تحصيل عظيم الأجر لطالب ليلة القدر
إعداد: علي بن محمد أبو هنية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فإن الله عز وجل يختار ما يشاء من الأشخاص والذوات, كما يختار سبحانه من الأمكنة والأوقات, فالخلق خلقه, والأمر أمره, ولا إله غيره.
ومن هذه الأزمنة الجليلة التي اختارها ربنا جل وعلا؛ ليلة القدر, كما اختار سبحانه من الشهور شهر رمضان, ومن الأيام يوم الجمعة, وأيام عشر ذي الحجة, ومن الساعات آخر ساعة يوم الجمعة, وساعة السحر,...وغيرها. فليلة القدر هي خير الليالي على الإطلاق, وأفضلها بلا شقاق, ليلة اختارها الله سبحانه واصطفاها, وجعل العبادة فيها وحدها, خير من العبادة في سنوات عديدات ليس فيهن مثلها, فما أعظمها من ليلة, وما أعظم فضل الله سبحانه على هذه الأمة بأن جعلها من خصائصها التي ليست لأحد قبلها, لكي ينالوا بها الدرجات الرفيعة, والمقامات العالية البديعة, فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
فتعالَ معي أيها القاريء الكريم نتأمل سوياً ما تحويه هذه الليلة العظيمة المجيدة, من معاني وفضائل عديدة, وأحكام هامة تتعلق بها, لأن من لم يعرف فضل الشيء وقدره زهد فيه, ولم يعطه حقه كما يقتضيه.
سبب تسميتها بليلة القدر:
قال النووي ـ رحمه الله ـ: "قال العلماء: وسميت ليلة القدر لما يكتب فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السنة كقوله تعالى: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) [الدخان : 4], وقوله: (تنزَّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) [القدر:4]. ومعناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم لفعل ما هو من وظيفتهم وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وتقديره له. وقيل: سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها وأجمع من يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر". "شرح صحيح مسلم" (2/822)
سبب أهميتها:
يكمن سبب أهمية وأفضلية ليلة القدر في أمرين اثنين:
1ـ أن القرآن نزل فيها جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا, ثم نزل من السماء الدنيا على نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة. قال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر): أي القرآن.
2ـ أن الله عز وجل يقدر فيها مقادير الخلائق الحولية ـ أي السنوية ـ. قال تعالى: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) [الدخان : 4]: "قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : "يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت أو حياة ورزق ومطر, حتى الحُجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان". وكذا قال الحسن, وسعيد بن جبير, ومقاتل, وأبو عبد الرحمن السلمي, وغيرهم". ( أعلام السنة المنشورة/159)
فضلها:
ثبت فضل هذه الليلة العظيمة في الكتاب والسنة الصحيحة, بل إنَّ في كتاب الله جل وعلا سورة كاملة هي "سورة القدر".
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ: " قال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: بلغني عن مجاهد: ليلة القدر خير من ألف شهر قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر. رواه ابن جرير, وعن مجاهد: ليلة القدر خير من ألف شهر: ليس في تلك الشهور ليلة القدر. وهكذا قال قتادة بن دعامة, والشافعي, وغير واحد. وقال عمرو بن قيس الملائي: عمل فيها خير من عمل ألف شهر. وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر هو اختيار ابن جرير وهو الصواب لا ما عداه, وهو كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( رباط ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة فيما سواه من المنازل ) رواه أحمد. وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة ونية صالحة أنه يكتب له عمل سنة؛ أجر صيامها وقيامها. إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك".اهـ "تفسير ابن كثير"(4/531)
ويقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". متفق عليه
ومعنى هذا الحديث: أن من أحيا هذه الليلة بسائر العبادات, مؤمناً بفضلها, مصدقاً بعظم منزلتها, مخلصاً لله في عبادته فيها, غير متضجر ولا متأفف منها, وغير طالب لمدح الناس ولا ثنائهم عليه, ولا مراءٍ لهم؛ نال الأجر الجزيل المذكور في الحديث وهو غفران ذنوبه السالفة. نسأل الله من فضله.
تحديد وقتها:
اختلفت أقوال أهل العلم في تحديدها, نظراً لاختلاف الأدلة من السنة الصحيحة في ذلك؛ فمن قائل إنها في ليلة إحدى وعشرين, ومن قائل إنها في ليلة ثلاث وعشرين, ومن قائل إنها في ليلة سبع وعشرين, بل منهم من قال إنها في ليلة أربع وعشرين وهذا القول الأخير غير معتبر لمخالفته للأدلة الصحيحة أنها في الوتر من الأواخر, وكذلك الحديث فيها لا يصح, ومن أهل العلم من قال: إنها تنتقل في الوتر ـ أي في الليالي الفردية ـ من العشر الأواخر, فتأتي في كل سنة في ليلة تختلف عن السنة الأخرى, ولعل هذا القول هو أقرب الأقوال إلى الحق وأصوبها, لعموم الأحاديث الآمرة بإحياء الوتر من العشر الأواخر جميعاً, وكذلك هو القول الذي يلتئم به شمل الأحاديث بمختلف دلالاتها, دون تقديم حديث منها على الآخر, أو إسقاطٍ لأيٍّ منها.
