بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تـقـلـيـد الإمــــارة عــلــى الـجـهـــاد
فأما الإمارة على الجهاد فهي مختصة بقتال المشركين ، وهي على ضربين :
أحدهـما : أن تكون مقصورة على سياسة الجيش وتدبير الحرب ، فيعتبر فيها شروط الإمارة الخاصة .
والثاني : أن يفوض إلى الأمير فيها جميع أحكامها : من قسم الغنائم ، وعقد الصلح فيعتبر فيها شروط الإمارة العامة ، وهي أكثر الولايات الخاصة أحكاما ، وأوفرها فصولا ، وحكمها إذا خلصت داخل في حكمها إذا عمت .
والذي يتعلق بها من الأحكام إذا عمت ستة :
الأول : في تسيير الجيش ، وعليه في ذلك سبعة حقوق :
أحدها : الرفق بهم في السير الذي يقدر عليه أضعفهم ، ويحفظ به قوة أقواهم ، ولا يجد السير ، فيهلك الضعيف .
الثاني : أن يتفقد خيلهم التي يجاهدون عليها فلا يدخل في خيل الجهاد كبير أو صغير ولا أعجف هزيلا ، لأنه ربما كان ضعفها وهنا ، وقد قال تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) ويمنع من حمل زائد على طاقتها .
الثالث : أن يراعى بمن معه من المقاتلة ، وهم صنفان مسترزقة ومتطوعة ، أما المسترزقة فهم أصحاب الديون من أهل الفئ ، فيفرض لهم العطاء من بيت المال بحسب الغناء والحاجة ، وأما المتطوعة فهم الخارجون عن الديون من البوادي وسكان القرى والأمصار ، الذين خرجوا في النفير اتباعا لقوله تعالى (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله )
وقد قيل في تأويل قوله تعالى (خفافا وثقالا) أربعة أوجه :
أحدها : شبانا وشيوخا ، قاله الحسن وعكرمة .
والثاني : أغنياء وفقراء ، قاله أبو صالح .
الثالث : ركبانا ومشاة ، قاله أبو عمرو
الرابع : ذا عيال ، وغير ذي عيال ، قاله الفراء .
وقد قيل : إن هؤلاء يعطون من الصدقات ولا يعطون من الفئ ، من سهم سبيل الله المذكور في آية الصدقات ولا يعطون من الفئ لأن حقهم في الصدقات ولا يعطى أهل الفئ المسترزقة في الديوان من مال الصدقات لأن حقهم في الفئ .
وظاهر كلام أحمد رحمه الله يقتضي جواز صرف كل واحد من المالين إلى كل واحد من الفريقين بحسب الحاجة ، فقال في رواية الأثرم (يحمل من الزكاة في السبيل ، قال تعالى "وفي سبيل الله" قال : وبلغني أن قوما يقولون : لا يحمل منها في السبيل ، لا أدري يعني لأي شئ يذهبون ) .
وقال في رواية عبد الله في الغني (إذا خرج في سبيل الله "يأكل من الصدقة" فقد أجاز دفعها في سبيل الله ، ولم يفرق بين أهل الديوان وبين المتطوعة ، واحتج بالآية ، وهي عامة .
الرابع : أن يعرف على الفريقين العرفاء ، وينقب عليهم النقباء ليعرف من عرفائهم ولقبائهم أحوالهم ، ويقربون عليه إذا دعاهم ، قد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه ، وقال تعالى ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) .
قيل : إن الشعوب : النسب الأبعد ، والقبائل : النسب الأقرب ، قال مجاهد .
وقيل الشعوب : عرب قحطان ، والقبائل : عرب عدنان ، وقيل الشعوب : بطون العجم ، والقبائل : بطون العرب .
والخامس : أن يجعل لكل طائفة شعارا يتداعون إليه ليصيروا به متميزين ، وبالاجتماع فيه متظاهرين ، وقد روى عروة بن الزبير عن أبيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شعار المهاجرين : يا بني عبد الرحمن ، وشعار الخزرج : يا بني عبد الله ، وشعار الأوس : يا بني عبيد الله ، وسمى خيله خيل الله .
السادس : أن يتصفح الجيش ومن فيه ، فيخرج منهم من كان فيه تخذيل للمجاهدين ، وإرجاف بالمسلمين ، أو عين عليهم المشركين ، قد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن أبي بن سلول في بعض غزواته لتخذيله المسلمين .
السابع : أن لا يمالئ من ناسبه أو وافق رأيه ومذهبه على من باينه في نسب ، أو خالفه في رأي ومذهب ، فيظهر من أحوال المباينة ماتفترق به الكلمة الجامعة ، تشاغلا بالتقاطع والاختلاف ، قد أغضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ، وهم اضداد في الدين ، وأجرى عليهم حكم الظاهر ، حتى قويت بهم الشوكة وكثر بهم العدد وقد قال الله تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) قيل فيه : المراد بالريح الدولة ، قاله أبو عبيد ، وقيل : المراد بها القوة ، فضرب الريح بها مثلا ، لأن الريح لها قوة .
ومن أحكام هذه الإمارة : تدبير الحرب .
والمشركون في دار الحرب على ضربين .
أحدهـما : من بلغتهم دعوة الإسلام ، فامتنعوا منها وتأبوا عليها ، فأمير الجيش مخير في قتالهم بين أن يبيتهم ليلاً ونهاراً بالقتل ، وبين أن يصاففهم للقتال .
