الرأي الآخر .. (مداخلة نقدية على شعر حفيظ الدوسري )
لم أكن مندفعا للكتابة عن الشاعر حفيظ بن عجب الدوسري ، إلا أني وجدت نفسي أكتب حين علمت أنَّ هذا الشاعر يمثل شعراءنا في المحافل خارج المملكة ، وله ستة عشر ديوانا مهاجرا اطلعت على أغلبها ، وعلى بعض الكتب التي ألفها عنه بعض المعجبين به ، وما دام أنَّ هؤلاء أظهروا احتفاءهم بإبداع الشاعر حفيظ فإنَّ لغيرهم الحق في إظهار ملاحظاتهم والتي لا تخدم إلا لغة الضاد ، والرقي بآدابها إلى المأمول ، ولن أطيل فما سيأتي كفيل بإيصال ما أريد ؛ ففي أحد دواوين الشاعر الحديثة والذي يحمل عنوان : (سدرة الحرف) يقول متعللا بأن الشاعر يتطور :
(( بين طين الماء من ماء وطينْ
نبتت سدرة حرفي
شمخت سدرة حرفي
أثمرت صدق اليقين
وهي من ماء وطينْ )) هذه قصيدة كاملة !! والسطر الأول منها محاولة هشة لخلق نوع من المفارقة والتضاد ، وهذا الكلام بريء من المعنى الذي هو لب القصيدة ،
وإليك من أمثاله قوله :
((الحرف والسدرة والأوراق
والقلم المعاق
والماء والحبر الذي تشربه الأوراق
وحسرة الساق الذي ينمو بلا رفاق)) ، والشاعر بهذا الرمز يجعلني أذكره بأن الكلام الذي لا يفهم ليس بشعر ؛ لأنَّ شاعرنا الحبيب حفيظ هو من قال :
غرابة الشعر ليست كل غايته"=" ففي الوضوح جمال زانه السفر
أما كلمة (المعاق) فخطأ لغوي ، والصحيح (معوق) بفتح ثم ضم .
قارئي الكريم وتأمل معي هذا الخطأ المعنوي :
مواسم الفرْح في أشعارنا غبرَت "=" فالوزن يجلد في أعماقنا السأما
فهو يقصد بالوزن أفاعيل الخليل العمودية وهو قد سئمها ؛ لذلك كان ينبغي أن يستبدل (يبعث) بـ(يجلد) ،وفي قصيدة أخرى يقول :
(( ومهما كادنا الأحباب والأغراب لا نخشى من الغرق )) أما الأحباب فلن يكيدوا ، و(الأغراب) لا تعني الأعداء .
واقرأ هذه المقطوعة معي بقليل من التأمل حيث يقول:
(( زمن البسيط إلى المديد صدى نغم
ومن الطويل إلى الطويل نبا نغم
ومن الخليل إلى الخليل شفى نغم
أواه يا لحن العدم
أواه يا لحن العدم )) وأنا أدعو شاعرنا حفيظ لشيء من الروية في نشر مثل هذه الكلام .
والطباق ذلك اللون البلاغي الجميل لا يكون كذلك إلا إذا أضاف جمالا ولم يؤثر على المعنى على الأقل إذا لم يخدمه ؛ ولهذا ليس جميلا قوله :
وأغرب في شمس الشروق فتختفي "="ينابيع حبي في مقاصير غربتي
وأسأل ريح الأمس عن فرحها غدا "=" فتلمع في نفسي بقايا مسرتي
والسريالية تعطي إيحاء صعبا تفسيره وتذهب بالنفس كل مذهب ، لكنها إن استخدمت لذاتها لا لشيء آخر فذلك يعني أنها فقدت جمالها الخليق بها ، كما أني لم أجد في اللسان (فرح) -بسكون الراء - ومع هذا فقد وردت عند حفيظ غير مرة ، ومثلها كلمة (القهر) في البيت الآتي حيث حرك القاف وليست في لسان العرب :
أمامها كل ما في الأرض من متع "=" وخلفها النار والأخطار والقهر
ولو أننا تتبعنا شعره وقرأناه كما هو مكتوب ؛ لوجدنا أخطاء لغوية وأخرى عروضية وإملائية ، ولن نقول : إنها كلها أخطاء مطبعية ، لأن على الشاعر أو الكاتب أن ينظر إلى إنتاجه قبل انتشاره لأن " من ألف فقد استهدف " ، أو ينوه إلى ذلك بكل سبيل متاح والشاعر يملك أفضل السبل أفضلها وأوسعها انتشارا ، ألا وهو موقعه على الشبكة العنكبوتية ، فمن هذه الأخطاء قوله :
(( وتصيح ناركم
تحور إلى رماد
فأوقدها بالسداد )) هكذا كتبت !! ومهما فعلنا من تحريك وتسكين فلن يستقيم الوزن إلا بتنوين (رماد) وحذف الفاء التي في ( فأوقدوها) ، وفي قوله:
(( نمنا بأخبية الأرانب ميتين
أو مرهقين ومتعبين
مكممين محجبين )) أيضاً ..هكذا كتبت !! ولست أشير إلى الوزن ، ولكن هذا خلل في البناء ، إذ كيف يستبدل الإرهاق بالموت وهو أقل منه ؟! .
