بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من شرح العلامة الزرقاني
أولاً : وفاة خديجة وأبي طالب :
ولما أتت عليه صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً ، مات عمه أبو طالب .
وقيل : مات في شوال السنة العاشرة .
وقال ابن الجزار : قبل هجرته عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول له عند موته : يا عم قل لا إله إلا الله ، كلمة أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة .
فلما رأى أبو طالب حرص رسول الله قال له صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي ، لولا مخافة قريش أني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها ، لا أقولها إلا لأسرك بها ، فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه ، فأصغى إليه بأذنه فقال : يا ابن أخي ، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمع ، كذا في رواية ابن اسحاق أنه أسلم عند الموت .
وأجيب بأن شهادة العباس لأبي طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة ولم ترد بقوله عليه الصلاة والسلام لم أسمع ، لأن الشاهد العدل إذا قال سمعت وقال من هو أعدل منه : لم أسمع أخذ بقول من أثبت السماع ، ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم .
مع أن الصحيح من الحديث قد أثبت لأبي طالب الوفاة على الكفر والشرك ، كما رويناه في صحيح البخاري من حديث سعيد بن المسيب حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب ، وأبي أن يقول : لا إله إلا الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } (التوبة:113) ، وأنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله : {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } (القصص :56) .
وفي الصحيح عن عباس أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك ، فهل ينفعه ذلك ؟ قال : نعم ، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح .
وفي الصحيح أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه .
وفي رواية يونس عن ابن اسحاق زيادة فقال : يغلي منه دماغه حتى يسيل على قدميه .
قال السهيلي : من باب النظر في حكمة الله تعالى ، ومشاكلة الجزاء للعمل أن أبا طالب كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجملته متحيزاً له ، إلا أنه كان متثبتاً لقدميه على ملة عبد المطلب ، حتى قال عند الموت : أنا على ملة عبد المطلب ، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهـما على ملة أبائه ، ثبتنا الله على السراط المستقيم .
وفي شرح التنقيح للقرافي : الكفار على أربعة أقسام ، فذكر منها من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع ، كما حكي عن أبي طالب أنه كا يقول : إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق ، ولولا أخاف أن تعيرني نساء قريش لاتبعته ، وفي شعره يقول :
لقد علموا أن ابننا لا مكذب يقينا ولا يعزي لقول الأباطل
قال فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن .
وحكي عن هشام بن السائب الكلبي ، أو أبيه أنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جمع إليه وجوه قريش ، فأوصاهم فقال :
يا معشر قريش ، أنتم صفوة الله من خلقه إلى أن قال : وإني أوصيكم بمحمد خيراً ، فإنه الأمين في قريش ، والصديق في العرب ، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به ،وقد جاءنا بأمر قلبة الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن ، وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب ، وأهل الأطراف والستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته ، وصدقوا كلمته ، وعظموا أمره ، فخاض بهم غمرات الموت ، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً ودورها خرابًا ، وضعفاؤها أربابًا ، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه ، وأبعدهم منه أحظاهم عنده ، قد حضته العرب ودادها ، وأصفت له فؤادها ، وأعطته قيادها ، يا معشر قريش ، كونوا له ولاة ، ولحزبه حماة ، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد ، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد ، ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز ، ولدفعت عنه الدواهي ، ثم هلك .
ثم بعد ذلك بثلاثة أيام – وقيل : بخمسة ، في رمضان بعد البعث بعشر سنين على الصحيح ، ماتت خديجة رضي الله عنها .
وكان عليه الصلاة والسلام يسمى ذلك العام عام الحزن ، فيما ذكره صاعد وكانت مدة إقامتها معه خمساً وعشرين سنة على الصحيح .
ثم بعد أيام من موت خديجة تزوج عليه السلام بسودة بنت زمعة .
ثانياً : خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
ثم خرج عليه السلام إلى الطائف بعد موت خديجة بثلاثة أشهر ، في ليال بقين من شوال ، سنة عشرة من النبوة ، لما ناله من قريش بعد موت أبي طالب ، وكان معه زيد بن حارثة .
فأقام به شهراً ، يدعو أشراف ثقيف إلى الله فلم يجيبوه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه .
قال موسى بن عقبة : ورموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدماء ، زاد غيره : وكان إذا أزلقته الحجارة قعد إلى الأرض ، فيأخذون بعضديه فيقيمونه ، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون ، وزيد ابن حارثة يقيه بنفسه ، حتى لقد شج في رأسه شجاجاً .
وفي البخاري ومسلم من حديث عائشة أنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد ؟ قال : لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق مما أنا فيه إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك ، وما ردوا به عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت ، فناداني ملك الجبال ، فسلم علي ثم قال : يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجوا أ، يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له .
وعبد ياليل – بتحتانية وبعدها ألف ثم لام مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم لام – ابن عبد كلال – بضم الكاف وتخفيف اللام آخره لام ، وكان ابن عبد ياليل من أكابر أهل الطائف من ثقيف .
وقرن الثعالب : هو ميقات أهل نجد ، ويقال له قرن منازل .
وأفاد ابن سعد : أن مدة إقامته عليه الصلاة والسلام بالطائف كانت عشرة أيام .
