الشَّريعة الإسلاميَّة شريعةُ الكمالِ؛ حيثُ جاء الإسلامُ مُبَيِّنًا لجميع مناحي الحياة, موضِّحًا لها, جاعلاً في أولويَّاتِه منفعةَ أتباعه, ولا يُحلِّلُ في أحكامه إلاَّ ما كانت منفعتُه محضةً, أو راجحةً, وكذا في جانب التَّحريم, وليُعلمْ أَنَّ الشَّريعةَ الإسلاميَّةَ قائمةٌ على تحقيقِ المصالحِ والمنافع للمسلم, ودفع المضارِّ وتخفيفها, بكُلِّ مستطاعٍ, مِنْ ذلك ما كان في جانبِ الدَّواءِ حيثُ وَرَدَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عن أبي الدَّرْدَاءِ قال: قال رسول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا ولا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ)).
فقدْ حَثَّ الشَّارع الحكيم في هذا على التَّداوي, وأمر به وفيه أمرانِ:
الأوَّلُ: حثَّ الشَّارعُ أتباعَ هذه الشَّريعة السَّمحة على البحثِ عَنِ السَّبب، وهذا بابٌ كبيرٌ حَثَّ عليه الشَّارع الحكيم وله حيِّزٌ كبيرٌ مِنْ نصوصه، وَمِنْ ذلك: العلاج، وأَنَّ الإنسانَ مأجورٌ على عمله ذلك ما لم يكن ذلك الدَّواء حرامًا.
الثَّاني: حَثَّ مَنْ يقومُ على المعالجة على بذلِ السَّبب في اختيار أفضل العلاج، فلا يكونُ التَّداوي إِلاَّ بذلك, فهذا حَثٌّ مِنَ المصطفى-صلَّى الله عليه وسلَّم- للقائمين على المراكزِ البحثيَّةِ على تكثيفِ الجهود, والعمل الدَّءوب في هذا المجال, وأنَّهم على أجرِ عظيمٍ مِنَ الله ما لم يكن ذلك الدَّواء محرَّمًا. وليُعلمْ أَنَّ هذا العمل مِنَ الأعمال الفاضلة الَّتي يَدَّخِرْهَا صاحبها عند ربِّه جَلَّ شأنه, فلرُبَّمَا كان الطَّبيب هو السَّبب في إنقاذ حياة ذلك الإنسان الَّذي يتعبَّد لربِّه ويصوم ويصلِّي ويتصدَّق, فله مثل أجرِ صاحبه, خصوصًا إذا وافق ذلك احتسابًا وحسنَ تعاملٍ, قال تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾.
وعن أبي هُرَيْرَةَ قال نهى رسول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ)).
وَعَنْ أُسَامَةَ بن شَرِيكٍ قال أَتَيْتُ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وَأَصْحَابَهُ كَأَنَّمَا على رؤوسهم الطَّيْرُ فَسَلَّمْتُ، ثُمَّ قَعَدْتُ، فَجَاءَ الأَعْرَابُ من هَا هُنَا وَهَا هُنَا، فَقَالُوا يا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَدَاوَى فقال: ((تَدَاوَوْا، فإن اللَّهَ عزَّ وجلَّ لم يَضَعْ دَاءً إلاَّ وَضَعَ له دَوَاءً، غير دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ)).
قال ابنُ القيِّم-رحمه الله-: "كان من هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعل التَّداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرضٌ من أهله وأصحابه؛ ولكنْ لم يكنْ مِنْ هديه ولا هدي أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة الَّتي تُسمَّى (اقرباذين)، بل كان غالب أدويتهم بالمفرادات، ورُبَّما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه أو يكسر سورته، وهذا غالب طِبِّ الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك وأهل البوادي قاطبةً، وإنِّما عني بالمركَّبات الرُّوم واليونانيُّون وأكثر طِبِّ الهند بالمفردات".
قُلْتُ: فالدَّواء مأمورٌ به مُرَغَّبٌ فيه، حَثَّ الشَّارعُ الكريم على التزامه, وأوامر الشَّريعة على الوجوب ما لم يكنْ هناك صارفٌ.
وقال الحافظ ابنُ رَجَبَ: "مَنْ رَجَّحَ التَّداوي قال إنَّه حال النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يداوم عليه وهو لا يَفْعَلُ إِلاَّ الأفضل وحمل الحديث على الرُّقى المكروهة الَّتي يخشى منها الشَّرك بدليل أنَّه قرنها بالكيِّ والطِّيرة وكلاهما مكروهٌ".
إذا كان هذا هو المتقرِّرُ من كلامِ أهل العلم في شأن الدَّواء والاستشفاء, في الطِّبِّ البشريِّ وهو أوَّلُ ما يقرع قلب من يستمع إلى هذه النُّصوص فينبغي أن يعلمَ أنَّ هناك علاج ودواء يغفل عنه كثيرٌ مِنَ النَّاس وهو الالتجاء إلى رَبِّ الأرض والسَّماء سبحانه وتعالى, ويحسن في هذا نقل كلام للعلاَّمة ابن القيِّم حول هذه المسألة حيث يقول رحمه الله: "الدُّعاء من أنفع الأدوية وهو عدوُّ البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يُخفِّفُه إذا نزل وهو سلاح المؤمن، كما روى الحاكم في صحيحه من حديثِ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهُ وكرَّم الله وجهه قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((الدُّعاء سلاح المؤمن، وعماد الدِّين ونورُ السَّماوات والأرض)).
وله مع البلاء ثلاثُ مقاماتٍ:
أحدها: أما يكون أقوى مِنَ البلاء فيدفعه.
الثَّاني: أن يكونَ أضعفَ مِنَ البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد؛ ولكنْ قد يخفِّفه وإِنْ كان ضعيفًا.
الثَّالث: أن يتقاوما ويمنع كُلُّ واحدٍ منهما صاحبَه، وقد روى الحاكم في صحيحه من حديث عائشة - رضي الله عنها- قالت قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((لا يغنى حذر من قدر، والدُّعاء ينفع ممَّا نزل وممَّا لم ينزل، وإنَّ البلاء لينزل فيلقاه الدُّعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)).
وفيه أيضا من حديث ابن عمرَ عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم-قال: ((الدُّعاء ينفع ممَّا نزل وممَّا ينزل، فعليكم عباد الله بالدُّعاء))، وفيه أيضا من حديث ثوبان: ((لا يردُّ القدر إلاَّ الدُّعاء ولا يزيد في العمر إلا البرّ، وإنَّ الرَّجل ليحرم الرزق بالذَّنب يصيبه)).
ومن أنفع الأدوية الإلحاح في الدُّعاء، وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرةَ قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ لم يَسْئَلِ الله يَغْضَبْ عليه)).
وفي صحيح الحاكم من حديث أنس عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تعجزوا في الدُّعاء فإنَّه لا يهلك مع الدُّعاء أحد)).
وذكر الأوزاعيُّ عن الزُّهريِّ عن عُرْوَةَ عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إِنَّ الله يحبُّ المُلِحِّينَ في الدُّعاء)).
وفى كتاب الزُّهد للإمام أحمد عن قتادةَ قال: قال مورق: "ما وجدت للمؤمن مثلاً إِلاَّ رجلٌ في البحر على خشبةٍ فهو يدعو يا ربِّ! يا ربِّ! لعلَّ الله عزَّ وجلَ أنْ ينجِيَهُ)).
فينبغي أنْ يكونَ حالُ المؤمن في هذه الدُّنيا وما يَمُرُّ به في عَرَصَاتِهَا على هذا المقال سالفِ الذِّكر, فلقد أنجحَ مَنِ التزم في سَيْرِهِ على تعلَُقِه بربِّهِ، وقطع ما دونه مِنَ العلائقِ مع بذلِ السَّبب, دون اعتماد عليه.
والله أعلمُ وصلَّى الله وسلَّم على المبعوث رحمةً للعالمينَ.