ارجو التثبيت
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
الصحة النفسية.. توافق قـوة الروح مع قـوة الجسـد..!
يستند الدين الإسلامي الحنيف في عملية بناء الفرد على أسلوب علمي ،يتمثل في الحرص الشديد على توحيد القوتين الكبيرتين في الإنسان ،قوة الروح ، وقوة الجسد، ليعملا معًا لمصلحة الفرد ، ولمصلحة الجماعة، تفاديًا للازدواجية التي تعمل في أغلب الأحيان على تقوية أحد الجانبين على حساب الجانب الآخر، الأمر الذي يعود بأسوأ النتائج على الفرد ، وعلى المجتمع ، وتصيب إحدى هاتين القوتين بالشلل ، أو توجهها لغير الوجهة السليمة التي كان يجب أن تتجه إليها .
واذا نظرنا للديانات أو المذاهب الأخرى ،التي عرفتها البشرية خلال مسيرتها الطويلة،نجد أنها لم تول الاهتمام بالفرد، كما فعل الإسلام، فقد حرص الإسلام على أن يحمل راية التوجيه، والرعاية والعناية بأبنائه ، كما حرص على أن يكونوا في أرفع المستويات الإنسانية ، من حيث ،صحة الجسد ،وسلامة العقل ، وطهارة الروح ، وأن يمثلوا في مختلف أطوار حياتهم الإنسان الحق ، الإنسان الجدير بحمل هذا الاسم ، والجدير بحمل الأمانة التي وضعها الخالق سبحانه وتعالى على عاتقه ، حينما استخلفه على الأرض .
وترتبط الصحة النفسية ارتباطا وثيقا بقدرة الفرد على التوافق مع نفسه ، ومع المجتمع الذي يعيش فيه ، وهذا يؤدي إلى التمتع بحياة هادئة سوية ، مليئة بالحماس، وخالية من اليأس والاضطراب . وهذا يعني أن يرضى الفرد عن نفسه، وأن يتقبل ذلك ، كما يتقبل الآخرون ، فلا يظهر منه ما يدل على عدم التوافق الاجتماعي ، كما أنه لا يسلك سلوكًا شاذًا ، بل يسلك سلوكًا اجتماعيًا معقولاً ، يتسم بالاتزان ، ويتصف بالإيجابية ، والقدرة على مواجهة المواقف ،ومجابهة المشاكل التي تقابل الفرد،في مختلف نواحي حياته .وعليه فان فالصحة النفسية لا تعطى للفرد،ولكنه يكتسبها بجده واجتهاده ، فكل فرد بالغ عاقل هو المسؤول الأول عن صحته النفسية ،ومسؤول عن نموها وزيادتها باستمرار.فالصحة النفسية لها مظاهر سلوكية تبدو واضحة في تصرفات الأفراد الذين يتمتعون بالصحة النفسية السليمة،واهم مظاهرها تنحصرفي، الإرادة الذاتية، فعندما يجعل الإنسان صلته بالخالق سبحانه وتعالى سندًا دائمًا ، ووكيلاً ، ومعينًا ومرجعًا ،فإن هذه الصلة تجعله على الرغم من ضعفه أمام بعض ميوله الجامحة ، ورغباته الطائشة ، يستخدم عقله ، وإرادته في الضبط الذاتي . والإرادة الإنسانية تعني ميل الفرد إلى العمل ،وهي بذلك تدخل تحت حيز النزوع ، ومن الخطأ الشائع بين الذين كتبوا في علم النفس قديمًا أنهم حصروا النزوع في الإرادة ، حيث قالوا، إن الظواهر النفسية هي عبارة عن :" إدراك ، ووجدان ، ونزوع وإرادة .
ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ ان هناك نوعا من السلوك ينزع إليه الفرد بالفطرة ، وهناك طائفة أخرى من الأعمال ينزع الأفراد إلى أدائها عن طريق العادة ، وهناك مجموعة من الأشياء يفعلها الفرد مستجيبًا إلى الميل الوجداني في داخله ، فالنزوع إذن نزوع فطري ، أي غريزي .. أو نزوع عادي ، أو نزوع إرادي والعمل الإرادي الكامل المتكامل يسير في أربع خطوات وهي : الشعور بالغرض ، والروية ، والعزم ، والتنفيذ . وأن الفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية عادة ما يكون له إرادة ، وهذه الإرادة التي يستمدها من الإيمان بالحق سبحانه وتعالى، هي صمام الأمان لكل سلوك أو انفعال .وكذلك في فهم الـذا ت ومعرفة خباياها،حيث تعد قدرة الفرد على فهم نفسه ومعرفتها من المظاهر الأساسية للصحة النفسية ، فالفرد المستقر نفسيًا غالبًا ما يكون لديه القدرة على فهم ذاته ومعرفتها ، ويكون هذا الفرد مدركًا لنواحي القوة والضعف في نفسه . فالإسلام حث الإنسان على التفكير ، فطلب منه أن يفكر في نفسه ،وفي عجيب خلقه ،ودقة تكوينه ،وهو بذلك يدفع الناس إلى دراسة النفس ، ومعرفة أسرارها ، حتى يمكنهم من أن يعرفوا قدرة الخالق سبحانه وتعالى ، ووظيفتهم في هذه الحياة ، ليعملوا على أدائها بصورة تقربهم من المولى سبحانه عز وجل ، حيث يقول سبحانه وهو أصدق القائلين : ( أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلاى بالحق وأجل مسمى ، وإن كثيرًا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ) (الروم : 8) .
