,’
غرقت نظراته الخبيرة في عيني وبعد طول تأمل قال لي " أريد منك إجراء تحليل لدموع "
كانت هذه أول مرة اسمع فيها عن تحليل الدموع , سمعت عن " تحليل الدم " وغير الدم .. أما الدمع , فلا ؟
في الطريق نحو المختبر كنت خائفة , ماذا سيكشف لهم تحليل دموعي ؟
بل وكيف سيحصلون على الدمع مني ؟ وأنا البخيلة به حتى في جُزُر وحدتي ؟!
لقد انهار شيء في أعماقي منذ زمن ما , وسد درب الدمع وطمس معالمه , فكيف أبكي في مختبر التحليل إذا طُلب إليَّ ذلك ؟
ولكن , لم لا ؟
أنها فرصة رائعة للبكاء بعد طول احتباس لمطر القلب , و سأبكي دون أن أحمّل ضميري أو إرادتي أي وزر .
تخيلت المشهد على الوجه التالي : سيقول لي الممرض : " خذي هذا الأنبوب , أبكي فيه وأملئيه دمعاً "
سأنتهز الفرصة وسأبكي طويلا .. فهناك لحظات من عمري مررت بها راكضة وقد أشحت بوجهي عنها ,
وهي التي تستحق مني اعواماً من البكاء , بكاء فرح أوبكاء حزن - فلأبكِ لأجلها دقائق على الأقل , وبأمر
من الطبيب ! سأبكي .. وحتى حينما يأتي الممرض ويقول لي أن الأنبوب الذي ملأته بالدمع طاف,
فلن أرد عليه وسأملأ له إبريقاً من الدمع) ترى هل سيعطونني أنبوباً ملوناً مزخرفاً كتلك المدامع الأثرية القديمة ,
كتلك التي أهداني إياها صديقي الشاعر المرحوم توفيق صايغ ذات مرة , ولما سألته , لماذا ؟
قال : " كي تبكي من أجلي .. سياتي يوم تبكين فيه من أجلي " . وضحكتُ منه طويلاً يومئذ .. وحتى يوم سرقه الموت ,
ظلت " المدمعة " الهدية جافة , فقد كان الدمع قد غاض في رمال قلبي المقفرة ) .
***
ولكن الأمر كان أكثر بساطة في المختبر , لم يطلب إليَّ أحد البكاء , جاؤوا بقطعة قطن وحكوا بها جفني فانهمر الدمع نقطة واحدة كانت تكفيهم , ولكنها لم تكن تكفيني !...
وحين غادرت المختبر فرحت لأنها كانت تمطر ولم يكن في وسعي أن أوقف مطر الدمع في حنجرتي المالحة كمغارة محشوة بالشوك ....
****
قال لي الرجل " :تعالي بعد أيام من أجل نتيجة التحليل "
وعشت أياما شبه قلقة ...ترى هل سيقرؤون في دموعي تاريخي كله ؟! تاريخ أحزاني كلها ؟...هل سيقرؤون أيضا أسماء ...وتواريخ....؟
وهل ستتراءى للمحلل وجوه ووجوه ، وجوه أمسكت بها ، ووجوه راحت مني في زحام ذلك الزمن الهارب؟
هل سيقرأ في دموعي دمشق , مدينتي التي منحتني الصبا والعناد يوم ودعتها وقذفتُ بنفسي في مستنقع الغربة ؟
ذلك الرجل المكب بوجهه فوق عدسة المجهر , هل سيقرأ في دموعي حكايتي ؟ وهل يرتجف جسده ضحكا مني من غباء أسميته "حباً"، وانهيارات أسميتها تجارب؟!
ترى هل ينبت الذين نحبهم داخل دموعنا ، وهل يسبحون في بحرها المالح كما الأسماك تسبح في أعماق المحيط ؟
ترى هل تسجل دموعنا زلازل أعماقنا وفواجعنا بحيث تبقى دوائرها مرتسمة ، هادئة حينا وصاخبة حينا وهل ...وهل ؟ ..
**
وإذا زرع المحلل دموعي ( كما يزرعون الدم ويحللونه ) , فوجه من سينبت فيه ؟ ..أسم من ؟ ..أسم "أين" ؟
أسم أي مدينة غير دمشق ؟ مالون الدمع تحت المجهر ؟ .. المحزونون مثلي ؟ هل يمكن لدمعهم أن يكون له لون
غير لون الدم ؟
ترى هل سيكون لدمعي صوتٌ تحت المجهر ؟ .. صوت شلال التمرد وصرخة الحرية والشهية إلى الحياة ؟..
ذلك المحلل المسكين , ألن تخيفه قطرة دمع واحدة من عيني بكل ماتختزله من أهوال وحَيَوات وجنون وأهواء ونزوات ؟ ..
بكل مافيها من لون النزف وصوت الاحتضار والولادة في آن واحد ..ورائحة لحظة التقاء الشروق بالغروب , ساعة الذنب ؟
وإذا كنت دمعة واحدة تختصرني وتكتشفني تحت المجهر , ألن ينطلق المحلل هارباً , راكضاً في الشوارع وقد نبشتُ بجراحي جراحه ؟
***
في اليوم الموعود ذهبت لإحضار نتيجة التحليل , تخيلت انه سيدفع إلي بعدة مجلدات فيها حكايات عمري التي لا يعرفها احد غير دمعي ؟
و فوجئت بصفحة بيضاء وعبارة واحد تتوسطها :
" الدمع خالي من كل شيء" !!!
لم تذكر الورقة , التي تحمل نتيجة تحليل دموعي أي شيء غير حساسيتي لأحد المركبات الكيميائية ...
أما بقية "حساسيات عمري" فلم تلحظها .
ما أشد قصور العلم والمجهر والتكنولوجيا وأهله أمام قطرة دمع أنساني واحدة هي بحر من الأسرار! لا ، لم تذكرنتيجة التحليل أية أسماء ..
أية حكايا.. أي توق .. أي هذيان .. أي جنون.. أية سكينة .. لم تذكر أية تواريخ ,
حتى ولا تواريخ كهذه مثلاً :
5 حزيران 1967
ص 44 – ختم الذاكرة بالشمع الأحمر – غادة السَمَّان