بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سبب قتال تبع أسعد الحميري لأهل المدينة
قال ابن إسحاق : وقد كان رجل من بني عدي بن النجار – يقال له : أحمر – عدا على رجل من أصحاب تبع حين نزل بهم فقتله وذلك أنه وجده في عذق له يـجده فضربه بمنجله فقتله ، وقال : إنما التمر لمن أبره ، فزاد ذلك تبعاً حنقاً عليهم فاقتتلوا ، فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم ويقول : والله إن قومنا لكرام .
أنصراف تبان عن إهلاك المدينة وشعر خالد في ذلك :
فبينا تبع على ذلك من قتالهم إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة – وقريظة والنضير والنجام وعمرو ، وهو هدل بنو الخزرج بن الصريح بن التوأمان بن السبط بن اليسع بن سعد بن لاوي بن خير بن النجام بن تنحوم بن عازر بن عزرى بن هارون بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليهم عالمان راسخان في العلم حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها ، فقالا له : أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة ، فقال لهما : ولم ذلك ؟ فقالا : هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره فتناهى عن ذلك ، ورأى أن لهما علماً ، وأعجبه ما سمع منهما ، فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما .
وهذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين اظهرهم ، وإنما أراد هلاكهم فمنعوهم منه حتى انصرف عنهم ، وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها ، فتوجه إلى مكة ، وهي طريقه إلى اليمن ، حتى إذا كان بين عسفان وأمج ، أتاه نفر من هذيل بن مدركه بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد ، فقالوا له : أيها الملك ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك ، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة ؟ قال : بلى ، قالوا : بيت بمكه يعبده أهله ويصلون عنده .
وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده ، فلما أجمع لما قالوا ، أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك ، فقالا له : ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك ، ما نعلم بيتا لله أتخذه في الأرض لنفسه غيره ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعاً – قال : فماذا تأمرانني أن اصنع إذا انا قدمت عليه ؟ قالا : تصنع عنده ما يصنع أهله ، تطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتذل له حتى تخرج من عنده ، قال : فما يمنعكما أنتما من ذلك ؟ قال : أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم .
وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حلوه وبالدماء التي يهرقون عنده وهم نجس أهل شرك – أو كما قالا له – فعرف نصحهما وصدق حديثهما فقرب النفر من هذيل ، فقطع أيديهم وأرجلهم ثم مضى حتى قدم مكة .
فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه ، وأقام بمكة ستة أيام – فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل ، وأرى في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف ، ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أرى أن يكسوه فكساه الملاء والوصائل فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت ، وأوصى به ولاته من جرهم ، وأمرهم بتطهيره وألا يقربوه دماً ولا ميتة ولا مئلاة وهي المحايض وجعل له باباً ومفتاحاً ، وقالت سبيعة بنت الأحب بن زبينة ابن جذيمة بن عوف بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان – وكانت عند عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة – لابن لها منه يقال له : خالد تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغي فيها وتذكر تبعاً وتذلله لها وما صنع بها .
ثم خرج منها متوجهاً إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحبرين ، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه ، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن .
قال ابن اسحاق : حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال : سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله يحدث ، أن تبعاً لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا : لا تدخلها علينا ، وقد فارقت ديننا ، فدعاهم إلى دينه وقال : إنه خير من دينكم ، فقالوا : فحاكمنا إلى النار ، قال : نعم .
قال : وكانت باليمن – فيما يزعم أهل اليمن – نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأكل الظالم ولا تضر المظلوم ، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار إليهم ، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها ، فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ، ومن حمل ذلك من رجال حمير ، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباهـهما لم تضرهـما ، فأصفقت عند ذلك حمير على دينه فمن هنالك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن .
قال ابن إسحاق : وقد حدثني محدث أن الحبرين ومن خرج من حمير ، إنما اتبعو النار ليردوها ، وقالوا : من ردها فهو أولى بالحق ، فدنا منها رجال من حمير بأوثانهم ليردوها فدنت منهم لتأكلهم فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها ودنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان التوراة وتنكص عنهما ، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما ، والله أعلم أي ذلك كان .
قال ابن إسحاق : وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم ؟ فقال الحبران لتُبع : إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخل بيننا وبينه قال فشأنكما به فاستخرجا منه – فيما يزعم أهل اليمن – كلباً أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت فبقاياه اليوم – كما ذكر لي – بها أثار الدماء التي كانت تهراق عليه .
