الأسد أو لا أحد/ الأسد أو نحرق البلد: نظام العدمية السياسية
ياسين الحاج صالح
أشعر بافتتان خاص بشعار "الأسد أو لا أحد". بقدر ما هو إجرامي، فإنه مثير للإعجاب في وضوحه؛ وبقدر ما هو شعار مباشر وبسيط، فإنه يكثف الفلسفة السياسية للحكم الأسدي؛ وهو شعار عدمي بقدر ما هو شعار وجودي. هذه تأملات في هذا الشعار الفاتن، وفي شروط إمكانه السياسية.
لم يعرف تاريخ سوريا المعاصر شعاراً ولد في سياق الممارسة، ولم يسبقها، ويحوز من ثمّ صدقية كاملة من هذه الممارسة، أكثر من شعار "الأسد أو لا أحد"! أو توأمه: "الأسد أو نحرق البلد"! الشعار جذّاب، مدهش في صدقه ووقاحته وتطرفه، فريد في انضباط التطبيق به طوال عام ونصف العام، وفي تكثيفه نظرية النظام السوري وممارسته في آن واحد.
تفترض النظرية بلداً اسمه "سوريا الأسد"، يتصرف فيه صاحبه، "الأسد"، كما يفعل صاحب ملك بملكه. لا يقتل جميع الناس، لكنه يقتل كثيرين بما يُبقي الجميع غير آمنين على حياتهم. لا يحبس جميع الناس، لكنه يحبس كثيرين بحيث يحمل الجميع الحبس في دواخلهم أينما يكونون. لا يعذّب جميع الناس، لكنه يعذّب كثيرين بحيث يروّع الجميع ويسكن الخوف في قلوبهم. ولا يهين جمع السوريين، لكنه يهين أعداداً كبيرة جدا منهم، بحيث تنكسر عيون الجميع ولا يرفع أحد رأسه. ولا يفسد الجميع مباشرةً، لكن يفسد كثيرين بحيث يأسر الجميع في دائرة الفساد، وييأس الجميع من أي صلاح.
ينجح صاحب "سوريا الأسد" في تحقيق ذلك عبر امتلاكه آلة اسمها "الدولة"، تتولى القتل والحبس والتعذيب والإذلال والإفساد، وأشياء أخرى. وهي تتكفل تعميم تلك الأفعال والأوضاع من دون أن تطال السوريين فرداً فرداً. القتل عام والفساد عام والحبس عام والتعذيب عام بعمومية الآلة التي يملكها الصاحب.
من الأشياء الأخرى المهمة التي تقوم بها الآلة- الدولة، تقرير استثنائية صاحب الدولة وندرته، وتوفير الشواهد على أنه بطل وحكيم وعبقري، البطل والحكيم والعبقري، وعلى التماهي التام بين البلد وبينه. شرعية حكم الصاحب تقوم على فرادته واستثنائيته وتفوّقه على غيره، وليس على قاعدة عامة تجمعه بغيره وتشمله مع غيره، بحيث يمكن لغيره أن يحل محله.
هذه الشرعية تشبه ظاهرياً فقط الشرعية القائمة على الكاريزما التي تكلم عليها ماكس فيبر. فالأمر هنا لا يتعلق بهبة طبيعية أو جاذبية شخصية مجربة، سابقة للاستيلاء على الدولة، بل بصناعة كاريزما تالية للاستيلاء، تعتمد على القسر والتلقين الذي لا يكلّ عبر أجهزة الدولة.
لا تختلف هذه الشرعية عن الشرعية العقلانية البيروقراطية للدولة الحديثة بحسب فيبر نفسه، بل هي نقيضتها التامة. فهي تقوم على العبقرية والفرادة والاستثناء، أي على الفلتة لا على القاعدة، وعلى خرق القانون لا على القانون، وعلى الإعجاز وخرق المعقول لا على العقل العام. وهي لذلك شرعية شخصية، لصيقة بشخص الحاكم، أي بكيانه وخصوصيته. ولذلك أيضاً، هذه الشرعية قابلة للتوريث، بل هي واجبة التوريث. ليست وراثة بشار لأبيه الخارق شيئاً جائزاً أو لا بأس به، بل هي واجب، ومعيار لوطنية السوريين وسلامة سوريا. فقبل أن يكون الأسد اسماً للسلالة التي أسسها حافظ وورثها بشار، ويفترض أن يرثها ابن بشار يوماً، هو اسم لسوريا ذاتها ولحظّها الرائع في أن تحظى به رئيساً.
ثم إن الأسد اسم للنظام. والنظام هو "وطن" الموالين، وبخاصة النواة الأمنية الطائفية التي تتجاوز علاقتها به (بالنظام) الولاء إلى مستوى التماهي.