ومما لا شك فيه، إن معرفة الإنسان لنفسه تساعده على ضبط أهوائها ، ووقايتها من الغواية ، والابتعاد بها عن الانحراف ، ومن ثم تتكون لديه الشخصية المتكاملة . والشخصية المتكاملة تتميز بأنها قادرة على التكيف السليم مع نفسها ، ومع أفراد المجتمع ، وهي تتفاعل باتزان واعتدال وثقة بنفسها ، مؤكدة لذاتها في غير تطرف ، موفقة بين دوافعها الفطرية وإرادة المجتمع ، وفقًا لما يسوده من مبادئ وقيم ومثل . ويتصف صاحب الشخصية المتكاملة بقدرته على إقامة علاقات إيجابية بناءة في المجتمع ، وقدرته على السلوك السوي الخالي من التناقضات ، وقدرته على احتمال الشدائد والصعاب ومواجهتها ،وثبات انفعالاته واعتدالها ، وعدم إحساسه بالتوتر والقلق ، وقدرته على الإنتاج ، والإحساس المستمر بالرضا والسعادة .
ويضاف الى ذلك تبني الفرد الايجابية،حيث تعتبر الإيجابية من جانب الفرد من اهم المظاهر الأساسية للصحة النفسية ، فالفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية عادة ما يتمكن من بذل الجهد الموجه للبناء في مختلف الاتجاهات ،كما أنه لا يقف عاجزًا أمام العقبات والمشكلات التي تواجهه في حياته اليومية ،ومثل هذا الفرد لا يشعر بالعجز وقلة الحيلة في حياته ،بل هو دائم الكفاح والسعي .
فالعلاقة بين الفرد وبيئته علاقة أخذ وعطاء ، بل هي علاقة فعل وانفعال ، وتأثير متبادل وصراع موصول ، وهو في تفاعله مع بيئته يتأثر وينفعل بشتى الانفعالات ،ويرغب ويدبر ،ويقدر ويصمم ، ويتعلم وينفذ ،ويعي ما تعلمه،كما أنه يعبر عن أفكاره ومشاعره باللفظ مرة ،وبالحركة والإشارة مرة أخرى ، ويحاول أن يسلك أنواعًا مختلفة من السلوك ،ويصيب ويخطئ،ويحدث كل هذا للفرد وهو يشق طريقه في الحياة طمعًا في عمل يؤديه ، أو مركز اجتماعي يصبو إليه، أو أسرة يقيمها ويرعاها ، أو جماعات مختلفة يندمج فيها ،ويشترك في نشاطها ، أو نوع من الإصلاح يعقد العزم على تنفيذه ،في إيجابية وحرص .
أما الفرد الذي لا يتمتع بالإيجابية فعادة ما يقف عاجزًا أمام فشل ،وأمام أي مشكلة مهما كانت بسيطة،وكذلك الاستقرار في الحياة الأسرية والعملية،حيث انه من المعلوم إن الفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية عادة ما يكون مستقرًا في حياته الأسرية،وفي العمل ،فالأسرة تعتبر مأوى الفرد ومصدر استقراره،وان كان (الفرد)متزوجًا سُعد في زواجه،واكتفى بزوجة واحدة. أما الفرد الذي لا يتمتع بصحة نفسية فكثيرًا ما ينتقل من زوجة لأخرى،سعيًا وراء الاستقرار،ولكن هذا الاستقرار بعيد المنال ،إذ ان العيب فيه هو،والاضطراب الاجتماعي الذي يعيشه من صنع يـده ،ولكنه لا يدري ذلك .
