انتماءُ الإنسانِ إلى وطنه شيءٌ مجبولٌ عليه ، و ممدوحاً به ، و كثيرٌ من العلماءِ و الصُلحاءِ أبانوا عن شوقهم إلى بلادهم و مواطنهم ، و انتسبوا إليها في كتابةِ أسمائهم .
و حبُّ الوطن ليس عيباً و لا محرما ، و لا الانتصارُ له ، و إنما يكون محرماً و مذموماً حينما يكون على حساب الدين ، و الدعوات الوطنية التي رُفعتْ راياتها قبلُ إنما كانت على حسابِ طرْح الدين و عدم الاعتبار به .
ووطنيةُ المرءِ من حفظه لعهدِ المواطنة ، و من وفاءِ رُوحِه و فؤاده ، و من ليس ذا وطنيةٍ لوطنه فإنَّ في داخلةِ ذاته صارفٌ كبيرٌ عن وفاء الوطن و مودته .
و الإنتماءُ إلى الأوطان قَد يكون على نوعين :
الأول : انتماءٌ ظاهرٌ محسوسٌ ، و هو أن ينتميَ امرؤٌ إلى وطنِه ، و هو من أهلهِ ، و له فيه أصولٌ ، و هو ما يُوصف اليوم بـ ( التجنُّس ) _ غالباً _ ، و لذلك كان من النبي حينما أخرجه أهلُ مكةَ منها إلا أن تمثَّلَ بلفظِ شريفٍ أبان و أوضحَ عن حبِّه لها فقال : " إنك لَمن أحب البلادِ إلي ، و لولا أن أهلَك أخرجوني ما خرجتُ " ، فأبان عن انتمائه الحسي لبلاده ، و هو قد وُلِدَ فيها ، و نشأَ و تربَّى .
و لهذا الانتماءِ آدابٌ و أخلاق ، ينبغي للمرءِ المنتمي أن يُراعيَها ، و هي :
1. لزومُ طاعة ولي الأمر ، فلا يجوزُ له بحالٍ عصيانه ، إلا ما كان مُسْتَثْنَياً ، كأنْ يُظهرَ كفراً صريحاً ، أو يأمُرُ بمعصية معتبرة شرعاً بأنه معصية .
2. التقيُّدُ بأنظمةِ الوطن ، و عدمُ إهمالها و هجرها ، فإنَّ الأنظمةَ في الأوطان جعلتْ لِتحْفَظَ الوطن و أهله من الفوضوية التي قد تروقُ لبعضِ النَّاشزين عن سواءِ العقل .
3. نُصْرَةُ الوطن ، و الدِّفاعِ عنه ، فإنَّ ذلك من لوازم الولاء له ، و ليس المقصودُ أنْ يكون على حسابِ الدين ، فإنَّ الدين مُقَدَّمٌ على غيره ، و لا يتقدَّمه غيرهمن أي شيءٍ آخرَ .
و هذه النُّصرة إما أن تكون تجاهَ عدوٍّ خارجيٍ ، أو من خصمٍ باغٍ منتمٍ للوطن ، فالدفاع و النُّرةُ في ذَيْنِ أدبٌ حسنٌ أن يُرْعى .
4. الولاءُ للوطن وأهله ، فالمرءُ مدنيٌّ بجبِلَّتِه ، ميَّالٌ إلى القريبِ دون الغريب ، و بلدِيُّهُ من ذوي القُرْبِ منه ، فموالاته له ، و مودَّته تبَعٌ لوطنه ، و لكنْ بقدرها ، فلا يُغالى في ذلك على حساب دينه .
5. الارتقاءُ بالوطن ، فإنَّ الأوطان تفتقرُ إلى رُقِيٍّ و رِفعة ، و لن يتأتَّى لها ذلك إلا من جهةِ أبنائها ، و ذلك بتعلُّمهم العلوم و المعارف الكفيلةَ برُقِي الوطن ، و كفايته بأبنائه عن غيرهم .
6. جماليةُ الوطن ، عن طريق إحسان التعاملِ مع أفراد الأوطان الأخرى ، و حفظِ صورته الحسنة في نظر الآخرين .
الثاني : انتماءٌ باطنٌ معنويٌ ، وهو أن يكونَ ميالاً و محباً لوطنٍ له فيه أحباب ، أو له فيه أعمالٌ و أغراض ، و لكنه ليس مقيماً فيه ، و إنما يهفو إليه و يحبه لحاجة ، و هذا كحالِ بعضِ إخواننا المسلمين المقيمين في بلاد الكفر ، فإنهم يحبون بلاد الإسلام ، و لكنهم ليسوا فيها ، فانتماؤهم معنوي ، و هذا حالُ النبي لما استقرَّ في المدينة المنورة ، فإنه دعا لها بما دعا به أبونا إبراهيم عليه السلام و زاد .
و لهذا الانتماء أدبٌ :
1. حفظُ مقامِ الوطنِ الأصلي الحسي ، فإنَّ غلبةَ الانتماءِ الباطن على الانتماء الظاهر يؤدي إلى نتائجَ غيرِ محمودة ، من حيثُ عدم اعتبار الولاية في وطنه الأصلي ، و غيرها من الآداب السابقة .
2. رعايةُ جانب الإصلاح ، فإنَّ الانتماءَ إلى إلى الوطن المعنوي لا يمنع من مراعاة جانب الإصلاح في الوطن الحسي ، و إنما هو دافع بقوة ، حتى لا يستبدلْ المواطن بوطنه غيرَه من الأوطان ، و لا يُمَكِّن الغريبَ في وطنه .
على أنَّ الانتماءين كليهما يلزمُ المرءَ فيهما آداباً عامةً ، منها :
1. اعتبارُ الرأي الآخر ، و توسعةُ دائرة الحوارات الثقافية ، ذلك بحدود الحفظ للمُسَلَّمات الشرعية ، و عدم التعرُّضِ لها بنقْصٍ و نقْضٍ ، و النظرةُ الأُحادية ليست محمودةً و لا ممدوحةً ، و لا بُدَّ من أن تؤتيَ ثمراً علقماً ، و قد تجرَّعَتْ بعضُ الأوطانِ شيئاً من ذلك .
2. رعايةُ حقَّي الإسلامِ و العربيةِ في أوطان المسلمين ، فإنَّ الإسلامَ أصلٌ جامعٌ لأفئدة المسلمين ، و العربيةُ رابطةُ عقدِ موادَّةٍ على لسان النبوَّة ، و ليس مقصوداً الدعوة إلى العربيةِ ترْكاً للإسلامِ ، بل هي تبعٌ له ، و الإسلامُ دوماً مقدَّمٌ .
3. نقلُ الثقافات و المعارف بين الأوطان ، عن طريقِ ترْجمةٍ إلى لغاتٍ ، و عبر طرقٍ عِدَّةٍ ، فإننا نطمحُ إلى شيءٍ من ذلك ، مُفاداً من خِبراتٍ سابقةٍ ، و الخندقُ مأخوذٌ من الفُرْسِ ، فانتقلت الثقافة من وطنٍ إلى وطنٍ .