الإبداع والقيم جانبين في طريق كل مبدع
الإبداع والقيم جانبين في طريق كل مبدع
عندما يشاهد الجيل الأكبر الجيل الأصغر منغمساً في التسلية، والملهيات، وجديد التكنولوجيا والاتصال، يبدؤون بإلقاء المواعظ، وتذكيرهم كيف أن الجيل “القديم” كان مهتماً ببناء نفسه، والبقاء في ظل العائلة، واحترام العادات والتقاليد، وعدم الركون للكسل والتوكل.
وعندما يشاهد عامة الناس ما يعرض في قنوات الإعلام، من تسلية وأعمال لا تمتّ لواقعهم بصلة، نجدهم ينتقدونها بشدة، وعلى رأس الاتهام: أنها تخلو من “الأعراف”، ومن القيم والتقاليد.
ولنرسم صورة أكبر..
لنتابع كيف أن العالم أصبح مهووساً مؤخراً بمتابعة تطور اليابان المذهل، التي التقطت نفسها بعد انفجار تشرنوبل النووي، وعادت مستوية على قدميها من جديد، مكونة حضارة لا تضاهى في دقتها، وصرامتها، جديتها، ابتكارها، وسرعتها.. والأكثر من ذلك، أن العالم أكثر ما يبهره في اليابان، وشعب اليابان، ذلك الانسجام الواضح بين ما يفعلونه وما يؤمنون به.. إنه ذلك الشيء الذي يحركهم، ينظمهم، ويدفعهم.. إنها التقاليد والقيم اليابانية العتيدة، التي جعلتهم في مصاف دول وحضارات التنمية والتطور، دون التخلي عن هويتها وقيمها.
ويأتي السؤال:
هل التقدم، وتحقيق الأهداف والنجاح، والابداع، له علاقة بالانفتاح والانغلاق؟
لقد كانت ولازالت هناك العديد من الدراسات حول هذا الأمر، ولو تتبعنا أي عمل إبداعي سواء جماعي أم فردي، لوجدنا المحفز له، هو الرغبة بالنجاح، أما ما يوجهه، فهي القيم.. ويمكن للمرء أن يتقدم مع احتفاظه بقيمه، ولو كان يتلقى ما يتلقاه بانفتاح، بينما الانغلاق يعني فرصاً أقل لتلقي الإبداع، وتطوير الذات.
هذا الامر في الحقيقة يثير فكرة جوهرية، هي العلاقة بين الإبداع والقيم، وكيف أن كل واحد منهما مكملٌ للآخر.
هل الإبداع قيمة؟
توصل العديد من المفكرين والمبدعين البارزين إلى أن الرغبات أو الأهداف تمثل السمات المميزة للشخص المبدع.
وفي حين يرى كل من بارون (1997) و هيلسون (1990) بأن العنصر الرئيس في كل أنماط الإبداع هو رغبة المرء في أن يكون مبدعا، فإن هذا يعني أن الإبداع يمثل أحد القيم الإنسانية الجوهرية.
نظام القيم والإبداع
سنحاول بحث فرضية معينة هي:
” أن المبدعين لديهم نظام معين من القيم، غير موجود لدى غيرهم من غير المبدعين”
هناك دراسة لطيفة سنطلع عليها لنحلل فرضيتنا السابقة، هي للعالم شوارتز (1992) حيث استطلع شوارتز آراء 278 طالب قاموا بتعبئة استبيانات حول القيم، بجانب قياس المنجزات الإبداعية باستخدام أساليب قياس قائمة على السلوك والتقارير الذاتية.
وفي مناسبات منفصلة طرح 134 من المشاركين في المسح ثلاث منتجات مبتكرة.
وهذا يبين لنا بأن المنجزات والمنتجات الإبداعية ترتبط بصلة وثيقة ليس فقط بنظام القيم ذي التوجه الذاتي (النابع من داخلك، من رؤيتك وقيمك ونظرتك) بل وبالحوافز والنظرة الشمولية. ومن ناحية أخرى نجد منجزات ومنتجات عينة الدراسة تصبح سلبية إذا ارتبط نظام القيم بالقوة والسيطرة، حيث تقل فرص التميز والإبداع.
الإبداع ليس سلوكاً فقط، الإبداع قيم وسلوك وانتاج
يبهرنا كمتلقين في هذه الحياة أولئك الذين التزموا بقيمهم ومبادئهم، من القادة ودعاة السلام، ومن الأدباء والرياضيين، ومن المفكرين والعلماء.