في إضافة سوريا إلى الأسد في عبارة "سوريا الأسد"، حجب لهذه النواة الأمنية الطائفية، وإضفاء صفة وطنية عامة عليها، تفيد في رفع الغطاء السوري العام عن أي معارضين محتملين. "سوريا الأسد" برنامج سياسي غرضه تجريد المعارضين من أي شرعية وطنية. المعارض في "سوريا الأسد" خائن، لأن "سوريا الأسد" هي سوريا، أو لأنه ليس هناك سوريا غير "سوريا الأسد". سوريا الأخرى، اللاأسدية، غير موجودة وغير ممكنة الوجود. وجودها قبل استيلاء حافظ الأسد عليها، يشرح ذلك النزوع الثابت عند النظام إلى جعل "الحركة التصحيحية المباركة" مبتدأ التاريخ، والإغفال التام لما قبله، بخاصة تاريخ سوريا ما قبل البعثي. فإذا كان هناك سوريا ما قبل بعثية وما قبل أسدية، فلا شيء يمنع وجود سوريا ما بعد أسدية وما بعد بعثية. هذا خطير. والحل هو أن سوريا ما قبل الأسدية لم تكن موجودة. كان هناك زمن وحشي مغمور ولا يستحق الذكر، كانت سوريا فيه بلداً بدائياً تتناهبه الفوضى. حافظ الأسد هو "باني سوريا الحديثة".
من هذا الباب ليست الرابطة بين العام، سوريا، والخاص، الأسد، رابطاً تاريخياً عارضاً، بل رابط منطقي ضروري. لذلك فإن فصم هذا الرابط يعادل تدمير الكيان. حين لا تكون سوريا سوريا الأسد فإنها لا تكون. الأسد أو لا أحد، تالياً، ليس إنذارا أو عبارة إيعازية فقط، وإنما يمكن أن تفهم كعبارة تقريرية، تفيد أن سوريا والأسد واحد، وأنها ممتنعة من دونه.
لكن عبارة "سوريا الأسد" تخفي وراء وضوحها التام أن سوريا ملك لأسرة، قابل للتوريث كأي ملك، وأنه للدوائر الأقرب من هذه الأسرة مكانة خاصة في سوريا. القريبة بمنطق القرب من الأسر، أي بمنطق القرابة. "سوريا الأسد" ليس برنامجاً غير مؤهل لنصب أي حواجز في وجه العشيرة والطائفة، بل هو البرنامج الذي يحول العشيرة والطائفة إلى الآلية الخفية، والظاهرة بالفعل لمن يريد أن يرى، لعمل النظام.
من باب الرابطة الكيانية بين الأسد وسوريا، فإن الصراع بين "سوريا الأسد" والثورة بوصفها وعداً بسوريا مغايرة هو صراع وجودي. هذا ما قاله النظام مراراً وتكراراً بكلمات واضحة، منها ما صرّح به وليد المعلّم في تموز من أنه لا حوار قبل القضاء على "الإرهابيين"، أي على السوريين الذين يقاومون النظام. وهو ما قاله بشار الأسد أيضا في أواخر آب الفائت حين رهن مصير "الوطن" بمصير نظامه، يسميه "الدولة" كما هو متوقع.
لكن لا الوزير المعلّم ولا معلّمه يمكن أن يحاكيا في البلاغة والتكثيف والإيجاز، الإعجاز حقاً، شعار الأسد أو لا أحد! أو توأمه: الأسد أو نحرق البلد! بلاغة الشعار بصيغتيه تتعارض أولاً وقبل كل شيء مع ذلك اللغو الكثير الذي يتفوّه به جميع الناطقين باسم النظام. ولا يزيد الشعار المقفّى والسهل الانتشار إلا إعجازاً أنه لا ينسب إلى شخص محدد، وأنه يبدو مصوغا على شاكلة الأمثال الشعبية التي تكثف خبرة عريقة، تكاد تكون لا تاريخية. "أصلية"، أو بدائية. الواقع أنه شعار "شعبي" فعلاً، لن نجده في الإعلام الرسمي، وهو التعبير الأشد فظاظة عن التماهي بالنظام الذي يميّز ظاهرة الشبّيحة.
الصفة البدائية لظاهرة الشبّيحة، مزيج العنف والعشيرة والكراهية تحديداً، هي ما تنتج شعاراً "أصلياً" ووجودياً من هذا النوع. الشبّيحة هم غريزة النظام أو لا شعوره السياسي. وفيهم يتجسد حس الخطر ونازع البقاء. وهم يكثّفون حسّهم بالخطر الوجودي الذي تمثّله الثورة في هذا الشعار العريق. الطابع الأصلي للصراع السوري اليوم، وبالتحديد الطابع المطلق والبدائي لحرب النظام ضد الثورة والمجتمع السوري، يوافق تماماً الطابع البدائي لظاهرة الشبّيحة.
