بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء : 48]
وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة : 72]
إن الشرك عباد الله هو صرف العبادة لغير الله حبّاً لهذا المعبود وخوفاً منه معتقداً فيه النفع والضرّ من دون الله تعالى
سواء اعتقد المشرك أن هذا المعبود ينفعه أو يضرّه استقلالاً م دون الله تعالى أو يصرف له العبادة من دون الله تعالى ليكون له شفيعاً وواسطة عند الله تعالى.
والنوع الثاني هو الشرك الذي وقع فيه مشركوا قريش والعرب قبل الإسلام.
قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس : 18]
وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر : 3]
وأعظم الشرك هو دعاء غير الله تعالى, فالدعاء حقّ خالص لله تعالى, لا يجوز صرفه لغيره, عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِرٍ: 60]
رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح
فاعلموا عباد الله أن الأرزاق ملك الله فلا تسألوها إلّا من الله, والغنى والفقر والصحة والمرض والعافية والبلوى والسعادة والشقاوة والهداية والضلالة والجنّة والنّار كلها ملك الله
فلا يهب الغنى والصحة والعافية والسعادة والهدى والجنّة إلّا الله فلا تسألوها إلّا من الله
ولا يدفع الفقر والمرض والبلوى والشقاوة والضلالة والنّار إلّا الله فلا تطلبوا دفعها إلّا من الله.
وقد نهانا ربنا تبارك وتعالى عن دعاء غيره فقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن : 18]
وقد ذم الله المشركين في دعائهم غير الله تعالى فقال عزّ من قائل: {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج : 12 – 13]
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف : 4]
وفي هذا الآية أعظم دليل على أن من لا يستطيع أن يخلق شيئاً ولا يملك مع الله شيئاً لا يستحق العبادة ولا يستحق أن يدعى من دون الله تعالى, أيّاً يكن هذا المدعو, لا ملك مقرّب ولا نبيٌّ مرسل ولا رجل صالح فضلاً عن الأشجار والأحجار.
وفيه يطالب الله تعالى المشركون الذين يدعون الملائكة أو الأنبياء أو المشايخ أو الجن أو الأحجار والأشجار, بأن يأتوا بالدليل على جواز دعائهم غيره فقال تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
وقد أمر الله تبارك وتعالى نبيه أن يتبرأ مما يفعله المشركون من دعاء غير الله تعالى فقال تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر : 66]
إن الله تبارك وتعالى يأمركم في هذه الآيات أن تفردوه بالدعاء, ولم يقل ادعوا الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين أو المشايخ, أو ادعوا النبي صلى الله عليه وسلم أو أحداً من أهل بيته, بل أمركم بدعاءه وحده لا شريك له.
ومن دعا غير الله فقد أشرك والعياذ بالله, سواء كان هذا المدعو ملكاً أو نبيّاً أو شيخاً أو جنّيّاً أو شجراً أو حجراً؛ لأن هؤلاء جميعاً لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً فكيف يملكونه لغيرهم؟!
قال الله تعالى مخاطباً نبيه وخليله وخاتم أنبياءه محمداً صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن : 20 – 23]
أي: إنما أنت يا محمّد مبلغ تبلّغ الناس ما أرسلك الله به.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قَالَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا" اهـ
رواه البخاري ومسلم.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو خليل الرحمن وصفوته من خلقه وخاتم أنبياءه وسيّد الأولين والآخرين لا يملك لنفسه ولا لنا نفعاً ولا ضراً في حياته فكيف بعد مماته! فما بالكم بمن هو دونه من الأنبياء والصالحين والمشايخ والرؤساء أو الملائكة هل يعقل أن يملكوا لنا ما لا يستطيع نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يملكه لنفسه فضلاً عن أن يملكه لنا؟!
كما أمرنا ربنا بأن نستعين به ونستغيث به ونستعيذ به في جميع أمورنا, صغيرها وكبيرها قليلها وكثيرها,
قال الله تعالى مخبراً عن عباده المؤمنين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة : 5]
وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال : 9]
وقال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف : 128]
وقال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران : 36]
فهذه هي صفات المؤمنين المخلصين من عباد الله تعالى, لا يستعينون ولا يستغيثون ولا يستعيذون إلّا به في جميع أمورهم.
عباد الله إنه لا يعني قولنا أن نفرد الله تعالى بالاستغاثة والاستعانة والاستعاذة أن نبطل الأسباب التي خلقها الله لنا لنتسبب بها, فإن الإستعانة والإستغاثة والاستعاذة بالمخلوقين فيما يقدر عليه المخلوق من أمور الدنيا جائز شرعاً, ولكن تؤمن إيماناً صادقاً أن استعانتك واستغاثتك واستعاذتك بالمخلوقين إنما هو من قبيل التسبب لقضاء حوائجك, وتؤمن إيماناً صادقاً أن هذه الأسباب لا تنفع ولا تضر إلّا بأمر الله تعالى, فإذا يسّر الله لك شيئاً يسر لك أسبابه وإذا منعك شيئاً منع عنك أسبابه.
وقد أجمع علماء الإسلام المعتبرين أنه لا يجوز الاستعانة والاستغاثة والاستعاذة بالمخلوقين إلّا إذا توفرت فيهم ثلاث شروط:
أولها: أن يكون حيّاً لا ميّتاً
وثنيها: أن يكون حاضراً لا غائباً
وثالثها: أن يكون قادراً على إعانتك مما يستطيع المخلوقون عادة أن يعينوك عليه من أمور الدنيا.
عن أبي ذر رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فيما روى عن الله تبارك وتعالى، أنه قال :"يَا عِبَادِي: إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي, وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ" اهـ
قال سعيد بن عبدالعزيز: كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
فاعلموا أن كل شيء بيد الله, وأن الهداية ليست بيد الأنبياء فضلاً عن المشايخ والعلماء, بل هي بيد الله عز وجل, فلا تسألوا الهداية إلّا من الله تعالى وحده لا شريك له, وهو سبحانه من سوف يهديكم بأي سبب من الأسباب, قد يكون هذا السبب عالماً صالحاً أو شيخاً فاضلاً أو كتاباً أثرياً أو غير ذلك مما يشاء الله تعالى.
عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يَا غُلَامُ, إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ, إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" اهـ
رواه الترمذي وأحمد.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.