فكم من عالم تم تكريمه في محفل، فيه ما لا يتوافق مع مبادئه، فرفض بكل رقي؟ وكم من رياضي مثّل بلاده، ورفض عرضاً أو تكريماً لا يناسب الصورة التي جاء يمثلها؟ وكم من مبتكر يتلقى عروضاً سخية لأجل التخلي عن فكرته، والانصياع للمادة أو الرواج؟
هؤلاء المبدعين عرّف شوارتز (1992) القيم بالنسبة لهم كأهداف مرغوبة تتفاوت من حيث أهميتها وقوة تأثيرها عليهم. وعلى الرغم من ربطها بالمزايا الشخصية فإن تلك القيم تمثل عنصراً رئيسياً في إبداعهم الذي تميزوا به عن غيرهم من الناس.
تعزيز قيم الإبداع
لو كان هناك مربٍ أو معلم، أو طالب علم، أو مبدع في أي مجال، يرغب في معرفة قيم الإبداع، فهي تشمل: القوة و الإنجاز و البحث عن المتعة و التحفيز و التوجه الذاتي و الشمولية و النزعة إلى عمل الخير و التقليد و التجانس والأمن.
وبناء على ذلك، يستحسن أن يتلمس هذه المواطن في طلابه، أبناءه، أو في نفسه فيعززها، و يعمل مع الآخرين وذاته على وضع أهدافه وخططه، وتغذيتها بقيم الإنجاز والبحث عن المتعة والتحفيز والتوجيه والتجانس، ويعمل على توفير مناخ من النزعة لعمل الخير والأمن، ليصل إلى القوة والشمولية.
فلو كان معلماً فهو يناغم بين المجموعات بالتجانس والتحفيز ليحصل على القوة، بينما مع الأفراد، يستحسن أن يحفّز القوة للحصول على الإنجاز.. وهذا أمر دقيق، يمكن اكتسابه كما يشير شوارتز(1992) بالممارسة والتطبيق المتكرر.
هل يمكنني استخدام قيم الإبداع كأداة تطوير؟
قيم الإبداع العشرة التي ذكرناها، ” القوة و الإنجاز و البحث عن المتعة و التحفيز و التوجه الذاتي و الشمولية و النزعة إلى عمل الخير و التقليد و التجانس والأمن”، كيف يمكن توظيفها؟
النزعة إلى عمل الخير
تسهم هذه القيمة بشكل إيجابي في العلاقات الاجتماعية، فهي مهمة لجعل أفراد الجماعة مرتبطين ببعضهم البعض مثل أعضاء الجماعات الإبداعية بالمدارس وأماكن العمل.
الأمن والتجانس
يفيدان في تطوير عنصر التآلف بين أفراد الجماعة منعاً للنزاع والصراعات.
القوة
قد تضعف القوة الإبداع إذا لم تستخدم بشكل جيد، أما في المشروعات الإبداعية الجماعية حيث أن صاحب القوة يستطيع أن يأمر ويجبر الآخرين على اتباع رؤيته الإبداعية، فهي أكثر إيجابية.
ولنقيس على ذلك باقي القيم، بأن نجعلها كمنظومة تخدم أهداف المبدع، وليس قيوداً تحد من انفتاحه على التجارب، وتعرضه لأسباب التقدم والنجاح.
غياب القيم
نرى كيف أنه في المجتمعات التي تسودها رؤى مادية مثل: “الغاية تبرر الوسيلة”، و”النفع مقدم على الفرد” كيف أنها لا تلبث أن تتخبط على مستوى القيم في مقابل الإنتاج الذي يخلو من الروح.
هذه تعتبر نتيجة طبيعية لغياب القيم، أو استبدالها بقيم سلبية، أو قيم ضارّة، بينما يعد انتظام وانسجام القيم الإيجابية مع العمل الإبداعي أفضل وأرقى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري.
خلاصة:
ربما يتبادر للذهن أن القيم إذا سادت بشكل كامل مع الإبداع، فهي تحد من بريقه، وتجعله مملاً أو منفراً لأنه أصبح مقيداً، ومثل هذه الأفكار قد تحتمل الخطأ نتيجة نوعية التلقي، فإن كان الذهن يتلقى القيم كقيد فستبقى كذلك مهما بلغت أهميتها، وأما إذا تلقاها كأساس، وكمبدأ ورؤية، فستجعل الأمور في نظره أكثر وضوحاً، وازدهاراً.
منقول