الصفة العدمية الجوهرية لشعار "الأسد أو لا أحد" هي التلخيص الأمثل للصفة الوجودية للصراع بين السوريتين. الصراع الوجودي، هنا والآن، على نحو ما يخوضه النظام السوري هو عينه الصراع العدمي، صراع الكائن الذي يفترض أن حياة الخصم تعني موته هو، ووجوده يقتضي فناء الخصم. وهو الصراع الذي ينفي السياسة لمصلحة الحرب. وليس أي حرب، بل الحرب المطلقة التي لا تستهدف تغيير سلوك الخصم، بل إبادته ومحوه من الوجود. لم يفتح النظام قط باباً للسياسة أو التفاوض بالضبط لأنه يخوض حرباً وجودية، أي عدمية، ويعتبر أن الثورة هي العدوّ الذي يتعيّن إعدامه. السياسة تفترض مبدئياً أن الحلول الوسط ممكنة، أن "الأسد" ليس "الأحد" كي لا ينتصب أمامه إلا اللاأحد، بل هو أحد ما بين آحاد، طرف ما بين أطراف. الشعار يقول بجلاء الأسد لا ندّ له، ولا مساواة ممكنة معه، فإن تعرّض للتحدي على ما هو جار اليوم، فسوف يجري حرق البلد بحيث يصبح غير قابل للحكم من أيٍّ كان. ولا شيء في ممارسة النظام يتعارض مع هذا البرنامج العدمي.
من جهة النظام ليست الحرب أداة سياسية، أو "استمراراً للسياسة بوسائل مختلفة". الحرب هي سياسة النظام، وهدفها الإبادة، إبادة الخصم سياسياً وأخلاقياً بإنكار أن له قضية عامة؛ والإبادة الفيزيائية حين يرى النظام أن الأمر يقتضي. عنف النظام الأسدي بنيوي (نابع من تكوينه)، وأولي (خيار أول، وليس أخيراً) واختياري وهجومي. وهو ينبع حتمياً من علاقة الملكية والتماهي بين سوريا و"الأسد". هذه علاقة طبيعية، ومن يعتدي على الطبيعة يواجه بعنف طبيعي لا يحدّ.
لكن هل يمكن الثورة السورية أن تواجه الحرب المطلقة الأسدية، الوجودية- العدمية، من دون أن تطور هي ذاتها استعدادات عدمية؟ عدالة قضية المقاومة المسلحة السورية، وصفتها الدفاعية الجوهرية، ما زالت تحول دون انقلاب صراعها الوجودي إلى صراع عدمي. لكن هذا لم يمنع ظهور تشكيلات عدمية على هوامش الثورة، تعتبر أن الصراع (أو "الجهاد") غاية ذاته، وأنه لا سياسي ولا يقبل التسوية، ولا تاريخي ("ماضٍ إلى يوم القيامة").
نتكلم على تشكيلات بدائية وأصلية تشابه الشبّيحة، مثالها تنظيم "القاعدة" الذي قد يصحّ فيه الوصف بأنه غريزة الإسلام، صورته البدائية المتحجرة أو لا شعوره السياسي. ولعلنا لا نخطئ في وصف "القاعدة"، تنظيماً وفكراً، بأنها شبّيحة الإسلام أو شكله المطلق والعدمي، المضاد بنيوياً للحياة والدنيا. والمفرط في طائفيته وتعصبه. ولا يبعد أن بين الشبّيحتين، الأسدية والإسلامية، روابط خفية لا نعلم جميعها. هذا فوق طابعهما العنفي النخبوي، وفلسفتهما المشتركة: نحن أو العدم!
فإذا كان الشبّيحة ظاهرة فاشية تدافع عن أوضاع امتيازية، فإن "القاعدة" وأشباهها تكوينات فاشية بدورها، يمكن أن تصير بسهولة مطحنة للبشر متفوقة حتى على النظام الأسدي.
الثورة ضد قوتَي الثورة المضادة هاتين معاً. وفي تكوينها حتى اليوم ما يضاد العدمية: فهي في عمومها شعبية ودفاعية، ليست تحقيقاً لهوية ولا غضبة لعقيدة ولا دعوة إلى طوبى ولا تطبيقاً لنظرية، هي دفاع عن الحياة قبل كل شيء. ثورة شديدة الواقعية لأناس واقعيين.
ـــــــــــــــــــــ