قال الترمذي ـ رحمه الله ـ: "وروي عن أبي قلابة أنه قال: ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر. حدثنا بذلك عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة بهذا". اهـ (الترمذي/792).
قال ابن كثير رحمه الله: " وهذا الذي حكاه ـ الترمذي ـ عن أبي قلابة نص عليه مالك والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والمزني وأبو بكر بن خزيمة وغيرهم, وهو محكي عن الشافعي نقله القاضي عنه وهو الأشبه والله أعلم.... وقال: وقد حكي عن مالك رحمه الله أن في جميع ليالي العشر تطلب ليلة القدر على السواء لا يترجح منها ليلة على أخرى رأيته في شرح الرافعي رحمه الله". "تفسير ابن كثير"(4/534)
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: "وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن ليلة القدر في كل رمضان ليلة إحدى وعشرين, وذهب آخرون إلى أنها ليلة ثلاث وعشرين في كل رمضان, وذهب آخرون إلى أنها ليلة سبع وعشرين في كل رمضان, وذهب آخرون إلى أنها تنتقل في كل وتر من العشر الأواخر؛ وهذا عندنا هو الصحيح إن شاء الله... وقال: وهي عندنا تنتقل وبهذا يصح استعمال الآثار المرفوعة وغيرها وبالله التوفيق".اهـ "التمهيد" (23/63)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه, ثم في أوتاره, لا في ليلة منه بعينها، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها". اهـ "فتح الباري"(4/260)
قلت: وخاصة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر بتحريها في الوتر من العشر الأواخر ولم يعين, وكذلك يكون هذا أدعى للمؤمن للاجتهاد في العبادة في ليالي الأواخر كلها, لا في ليلة بعينها, فيكون بذلك قد أصاب خيراً كثيراً, وفضلاً كبيراً.
الحكمة من إخفائها:
أخفى الله عز وجل عنا علم هذه الليلة ليكون ذلك أدعى للمؤمن لأن يزداد من الطاعة والعبادة, ولا يقتصر على قيام ليلة واحدة فقط, بل يجتهد في سائر ليالي العشر الأواخر.
عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليخبرنا بليلة القدر, فتلاحى رجلان من المسلمين, فقال: (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت, وعسى أن يكون خيراً لكم؛ فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة). رواه البخاري. تلاحى: أي تخاصم وتجادل.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: " قوله (فرفعت) أي رُفع علم تعيينها لكم, لا إنها رُفعت بالكلية من الوجود كما يقوله جهلة الشيعة, لأنه قد قال بعد هذا: (فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة).
وقوله : (وعسى أن يكون خيراً لكم) يعني عدم تعيينها لكم, فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محالِّ رجائها فكان أكثر للعبادة, بخلاف ما إذا علموا عينها فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط. وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها, ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر ولهذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده". "تفسير ابن كثير"(4/534)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "لأن ليلة القدر لو عينت في ليلة بعينها, حصل الاقتصار عليها, ففاتت العبادة في غيرها, وكان هذا هو المراد بقوله: (عسى أن يكون خيراً لكم)". "فتح الباري"(4/ 259)
الاجتهاد في طلب ليلة القدر:
يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( تحَرَّوْا ليلة القَدْر في العَشْر الأواخر من رمضان). متفق عليه
قال ابن الأثير رحمه الله: "أي تعَمّدُوا طَلبهَا فيها. والتَّحرِّي: القَصْد والاجتهاد في الطلب, والعَزْم على تَخْصِيص الشيء بالفعل والقول". "النهاية"(1/ 376) فالتحري يكون في العشر الأواخر جميعاً لا في ليلة بعينها, وهذا هو الاجتهاد في طلبها.
ويستحب الإكثار فيها من الدعاء الذي أمرنا به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ , فعن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر, ما أقول فيها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفوُ تحب العفو فاعفُ عني). (السلسلة الصحيحة/3337)
علاماتها:
هناك علامات وأوصاف تعرف بها ليلة القدر, أخبرنا بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك:
1ـ عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (صبيحة ليلة القدر تطلع الشمس لا شعاع لها كأنها طَسْت حتى ترتفع). (صحيح الجامع/ 3754) الطَّسْت: الإناء من النحاس
2ـ عن واثلة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( ليلة القدر ليلة بلجة لا حارة ولا باردة, ولا يرمى فيها بنجم, ومن علامة يومها تطلع الشمس لا شعاع لها ). (صحيح الجامع/5472)
3ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( ليلة القدر ليلة سمحة طلقة لا حارة ولا باردة تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء ). (صحيح الجامع/ 5475) ليلة سَمْحةٌ طَلْقة: أي سَهْلة طَيِّبة إذا لم يكن فيها حرٌّ ولا بَرْد يُؤْذِيَان.
ومن الخرافات التي تحاك عن ليلة القدر: أنها لا تسري نجومها, و لا تنبح كلابها, وأنها لا سحاب فيها ولا مطر ولا ريح, وأن يُرى فيها كل شيء ساجداً, وأن ترى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة, وأن يُسمع كلام الملائكة, وأن تفتح فيها السماء. فكل هذه أمور لا تصح.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
منقووول