كثيرةٌ هي الحوارات الدائرة بين الأشخاص و قليلةٌ من ترقى للمستوى المطلوب منه . ليس المطلوب من الحوار أن نخرج كلنا برأي واحد ، و بالذات حول المواضيع الخاضعة للنسبية و الجدل ، و لكن من المطلوب لإنجاح ذلك الحوار الاحترام الفعلي لوجهة نظر الآخر و عدم الاستخفاف به ، حتى لولم يتفق مع رأينا وقناعاتنا الشخصية …
بعض الأشخاص يدّعون المرونة في شخصيتهم و الاستعداد لتقبل الرأي الآخر و لكنهم في الحقيقة لا ينظرون الى العالم إلا من خلال خارطتهم الخاصة بهم و يطلبون ممن حولهم أن يخضعوا لتلك الخارطة و أن ينسجموا مع أفكارهم هم و ليس مع الحقيقة ، هؤلاء الأشخاص من تملكهم الفكرة الثابتة فيصبحون خادمين لها لا خادمةً لهم و إذا ناقشهم أحدٌ ما و حاول أن يوضح وجهة نظره صموّا آذانهم ـ حتى ولو مثلوا أن كلهم آذان صاغية ـ
و إن استمعوا جيداً و كان ذلك الرأي مخالفاً لرأيهم لقامت الدنيا على صاحب الرأي المخالف و لم تقعد ، و كيف لا و قد حاول هز قناعتهم و التشكيك بصحة أقوالهم … وهم المترفعون عن الخطأ !!! و لكن كما قال الفيلسوف جون ستيورات مل "ثمة بون شاسع بين ادعاء صحة فكرة ما لأنها لم ترفض في أية فرصة وضعت موضع الاختبار ، و بين ادعاء صحتها بهدف عدم السماح برفضها "
هناك مواضيع لا تحتمل المناقشة كقولك مثلاً : إن الشمس تضيء الأرض و تدفئها ….. حقيقة ، ولكن قولك مثلاً : في زمن من الأزمان قال فلان من الناس “…… ليست حقيقة مطلقة بل قابلة للمناقشة ، تحتمل التشكيك في صحتها و الشك هو أول الطريق للوصول الى الحقيقة ، هذا لمن يريد الوصول إليها لا من يدّعي ذلك
و تختلف ردود أفعال الأشخاص الذين لا تتفق معهم في آرائهم باختلاف شخصياتهم .. فمنهم من لا يستسلم ، و يحاول أن يقنعك بوجهة نظره ، و أن يسحبك إلى الزاوية التي ينظر منها و أن يعرض عليك أدلة و براهين ليثبت لك صحة أفكاره ، و هذا من حقه
و منهم من يرفض المناقشة لعدم قدرته على الغوص فيها لإحساسه بأنه سيغرق حتماً ، و منهم من ينسحب دون الاعتراف بصحة رأيك حتى و لو كان متفق معك سراً ، أي بينه وبين نفسه،و لكنه يعتبر إن سلّم بصحة فكرتك كأنه قد سلّم سلاحه و انهزم في معركته معك ، و منهم من يحاول أن ينتقم منك لأنك صرّحت بما لا يتفق مع تفكيره فيصول و يجول و تشتعل نار الحمية في صدره و ينفثها خارجاً لتخرج كلمات بذئية مؤذية للسمع ، و بالأخص الشتائم التي تحوي ألفاظ تصف الأعضاء التناسلية للمرأة " ....أمك، أختك"و التعابير الجنسية الصارخة
فهو يظن أن تلك الكلمات تثير غضب متلقيها و تشعره بالإهانة و العار ، و تجرحه في كبريائه فنحن في مجتمع شرقي ذكوري شرف الذكر من شرف أنثاه ، و عندما تطعن شرف تلك الأنثى تكون قد طعنت في شرفه ……
هو يريد الأذية ، بأي طريقة كانت ، فهو يعتبر أنك قد أهنته بمخالفتك له ، و بما أنه لا يملك أي وسيلة إقناع و بما أنه إنسان ضعيف و جبان فهو لا يملك إلا أن يطلق لسانه ليدنسه بألفاظ نابية تخرج من صدره الذي يغلي
قد يكون بسلوكه هذا قد استطاع أن يدنس مجرى سمعك و لكنه حتماً لم و لن يستطع أن يدنس شخصك أو فكرتك ، فهو سلوك شخص انفعالي ثائر هائج ، يستحق الشفقة ، الشفقة التي يقدمها له من يتلقى الشتيمة ، ذلك الشخص القوي الذي لا يتأثر بتلك الألفاظ و الذي لا يترك لمتفوهها فرصة لإزعاجه ،فهو يحب الحقيقة أكثر مما يحب إرضاء الآخرين خوفاً من لسانهم السليط .
كل إنسان قادر أن يتلفظ بأبشع الألفاظ ، كل إنسان قادر أن يتبادلها و يزيد عليها ، و لكن تخيلوامعي ذلك الحوار المليء بالألفاظ النابية و الشتائم النتنة اللاذعة …
تخيلوا أن تصبح تصرفاتنا هي مجرد ردود أفعال من مبدأ اشتمني سأشتمك …
.هل سيكون حوار مجدي فعلاً ؟ هل سيكون حوار بناء أم مخرب ؟ هل هدفنا من الحوار التخريب ؟ هل هدفنا من الحوار الإساءة للآخر و الانتقام منه ؟ هل هدفنا هو فقط استعراض عضلاتنا الفكرية و ابراز صحتها بالقوة لا بالعقل ؟؟؟؟
لم لا نرتق بحوارنا ؟ لم لا نهذب ألفاظنا ؟ لم لا نتناقش بأدب ، ألا نستطيع إيصال ما نفكر به بكلمات مهذبة ، قاموس لغتنا من صنعنا يمكننا أن نضيف له دائماً الألفاظ و الكلمات الإيجابية و أن نحذف منه الكلمات السلبية ، ننتقي منها ما يلاءم فكرتنا ليدعمها لا ليضعفها ،
ألستم معي أن الألفاظ المنتقاة في المناقشة تؤثر على جدواها ؟ تؤثر على علاقتنا مع المتناقشين ؟ ألا يمكنها أن تفتح الطريق لإيصال الفكرة و ألا يمكنها أن تسد الطريق ؟
كل إنسان له الحق بالتعبير عن رأيه مهما كان و لكن ليس من حقه أن يجبر الآخر بتبني ذلك الرأي
كل إنسان له الحق بالتفوه بالألفاظ التي يرغب بها و لكن ليس من حقه أن يوجه النتن منها للآخرين ،
لا تفتخر بنفسك و تدعي بأنك انسان حر بتصرفك هذا ، ليست تلك هي الحرية يا صديقي فكما قال الفيلسوف إشعيا برلين " الحرية ليست حرية فعل ما هو غير عقلاني ، أو غبي أو خاطئ ، و إن إقحام الذوات التجريبية في النمط الصحيح ليس من الطغيان في شيء ، بل إنه تحرير "