السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتاب «مخطوطات البحر الميت: قصة الاكتشاف» للصحافي اسامة العيسة كان يمكن ان يحمل عنواناً أكثر انسجاماً مع محتوياته لو أطلق عليه عنوان «الآثار الفلسطينية: مخطوطات البحر الميت نموذجاً». ذلك ان هذه المخطوطات التي اكتشفت في خربة قمران سنة 1947 لا تحتل إلا قسماً محدوداً من الكتاب، وإن كانت تلامس عدداً آخر من الموضوعات المتعلقة بأوضاع الآثار الفلسطينية في ظل الاحتلال الاسرائيلي.
ينطلق المؤلف، وهو كاتب تحقيقات صحافية لافتة، من لقاء أجراه مع محمد حامد أحد شخصين اكتشفا المخطوطات في أحد كهوف قمران (الثاني هو محمد الذيب الذي توفي قبل سنوات في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن) ليستعيد مع القارئ كيف جرى تهريب هذه المخطوطات الى أميركا حيث بيعت هناك لتجار أوصلوها لاحقاً الى اسرائيل.
الفصول الثلاثة الاولى تسترجع كل المعلومات الاساسية عن الاكتشاف والتهريب والبيع، وهي ليست جديدة على الشخص المتابع، غير انها هنا تفيد في رسم الصورة العامة التي في إطارها ينتقل المؤلف لتناول ما تتعرض له منطقة قمران والبحر الميت (الفصول الثلاثة التالية) من اجراءات اسرائيلية كالتهجير وقطع الأوصال بالحواجز العسكرية ومنع العلماء والباحثين غير اليهود من الوصول الى تلك المناطق، ناهيك عن التنقيب والبحث الآثاري.
ويظهر الأسلوب الصحافي واضحاً في تقسيم هذا الكتاب، إذ ان المؤلف يضمّن فصوله تفاصيل كثيرة، بعضها لا يتعلق مباشرة بالمخطوطات، كما تتعرض له الآثار الفلسطينية حالياً. ومن الأمثلة على ذلك حديثه عن العالم الفلسطيني الدكتور سنا عطاالله (ص 45) الذي كان من أهم الباحثين في الحياة الطبيعية بفلسطين بما في ذلك البحر الميت... لكنه قتل في حادث سنة 1970 وهو في السابعة والعشرين من العمر، ويلمح المؤلف الى ان مقتله كان «مشبوهاً».
وبعد الفصلين العاشر والحادي عشر عن الأسينيين الذين تركوا لنا مخطوطات قمران، ينتقل العيسة الى تسعة فصول تتراوح بين مخالفة اسرائيل لاتفاقية لاهاي المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح وفشل السلطات الفلسطينية (بعد أوسلو) في المطالبة بالحقوق الفلسطينية المشروعة في هذا المجال، وبين ضياع كميات كبيرة من المخطوطات الفلسطينية من المكتبات العامة والخاصة، وصولاً الى التنقيبات غير الشرعية التي قام بها موشي دايان بعد حرب 1967 وما رافقها من «نهب رسمي» للآثار الفلسطينية وانتهاء بأعمال الحفر المستمرة في أسفل أساسات المسجد الأقصى بحجة البحث عن بقايا «معبد الهيكل»!
أهمية هذا الكتاب لا تكمن في أنه يقدم جديداً عن مخطوطات البحر الميت، بل في كونه صرخة متألمة تحذر مما تتعرض له الذاكرة التاريخية للشعب الفلسطيني من نهب وتشويه وتزوير في ظل اهمال رسمي أو جهل فعلي تبديه السلطة الفلسطينية. وهي صرخة محقة تماماً إذا أخذنا في الاعتبار ان الدوائر الصهيونية لا تترك فرصة إلا وتحاول فيها تأكيد «وجودها التاريخي» على أرض فلسطين الكنعانية. ونراها دائماً تضخم أي كشف آثاري، بل وتزور الحقائق لتدعيم اسطورة «أرض الميعاد»... والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، أبرزها الرمانة العاجية وشاهد قبر اليعازر وغيرها!
وبالعودة الى مخطوطات البحر الميت نفسها، وهي نموذج لواقع حال الآثار الفلسطينية، لا بد من الاشارة الى ان المسألة الآن تعدت قصة الاكتشاف والتهريب والبيع وما شابه ذلك لتصبح كيفية درس محتويات المخطوطات التي باتت متوافرة باللغات العالمية الحية (انني اقرأها هذه الأيام باللغة الانكليزية)، وكذلك الاجابة عن سؤال حساس جداً أثاره المؤلف اسامة العيسة (كما يثيره غيره من الباحثين العرب والأجانب) ألا وهو: هل تم الكشف عن «كل» المخطوطات أم أن بعضها أخفي سواء عندما كان عدد من الآباء اليسوعيين يعملون عليها في الخمسينات أو عندما استولت السلطات الاسرائيلية عليها ووضعت قيوداً على مشاركة الباحثين «المقبولين» في الاطلاع على محتوياتها؟
والسبب في هذا ان بعض العلماء والآثاريين يعتقد بأن ما تضمنته المخطوطات يلقي أضواء جديدة على فترة «وجود المسيح» في القرن الميلادي الأول، وعلاقة المسيحية الأولى بالاسينيين، ومدى «يهودية» هؤلاء الأسينيين، وهل تلتقي تعاليمهم بالتوراة العبرية أم تفترق عنها وما شابه ذلك؟ وهذه الأضواء قد تغير فهمنا لتلك المعتقدات.
وعلى حد علمنا، فإن الباحثين العرب لم يعكفوا بعد على دراسة ما هو متوافر من مخطوطات البحر الميت، ولم يشاركوا زملاءهم الأوروبيين في اجراء الأبحاث المقارنة ليس فقط بين اليهودية التوراتية والمسيحية، بل ايضاً بين تعاليم الأسينيين والعقائد الروحية المنتشرة في بلاد كنعان آنذاك (وكانت تشمل الساحل المتوسطي بين العريش وأوغاريت).
ولعل من ميزات كتاب اسامة العيسة انه يعيد هذه المسألة الـــى ساحة النقاش، ويترك للمؤرخين والباحثين في علم الأديان المقارن ان يدلوا بدلوهم بدلاً من ترك «مخطوطات فلسطين» عرضة للتشويه والاستغلال من جانب باحثين اسرائيليين همهم تثبيت خرافة «أرض الميعاد» حتـــى ولو على حساب حقائق التاريخ.