ولما انصرف عليه السلام عن أهل الطائف ولم يجيبوه ، مر في طريقه بعتبة وشيبة ابني ربيعة وهـما في حائط لهما ، فلما رأيا ما لقي تحركت له رحمهما ، فبعثا له مع عداس النصراني – غلامهما – قطف عنب ، فلما وضع عليه الصلاة والسلام يده في القطف ، قال : بسم الله ، ثم أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة ، فقال له صلى الله عليه وسلم : من أي البلاد أنت وما دينك ؟ قال النصراني من نينوي ، فقال له النبي : من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال : وما يدريك ؟ ، قال : ذاك أخي ، وهو نبي مثلي ، فأكب عداس على يديه ورأسه ورجليه يقبلها وأسلم .
ثالثاً : ذكـــــــر الـجـــــــــــــن
ولما نزل نخلة – وهو موضع ليلة من مكة – صرف إليه سبعة من جن نصيبين – مدينة بالشام - وكان عليه السلام قد قام في جوف الليل يصلي فاستمعوا له وهو يقرأ صورة الجن .
وفي الصحيح أن الذي آذنه صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة الجن شجرة وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدكم أو فرما كان لحماً ، وكل بعر علف لدوابكم .
وفي هذا رد على من رغم أن الجن لا تأكل ولا تشرب .
وذكر صاحب الروض من أسماء السبعة الذين أتوه عليه السلام ، عن ابن دريد : منشى وناشى وشاصر وماصر والأحقب ، لم يزد على تسمية هؤلاء .
قال الحافظ ابن كثير : وقد ذكر ابن إسحاق خروجه عليه السلام إلى أهل الطائف ودعاءه إياهم ، وأنه لما انصرف عنهم بات بنخلة ، فقرأ تلك الليلة من القرآن ، فاستمعه الجن من أهل نصيبين .
قال : وهذا صحيح ، لكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك اللية فيه نظر ، فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء ، ويدل له حديث ابن عباس عند أحمد قال ، كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً ، فيكون ما سمعوه حقاً وما زادوه باطلاً ، وكانت النجوم لا يرمي بها قبل ذلك ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان احدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب منه ، فشكوا ذلك إلى إبليس ، فقال : ما هذا إلا من أمر قد حدث ، فبعث جنوده فإذا هم بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة فأخبروه ، فقال : هذا الحدث الذي حدث في الارض
ورواه النسائي وصححه الترمزي
قال : وخروجه عليه السلام إلى الطائف كان بعد موت عمه .
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود قال : هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه قالوا : انصتوا ، فأنزل الله عز وجل : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } (الاحقاف:29)
فهذا مع حديث ابن عباس يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة ، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً ، قوماً بعد قوم وفوجاً بعد فوج .
وفي طريقه – عليه السلام – هذه ، دعا بالدعاء المشهور :
( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت أرحم الراحمين ،أنت رب المستضعفين ، إلى من تكلني إلى عدو بعيد يتجهمني أم إلى صديق قريب ملكته أمري ، إن لم تكن غضباناً علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن ينزل بي غضبك ، أو يحل بي سخطك ، ولك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ) .
أورده ابن اسحاق ، ورواه الطبراني في كتاب الدعاء عن عبد الله بن جعفر قال : لما توفى أبو طالب ، خرج النبي صلى الله عليه وسلم ماشياً إلى الطائف ، فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه ، فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال : اللهم إليك أشكو . فذكره .
وقوله : يتجهمني – بتقديم الجيم على الهاء – أي يلقاني بالغلظة والوجه الكريه .
ثم دخل عليه السلام مكة في جوار المطعم بن عدي .
رابعاً : وقت الإسراء
ولما كان في شهر ربيع الأول أسري بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سموات، ورأى ربه بعيني راسه ، وأوحى الله إليه ما أوحى ، وفرض عليه الصلاة ، ثم انصرف في ليلته إلى مكة .
فأخبر بذلك ، فصدقه الصديق ، وكل من آمن بالله .
وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس ، فمثله الله له ، فجعل ينظر إليه ويصفه .
قال الزهري : وكان ذلك بعد المبعث بخمس سنين ، حكاه عنه القاضي عياض ، ورجحه القرطبي والنووي ، واحتج : بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة ، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو بخمس سنوات ، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء .
وتعقب : بأن موت خديجة بعد المبعث بعشر سنين على الصحيح في رمضان ، وذلك قبل أن تفرض الصلاة ويؤيده إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد ، وأما تردده في سنة وفاتها فيرده جزم عائشة بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين قاله الحافظ ابن حجر .
وقيل : قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر ، قاله السدي وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي ، فعلى هذا كان في شوال .
وقيل : كان في رجب ، حكاه ابن عبد البر ، وقبله ابن قتيبة ، وبه جزم النووي في الروضة .
وقيل : كان قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر ، فعلى هذا يكون في ذي الحجة ، وبه جزم ابن فارس .
وقيل : قبل الهجرة بثلاث سنين ، ذكر ابن الأثير .
وقال الحربي : إنه كان في سابع عشر ربيع الأخر ، وكذا قال النووي في فتاويه ، لكن قال في شرح مسلم : في ربيع الأول .
وقيل : كان ليلة السابع والعشرين من رجب ، واختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي .
وأما اليوم الذي يسفر عن ليلتها فقيل الجمعة ، وقيل السبت ، وعن ابن دحية : يكون إن شاء الله تعالى يوم الإثنين ، ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة ، فإن هذه أطوار الانتقالات : وجوداً ونبوة ومعراجاً وهجرة ووفاة .
المرجع
المواهب اللدنية بالمنح المحمدية
للعلامة القسطلاني
ضبطه وصححه محمد بن عبد العزيز الخالدي
كتبه الأستاذ / مطر بن خلف الثبيتي
والسلام ختام