ومما لا شك فيه ان الفرد المتمتع بصحة نفسية غالبًا ما يكون أكثر قدرة على الاستمرار في عمله ، ولا يقدم على تغيير هذا العمل ، إلا إذا وجد عملاً آخر ، فيه إشباع له أكثر من الناحية الاجتماعية ،أو النفسية ،أو العقلية ،أو المادية . أما الفرد الذي لا يتمتع بالصحة النفسية،فإنه يجد من الصعوبة بمكان الاستقرار في عمل معين ، كما انه يجد صعوبة في إقامة علاقات مفيدة ومثمرة مع زملائه في العمل .أما الانفعالات الموزونة فهي ضرورة لضمان الصحة النفسية للفرد حيث ان الانفعالات تشكل محور الحياة النفسية، فهي توابل الحياة ،وهي تلازم الفرد في تعلمه المستمر ،وفي سعيه الدائم للتوافق والتكيف ،والانفعالات ليست عيبًا كما يظن البعض ،فالدراسات النفسية تقول: أن عدم الانفعال في مواقف تقتضي من الفرد أن يغضب أو أن يحزن ، يعتبر مظهراً من مظاهر الاضطراب النفسي ،وانخفاض مستوى الصحة النفسية .
وعليه يمكن القول ان للانفعالات أهمية كبيرة في حفظ حياة الكائن الحي ،لأنها رد فعل طبيعي يقوم به الفرد ، لمواجهة المواقف الطارئة التي تعترضه،وعن طريقها يتمكن من مقاومة المواقف الخطرة ،أو الهروب منها . بيد أن كثرة الانفعالات ،والإسراف فيها يضر بصحة الإنسان النفسية والجسدية ،وان اضطراب الناحية الانفعالية عند الإنسان يعد من الأسباب الهامة في نشوء كثير من أعراض الأمراض الجسدية،والتخلص من القلق هو طريق العلاج ،وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات الكريمة التي تساعد الإنسان على السيطرة على انفعالاته المختلفة والمتعددة .
وتؤكد الدراسات والبحوث النفسية،ان للطاقة الانفعالية في حياة الأفراد آثارها الحسنة والسيئة ، ومن هنا ينبغي أن تبنى دعائم الحياة الانفعالية للأفراد على أسس نفسية سليمة، لدفع الفرد نحو العمل والطموح ، وتكون مصدرًا قويًا لاستمتاع الإنسان بحياته ، في آمالها وآلامها ، وفي مسراتها وأحزانها .وإن الحياة التي يحياها الفرد لا تخلو من استمتاع بالآمال والمسرات ،وكفاح ومجالدة للآلام والأحزان ، وذلك عن طريق الثقة بالنفس ، والانتصار على المخاوف .ولا شك ،ان الفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية عادة ما تكون انفعالاته موزونة او معتدلة، أي على قدر المواقف التي تواجه الفرد، دون أدنى مغالاة أو نقص.
ومهما يكن فإن الاستمتاع بصحة نفسية طيبة ،وما يتبع ذلك من استمتاع بالحياة يتوقف إلى حد كبير على عدد من العوامل التي تؤثر على نشاط الفرد ، سواء ارتبطت هذه العوامل بماضي الفرد ،أو حاضره،أو ما يتوقعه في مستقبله ، وسواء ارتبطت هذه العوامل بالفرد نفسه،أو بالحياة التي يعيشها ، فإن تلك العوامل جميعها تحدد نوع النشاط الذي يقوم به الفرد ،وكل ذلك يؤثر في استجابة الفرد لما تأتي به الحياة .
وخلاصة القول في هذا المقام، ان معظم الجهود المبذولة في سبيل تحقيق الصحة النفسية للأفراد في البلدان التي تهتم بالصحة النفسية لها طابع وقائي، فالاهتمام يتركز في الأسلوب الذي يتبع لتحقيق الصحة النفسية للفرد ، والحياة التي يجب أن يعيشها ، والظروف المناسبة التي تحيطه بها ، بغية تحقيق أمنه ، وطمأنينته النفسية.والجهد الوقائي لتحقيق الصحة النفسية مسؤولية جماعية ، فهو مسؤولية الأسرة أولا ،ثم مسؤولية المدرسة ثانيا،ثم مسؤولية المجتمع ثالثا،ثم مسؤولية منشآت العمل رابعا،ومسؤولية المنظمات الاجتماعية خامساً ، وعملية التكيف والتوافق السوي تعتبر محور وأساس الصحة النفسية، وعملية التوافق تتمثل في سعي الفرد الدائم للملاءمة والمواءمة بين مطالبه وظروفه، ومطالب وظروف البيئة المحيطة به،فكثيرًا ما يوجد الفرد في ظروف أو في بيئة لا تشبع كل حاجاته ومتطلباته. كما أن هذه الظروف وهذه البيئة قد تشكل عائقا امام إشباع الفرد لحاجاته النفسية والاجتماعية ،ومثل هذه الأوضاع تفرض على الفرد بذلك الجهد المستمر،والمثابرة في وجه الصعوبات التي تواجهه في حياته سعيًا وراء حلها،وتلك هي صورة من سلوك الفرد السوي الذي يسعى للتكييف والتوافق مع بيئته في حياة اجتماعية طبيعية مستقرة انفعالاته موزونة او معتدلة، أي على قدر المواقف التي تواجه الفرد، دون أدنى مغالاة أو نقص .