مُلك ابنه حسان بن تُبان وقتل عمرو أخيه له
فلما ملك ابنه حسان تُبان أسعد أبي كرب سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم ، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق .
قال ابن هشام : بالبحرين فيما ذكر لي بعض أهل العلم – كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم فكلموا أخا له يقال له : عمرو ، وكان معه في جيشه فقالوا له : أقتل أخاك حسان ونملكك علينا ، وترجع بنا إلى بلادنا ، فأجابهم ، فاجتمعت على ذلك إلا ذا رعين الحميري فإنه نهاه عن ذلك فلم يقبل منه فقال ذو رعين :
ألا من يشتري سهراً بنوم سعيد من يبيت قرير عين
فأما حمير غدرت وخانت فمعذرة الإله لذي رعين :
ثم كتبهما في رقعة وختم عليها ، ثم أتى بها عمراً فقال له : ضع لي هذا الكتاب عندك ، ففعل ثم قتل عمرو أخاه حسان ورجع بمن معه إلى اليمن ، فقال رجل من حمير :
لآه عينا الذي رأى مثل حساًن قتيلاً في سالف الأحقاب
قتلته مقاول خشية الحبس غداة قالوا : لباب لباب
ميتكم خيرنا وحيكم رب علينا وكلكم أربابي
قال ابن إسحاق : وقوله : لباب لباب : لا بأس لا بأس ، بلغة حمير ، قال ابن هشام : ويروي : لباب لباب .
قال ابن إسحاق : فلما نزل عمرو بن تُبان اليمن منع منه النوم ، وسلط عليه السهر فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به فقال له قائل منهم : إنه والله ما قتل رجل قط أخاه أو ذا رحمه بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر ، فلما قيل له ذلك ،جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن ، حتى خلص إلى ذي رعين فقال له ذو رعين : إن لي عندك براءة فقال : وما هي ؟ قال : الكتاب الذي دفعت إليك ، فأخرجه فإذا فيه البيتان فتركه ورأى انه قد نصحه .
وهلك عمرو ، فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا ، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له : لخنيعة ينوف ، ذو شناتر ، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم فقال قائل من حمير للخنيعة :
تقتل أبنائها وتنفي سراتها وتبني بأيديها لها الذل حمير
تدمر دنياها بطيش حلومها وما ضيعت من دينها فهو أكثر
كذاك القرون هل ذاك بظلمها وإسرافها تأتي الشرور فتخسر
وكان لخنيعة أمرا فاسقا يعمل عمل قوم لوط ، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك ، لئلا يملك بعد ذلك ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده قد أخذ مسواكاً فجعله في فيه أي ليعلمهم أنه قد فرغ منه ، حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان وكان صبياً صغيراً حين قتل حسان ثم شب غلاماً جميلاً وسيما ً ، ذا هيئة وعقل ، فلما أتاه رسوله عرف ما يريد منه فاخذ سكيناً حديداً لطيفاً ، فخبأه بين قدمه ونعله ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ثم حز رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها ، ووضع مسواكه في فيه ثم خرج على الناس فقالوا له : ذا نواس أرطب أم يباس ؟ فقال : سل نخماس استرطبان لا بأس – ابن هشا م : هذا كلام حمير ونخماس : الرأس – فنظروا إلى الكوة ، فإذا رأس لخنيعة مقطوع فخرجوا في إثر ذي نواس حتى أدركوه فقالوا : ما ينبغي أن يملكنا غيرك ، إذ أرحتنا من هذا الخبيث .
ملك ذي نواس
فملكوه واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن ، فكان آخر ملوك حمير ، وهو صاحب الأخدود وتسمى يوسف فأقام في ملكه زماناً .
وبنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام على الإنجيل ، أهل فضل واستقامة من أهل دينهم لهم رأس يقال له : عبد الله بن الثامر ، وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران ، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها ، وذلك أن رجلاً من بقايا أهل ذلك الدين يقال له : فيميون – وقع بين أظهرهم فحملهم عليه فدانوا به .
المرجع
السيرة النبوية لإبن هشام
لأبي هشام محمد عبد الملك بن هشام المعافري
المتوفي سنة 213هـ
تحقيق الشيخ / أحمد جاد
أختار الموضوع وكتبه
الأستاذ / مطر بن خلف الثبيتي
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته