بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وفود قريش على سيف بن ذي يزن
بعد قتله الحبشة
قال نعيم بن حماد : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن سُفيان الثورى ، قال : قال ابن عباس : لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تُهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه ، فأتاه وفد قريش ، فيهم : عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس ، وأسد بن عبد العُزي ، وعبد الله بن جدعان ، فقدموا عليه وهو في قصر له يقال له غمدان وله يقول أبو الصلت ، والد أمية بن أبي الصلت :
لم يدرك الثأر أمثال ابن ذي يزن x لجج في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامته x فلم يجد عنده القول الذي قالا
ثم انثنى نحو كسرى بعد تاسعة x من السنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم x إنك عمري لقد أسرعت إرقالا
من مثل كسرى وبهرام الجنود له x ومثل وهرز يوم الجيش إذ جالا
لله درهم من عصبة خرجوا x ما إن رأينا لهم في الناس أمثالا
صيدا جحاجحة بيضاً خضارمة x أسد تربب في الغابات أشبالا
أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد x غادرت أوجههم في الأرض أفلالا
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا x في رأس غمدان داراً منك محلالا
ثم اطل بالمسك إذ شالت نعامتهم x وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن x شيبا بماء فعاذا بعد أبوالا
فطلبوا الإذن عليه فأذن لهم فدخلوا فوجدوه متضمخاً بالعنبر ، يلمع وبيص المسك في مفرق رأسه وعليه بردان أخضران قد ائتزر بأحدهـما وارتدى بالآخر ، وسيفه بين يديه والملوك عن يمينه وشماله ، وأبناء الملوك والمقاول .
فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام ، فقال له : قل ، فقال: إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلا رفيعاً صعباً منيعاً باذخاً شامخاً ، وانبتك منبتاً طابت أرومته ، وعزت جرثومته ونبل أصله وبسق فرعه ، في أكرم معدن وأطيب موطن فأنت أبيت اللعن رأس العرب وربيعها الذي به تخصب ، وملكها الذي به تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ، ومعلقها الذي إليه يلجأ العباد ، سلفك خير سلف ، وأنت لنا بعدهم خير خلف ، ولن يهلك من أنت خلفه ، ولن يخمل من أنت سلفه ، نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمته وسدنة بيته ، أشخصنا إليك الذي أنهجك لكشف الكرب الذي فدحنا ، فنحن وفد التهنئة لا وفود المرزئة .
قال : من أنت أيها المتكلم
قال : أنا عبد المطلب بن هاشم .
قا : ابن أختنا ؟ ، قال : نعم ، فأدناه وقربه ، ثم أقبل عليه وعلى القوم ، وقال : مرحباً وأهلا ، وناقة ورحلاً ومستناخاً سهلا ، وملكا ربحلاً ، يعطي عطاء جزلاً ، فذهبت مثلاً .
وكان أول ما تكلم به : قد سمع الملك مقالتكم ، وعرف قرابتكم ، وقبل وسيلتكم فأهل الشرف والنباهة أنتم ، ولكم القربى ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم .
قال : ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود ، وأجريت عليهم الأنزال ، فأقاموا ببابه شهراً لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الإنصراف ، ثم إنتبه إليهم إنتباهة ، فدعا بعبد المطلب من بينهم ، فخلا به وأدنى مجلسه وقال : يا عبد المطلب إني مفوض إليك من سر علمي أمراً لو غيرك كان لم أبح له به ، ولكنني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه ، فليكم مصوناً حتى يأذن الله فيه ، فإن الله بالغ أمره : إني أجد في العلم المخزون ، والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا ، خبراً عظيماً وخطراً جسيماً فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة .
قال عبد المطلب : مثلك أيها الملك من بر وسر وبشر ، ما هو ؟ فداك أهل الوبر ، زمراً بعد زمر .
قال ابن ذي يزن : إذا ولد مولود بتهامة ، بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة إلى يوم القيامة .
قال عبد المطلب : أبيت اللعن ، لقد أبت بخير ما آب به أحد ، فلولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة ما أزداد به سروراً .
قال أبن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه ، قد وجدناه مراراً والله باعثه جهاراً وجاعل له مناً أنصاراً ، يعز بهم أولياءه ويذلك بهم أعداءه ، ويفتتح كرائم الأرض ، ويضرب بهم الناس عن عرض ، يخمد النيران ويكسر الأوثان ويعبد الرحمن ، قوله حكم وفضل وأمره حزم وعدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، ينهى عن المنكر ويبطله .
فقال عبد المطلب : طال عمرك ودام ملكك وعلا جدك وعز فخرك فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح ؟
فقال ابن ذي يزن : والبيت ذي الطنب والعلامات والنصب ، إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب ، فخر عبد المطلب ساجداً .
قال ابن ذي يزن : ارفع رأسك ، ثلج صدر وعلا أمرك فهل أحسست شيئاً مما ذكرت لك ؟
قال عبد المطلب :أيها الملك كان لي ابن كنت له محباً وعليه حدباً مشفقاً ، فزوجته كريمة كرائم قومه يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف ، فجاءت بغلام بين كتفيه شامة ، فيه كل ما ذكرت من علامة ، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه .
قال أبن ذي يزن : إن الذي قلت لك كما قلت فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود ، فإنهم له أعداء ، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً ، اطو ما ذكرت لك ، دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة ، فيبغون له الغوائل ، وينصبون له الحبائل ، وهم فاعلون وأبناؤهم ، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه ، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره ، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار هجرته ، وبيت نصرته ، ولولا أني أتوقى عليه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره ، وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف إليك ذلك عن غير تقصير مني بمن معك .
ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد ، وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة ، وحلتين من حُلل اليمن ، وكرش مملوءة عنبراً ، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك ، وقال : إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره .
فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن فكان عبد المطلب بن هاشم يقول : يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد ، ولكن يغبطني بما لي ذكره وفخره لعقبي ، فإذا قالوا له : وما ذاك ؟ ، قال : سيظهر بعد حين .
المرجع
العقد الفريد
تأليف الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي
المتوفي سنة328 هـ
تحقيق / محمد بعد القادر شاهين
كتبه الأستاذ / مطر الثبيتي
والسلام ختام