عقوق الوالدين
(وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
قصة قصيرة للكاتب الفلسطيني تحسين أبو عاصي
عرفته منذ أن كان شابا يافعا، كان قصير القامة لا يزيد ارتفاع قامته عن المتر، كان ضحوك الوجه، طيب القلب، صارع الفقر والحرمان، وأمضى حياته مُستأجَرا عند الأثرياء.
عكف على أبنائه حانيا كشجرة النخيل تظلل ثمارها ، تحضنهم حضن الذات للذات.
كان من بين أبنائه من أسعده حظه في مِنحة جامعية من جمهورية مصر العربية؛ ليتخرج بعد سنوات من جامعاتها طبيبا أخصّائيا في مجال طب الأطفال.
ذاع صيته في كل مكان، وأثبت جدارته في الميدان، وأصبح مالكا لثروة كبيرة مكنته من شراء قطعة أرض وسط أرقى أحياء غزة، ثم بنى عليها بيتا فاخرا يصلح لسكن الملوك والأمراء، وجهزه بأحدث وأرقى الأثاث المنزلي والذي اشتراه خصّيصا من أوروبا، ولم يبخل على قصره بشيء حتى البلاط ذهب إلى أوروبا ليحضره بنفسه، وتزوج من ابنة أحد الأثرياء المرموقين في المدينة من أصحاب المنصب والجاه والمال، والأب الفقير يستأجر بيتا متواضعا سقفه من الصفيح (صاج الزينقو) وجدرانه من اللبن، ولا يزال أبوه يعمل أجيرا خادما عند الناس ..... !!!
شعر الأب بالحرمان الذي ما بعده حرمان ، وشكا أمره بصمت إلى ربه، وعشش الألم على أنياط قلبه، وهو الذي ربّى فلذة كبده وأنفق عليه حتى صار شابا يافعا؛ و أصبح طبيبا مشهورا ؛ لعله يأكل من ثماره، ويجني من حصاده، ويتفيىءُ بظلاله.
قابلته مرة في ميدان فلسطين في غزة وسألته: كيف حال ابنك الطبيب؟.
أجابني والقهر يرسم معالمه على صفحات وجهه: الله يرضى عليه، وقد أشار بيده اليمنى إشارة اليأس ودلالات وجهه تدل على العجز والمرارة. كان يبدو في السبعين من عمره، ضعفت قواه كما ضعف منه السمع والبصر، وهو لا يزال يذهب إلى عمله ويعود في كل يوم متثاقلا، وكأنه يجر من خلفه أثقال الأهوال الجسام، وهموم السنين العجاف، ولا يزال يعمل أجيرا ينتزع لقيماته من بين مخالب زمانه.
لم تنفع الطبيب شهرته كما لم تنفعه ثروته الطائلة، ولا كل ما ملك، فقد وقع عليه غضب من الله ووالديه. كانت النتيجة أن حرمه الله من الذرية، فمنعه من الإنجاب ليحرمه ربه من سعادة وحلاوة احتضان طفل من أطفاله..... وفجأة يتوقف قلبه عن العمل ولم يبلغ الخمسين من عمره؛ ليلقى سوء عمله عند ربه.
عادت زوجته إلى بيت أهلها، وعاد بيته الفاخر إلى والده الفقير بحكم الميراث الشرعي,
(وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)؛
فاعتبروا يا أولي الألباب.