والضرب الثاني من لم تبلغهم الدعوة ، وقل أن يكون اليوم قوم لم تبلغهم الدعوة ، إلا أن يكون قوم من وراءك الترك والروم في مبادي المشرق وأقاصي المغرب ، فيحرم عليه الإقدام على قتالهم غرة قبل إظهار الدعوة ، وإعلامهم معجزات النبوة ، قال تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) يعني : ادع إلى دين ربك بالحكمة ، قيل : بالنبوة ، وقيل : بالقرآن ، وقيل : والموعظة الحسنة ، بالقرآن في لين من القول ، وقيل : ما فيه من الأمر والنهي (وجادلهم بالتي هي أحسن) : أي يبين لهم الحق ، ويوضح لهم الحجة .
فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام لم يضمن ديات نفوسهم ، وكانت دماؤهم هدرا : وإذا تكاملت الصفوف في الحرب جاز لمن قاتل من المسلمين أن يعلم بما يشتهر به في الصفوف ويتميز به من جميع الجيوش ، وأن يركب الأبلق ، وإن كانت خيول الناس دهـما أو شقرا ، وقد قال أحمد في رواية حنبل (والعصائب في الحرب تستحب ، لقوله تعالى " مسو مين " وذلك لما روى عبيد الله بن عون عن عمير بن إسحاق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر ، تسوموا فإن الملائكة قد تسومت ) .
ويجوز أن يجيب إلى البراز إذا دعى إليه ، ويدعو إليه ابتداء ، نص عليه في رواية المهموني وابن مشيش : في الرجل يعرف نفسه بالجلد يدعو إلى البراز .
والوجه فيه ماروى ( أن أبي بن خلف دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فبرز إليه فقتله ) .
وأول حرب شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فرز فيها من المشركين : عتبة ابن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة ودعوا للبراز فبرز إليهم من الأنصار : عوف ومسعود ابنا عفراء ، وعبد الله بن رواحة ، فقالوا ليبرز إلينا أكفاؤنا من قومنا ، فبرز إليهم ثلاثة من بني هاشم : علي بن أبي طالب إلى الوليد فقتله ، وبرز حمزة إلى شيبة فقتله ، وبرز عبيدة بن الحارث إلى عتبة فاختلفا ضربتين ولأن في الدعاء إلى البراز قوة في دين الله تعالى ونصرة رسول الله ، وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مثله وحث عليه ، فروى محمد بن إسحاق ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر يوم أحد بين درعين ، وأخذ سيفاً فهزه وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه عمر بن الخطاب ، فأعرض عنه ، ثم قام الزبير بن العوام ، وقال : أنا آخذه ، فأعرض عنه ، فوجدا في أنفسهما ، ثم عرضه الثالثة ، وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه أبو دجانة ، سماك بن خرشة ، فقال وما حقه يا رسول الله ؟ فقال : أن تضرب به في العدو حتى ينحني ، فأخذه منه ، وأعلم بعصابة حمراء ، كان إذا أعلم بها علم الناس أنه سيقاتل ويبلي .
وتجوز المبارزة بشرطين : أحدهـما أن يكون ذا نجدة وشجاعة ، يعلم من نفسه أن لن يعجز عن مقاومة عدو ، فإن كان بخلافه منع .
والثاني : أن لا يكون زعيما للجيش ، يؤثر فقده فيهم ، فإن فقد الزعيم المدبر يفضي إلى الهزيمة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقدم على البراز ثقة بنصر الله تعالى ، وإنجاز وعده وليس ذلك لغيره .
ويجوز لأمير الجيش إذا حض على الجهاد أن يعرض للشهادة من الراغبين فيها من يعلم أن قتله في المعركة يؤثر أمرين : إما تحريض المسلمين على القتال حمية له ، أو تخذيل المشركين بالجرأة عليهم في نصر الدين ، وقد روى محمد بن إسحاق (أن رسول الله صلى عليه وسلم خرج من العريش يوم بدر ، فحرض الناس على الجهاد ، وقال : والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل ، فيقتل صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ) .
ولا يجوز قتل النساء والولدان في حرب ولا غيرها ، مالم يقاتلوا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم .
وإذا تترسوا في الحرب بنسائهم وأطفالهم ، ولم يوصل إلى قتالهم إلا بقتل النساء والأطفال جاز قتلهم ،ولا يقصدون النساء والصبيان ، وكذلك إن تترسوا بأسارى المسلمين ، ولم يتوصل إلى قتلهم إلا بقتل الأسراء ، ذكره أبو بكر في كتاب الخلاف ، وقد أومأ إليه أحمد في رواية بكر بن محمد : ( في القوم يحاصرون فيتقون بأولاد المسلمين ، ينصبونهم أمامهم ، فأحب إلي أن لا يعرض لهم ) إلا أن يخرجوا عليهم ، ويكون تركهم ضرراً للمسلمين فيرميهم ، ويجوز عقر خيلهم من تحتهم إذا قاتلوا عليها ، وقد عقر حنظلة بن أبي عامر فرس أبي سفيان ابن حرب يوم أحد ، واستعلى عليه ليقتله ، فرآه ابن شعوب فثار إلى حنظلة .
وليس لأحد من المسلمين أن يعقر فرسه ، لأنها قوة أمر الله تعالى بإعدادها في جهاد عدوه بقوله (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) وقد روى ( أن جعفر بن أبي طالب اقتحم يوم مؤتة عن فرس له شقراء حين التحم القتال ، ثم نزل عنها وعقرها ) فيحتمل أن يكون فعل ذلك لئلا يتقوى بها المشركين على المسلمين .
المرجع
الأحكام السلطانية
للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي
المتوفي 458هـ
صححه وعلق عليه المرحوم محمد حامد الفقي
من جماعة الأزهر الشريف
ورئيس جماعة أنصار السنة المحمدية
كتبه الاستاذ / مطر بن خلف الثبيتي
والسلام ختام