كما أنه خليق بالمرء أن يكون ممحصا ، لا يلقي الكلام على عواهنه ، فقد قال شاعرنا دون تمحيص لما قال:
(( وعاد البرامكة المترفونَ
وهارون عاد
وعاد الرشيدُ
وعاد الإماء )) عن أي شيء أتحدث ؟ أعن البرامكة المظلومين ، وهم من هم في الكرم ؟! أم عن هارون ؟ أم عن الرشيد ؟ وجميعنا يعرف أن الرشيد لقب لهارون وهو الخليفة الذي كان يلقب عصره بالذهبي ، وكان يحج سنة ويغزو سنة !!
لن أتحدث عن كل ما أراه في هذا الديوان ، ولكن لا بد مما ليس منه بد ، وسأستعرض على عجل قوله متغزلا :
تختال ، تختال ، أو تنهال غاضبةً "=" علي بالسوط أحيانا وتستتر
هل يتغزل بالحجاج ، أم بصدام حسين ، أم بشارون ؟! لا أعلم لكن الذي أعلمه أن الغزل لا يحتمل هذه القسوة .
تعتز تهتز أو تحتز في صلف "=" رأس الشموخ فتعلو ثم تنتحر
هذا جناس متكلف!! وأما ( تعلو ثم تنتحر ) !! فلا يستساغ في شعر الرقة والجمال!!
وهذه القصيدة التي أوردت بعضا من أبياتها وعنوانها ( الفاتنة ) لم تتحقق فيها الوحدة الموضوعية قيد أنملة ولن أعلق على هذا المقطع :
(( واختفى النصر
فقلنا : هل لنصر القوم يوماً
من حقيقة
أو شقيق أو شقيقة
أو له حتى ولو
بعض رفيقة ؟ ))
وأما قوله :
(( سقط الناس حبالى في وجوه الأحجياتْ
فرحوا تسعة أشهرْ
غضبوا تسعة أشهرْ
فكروا تسعة أشهرْ
وضعوا بعض البنات
وأعادوا الأحجيات ))
فقد حمل الشاعر عناء التفسير عنا وشرحه هو بنفسه في قوله :
تمرّ غمامة موت المعاني على حرفنا كبقاء القدر
وفي قصيدة ( الثور البريء) نجد أن تشكيلها بكاملها كشف لنا من الديوان ما يجعلنا نعتب ونستغرب من نشر الشاعر هذا الديوان .
والأعجب من ذلك أن ناقدا ما كتب عن هذا الديوان قراءة نقدية في ثلاثين صفحة بعنوان ( افتتان بين يدي ديوان سدرة الحرف) جعل من الشاعر حفيظ الدوسري أسطورة ينحني عندها ( أبولو ) وحمل النصوص ما لا تحتمل ، واستشهد بقول لوتشي ( شاعر صيني ) ، وحشد كما مفزعا من المصطلحات ؛ ليوهم القارئ أنه أمام ناقد يُحسب له ألف حساب ، فالناقد يقول : (( هكذا عزيزي القارئ تبدأ قصائد ديوان سدرة الحرف وتسلمك إحداها إلى الأخرى في انسيابية ساحرة )) !! هذا من إيهامه ثم كتب هذا الناقد عن شاعرنا : ((أما عن الإيقاع عنده فإنك تلاحظه من خلال وحدات تذبذب بانتظام في الجملة الشعرية ، مما يجعل الأذن تتلقى انطباعا بانتظام صوتي يكفي لكي تهتز طربا له واسمع مثلا قوله : تختال تختال أو تنهال غاضبة )) كما قال " وأنا أنقلها بعلاتها "(1) : (( إلا أن القافية الغالبة عند شاعرنا غالبا ما تقنع بوظيفتها الصوتية وبتقوية البحر خصوصا في قصائده العمودية والتي هي جل أعماله " مع أنه ليس في هذا الديوان إلا ثلاث عموديات والباقي من التفعيلة " وذلك أمر طبيعي حيث شاعرنا من هؤلاء الشعراء … وهي سمة الشعراء المنشدون " برفع المنشدون " )) ا.هـ ..
وما يدل على الاضطراب في فهم الشاعرية ما ورد في كتاب ( المناهل الأثيرة في شعر نابغة الجزيرة ) وهو كتاب ألف عن الشاعر حفيظ : (( ومن الألقاب التي وسم بها الشاعر الخطيب ؛ لأنه جمع بين قرض الشعر وفن الخطابة ، إلا أنه حينما يسأل عن أيهما أحب إلى نفسه فإنه يفضل ( الخطيب الشاعر ) … )) !!
والشاعر الكريم حفيظ له قصائد جميلة كغيره لكن الأجمل منها أن يجد مثل هذا الرأي المعاكس متسعا في صدر الشاعر ليسهم هو وإخوانه من الشعراء في دفع مسيرة الأدب الإسلامي .
والله من وراء القصد .
منقول من كلام جميل لأحد النقاد واسمه سعد النفيسة