قال العلامة ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ :
" ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤسهم، فإذا عَلَم الجنة قد رُفع لهم فشمّروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضِّح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر في أبدٍ لا يزول ، ولا ينفذ بصبابة عيش، وإنما هو كأضغاث أحلام ، أو كطيف زار في المنام ، مَشُوب بالنَّغص (1) ممزوج بالغصص (2) وإن أضحك قليلا أبكى كثيرًا ، وإن سر يومًا أحزن شهورًا ، آلامه تزيد على لذاته ، وأحزانه أضعاف مسراته، أوله مخاوف وآخره متآلف ، فيا عجًبا من سفيه في صورة حليم ، ومعتوه في مسلاخ عاقل ، آثر الحظ الفاني الخسيس ، عـلى الحظ الباقي النفيس وباع جنة عرضها السموات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات ، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان (3) ضيقة آخرها الخراب والبوار ، وأبكاراً عرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان ، وحوراً مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام ، وأنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين ، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الدميم ، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان ، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد ، ونداء المنادي يا أهل الجنة : إن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا وتحــيوا فلا تموتوا ، وتقيموا فلا تظعنوا (4) وتشبوا فلا تهرموا بغناء المغنين .
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي *** متــــــــأخرٌ عنه ولا متقدمُ
أجدُ الملامة في هــــــــــواك لذيذة *** حبّاً لذكرك فليلمني اللومُ
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة ، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة ، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً ، ونادى المنادي على روءس الأشهاد : ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد ، فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام ، وادخر لهم من الفضل والإنعام ، وما أخفى لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر ، ولا سمعته أذن ، ولا خطر على قلب بشر ، لعلم أي بضاعة أضاع ، وأنه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع ، وعلمأن القوم قد توسطوا ملكاً كبيراً لا تعتريه الآفات ، ولا يلحقه الزوال ، وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال .
فهم في روضات الجنة يتقلبون ، وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون ، وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون ، وبالحور العين يتنعمون ، وبأنواع الثمار يتفكهون ، ويطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين ، لا يصدعون عنها ولا ينزفون ، وفاكهة مما يتخيرون ، ولحم طير مما يشتهون ، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ، جزاء بما كانوا يعملون ، ويطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ، تالله لقد نودي عليها في سوق الكساد ، فما قلَّبَ ولا استام (5) إلا أفراد من العباد ، فوا عجباً لها كيف نام طالبها ؟ وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها ! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها ؟ وكيف قرَّ للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها ، وكيف قرت دونها أعين المشتاقين ؟ وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين ؟ وكيف صدفت (6) عنها قلوب أكثر العالمين ؟ وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين ؟ . " ا هـ
-------------------------
(1) مشوب بالنَّغَص : مخلوط بما يكدر أمره .
(2) ممزوج بالغُصَص : مخلوط بما يقف في حلقه فلا يكاد يسيغه ، والمراد من ذلك كله أن لذات الحياة الدنيا ليس خالصة وإنما يخالطها دائماً ما يكدرها .
(3) أعْطان : جمع عطن وهو مبرك الأبل ، ومربض الغنم عند الماء .
(4) تظعنوا : ظَعَنَ ظَعْناً وظُعُوناً أي سار وارتحل .
(5) فما قــلَّبَ ولا استامُ : فما نظر في هذه السلعة ولا سأل عن ثمنها يعني الجنة .
(6) صَدَفَت : أعرضت .
-----------------------------------------------------------
من مقدمة حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح