* ألم يكن في مقدوره صلى الله عليه وسلم أن يصدر التعليمات والأوامر- هو المسئول الأول عن الجيش -بتكليف احد قواده أو مساعديه بتنفيذ هذا الأمر قصرا ؟
* أليس مثل هذه الأمور شيئيا معتادا بل و متعارفا عليه في العرف العسكري ؟
لكنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن كل نفس مهما علا شانها فهي في حاجة إلي قدر من التهيئة والتحفيز قبل الإقدام على التنفيذ. وان ما تأتي به التهيئة لا يمكن لغيرها من الوسائل الإتيان به. حتى ولو كان الأمر مع كبار الصحابة رضوان الله عليهم.
قام صلى الله عليه وسلم أمام الجميع يدعو بالمغفرة لمن يصعد هذا الجبل الليلة ويأتيه بخبر العدو.
جاء هذا الدعاء ليقول لهم : انه ليس بين هذا الذي سيصعد الجبل في الليل البهيم وبين مغفرة الله تعالى له ذنوبه إلا صعود هذا الجبل والإتيان بخبر القوم. وهنا اشرأبت الأعناق. وسمت هامات الرجال. وتنافس الجميع من اجل الفوز بتلك المهمة.
جاءت المهمة من نصيب الصحابي الجليل : سلمه بن الأكوع : يقول سلمه رضي الله عنه وأرضاه: ( فرقيت الليلة الجبل مرتين أو ثلاث). ويا للعجب، لقد كان المستهدف انجازه صعود الجبل مرة واحدة لاكتشاف أمر العدو. وهذا يكفي. ولكن التنفيذ تحقق بنسبة300%.
إنها عظمة الرسول والتهيئة النفسية التي كان يجيدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحوجنا أن نتتبع خطاه أن نتعلم منه كيف نتقن فن تهيئة النفوس البشرية مع من نتعامل معهم.
إن تهيئة النفوس فن وعلم. نجح من أتقنه ووعاه في تحقيق أفضل معدلات الانجاز لفعل فعل. لذالك وجب على كل من يتعامل مع النفس البشرية بكل مستوياتها ألا يغفل عن تفعيل هذا الأمر. وألا يقصر في تحقيقه. وان يعطيه الوقت الكافي والجهد المناسب أيضا. وان يضع هذا الأمر نصب عينيه مهما كانت الأعمال بسيطة. والأمور العظام من باب أولى.
من حافظة ايميلي[/align]