يعرف العلمانيون جيداً أن مشروعهم بفرعيه الليبرالي واليساري في ظل مناخ الحرية محكوم عليه بالفناء بسببين:
أولهما: انه يواجه منافساً قوياً لا يقاوَم هو الإسلام. يؤكد هذا أن العلمانية في مصر وفي كافة الدول الإسلامية لم تَحكم إلا بإكراهِ محتلٍ أو طاغية، وفي الحالتين تساندهما قوة عسكرية وبوليسية جبارة، ولم تستطع تطبيق علمانية كاملة في كل الحالات بسبب شدة المعارضة الشعبية في التفريط في مبادئ الإسلام.
ثانيهما: أن الإسلاميين إذا وصلوا إلى الحكم فعلاً، سيثبتون عملياً بأنهم جديرون بالقيادة؛ ذلك لأنهم يَعتبِرون خدمةَ الناس عبادةً لله- تعالى، الأمر الذي يجعل الشعب يتشبث بهم.. وهذا ما حدث في النقابات المهنية في مصر ومع حزب العدالة والتنمية في تركيا الذي زادت شعبيته إلى أكثر من 60% في الانتخابات الأخيرة.
وهذا يوضح سبب الهجوم الشنيع من قبل العلمانيين نحو المشروع الإسلامي وأصحابه لأن المعركة معركة بقاء أو فناء.
ـ أكثر العوار الذي يواجه المشروع العلماني هو كونه، في تاريخه كله، كان دائماً يمثل دور التابع للمشروع الغربي، وكان دائماً معترِفاً بواقع السيطرة الغربية مستسلماً لها، وأقصى طموحه في الاستقلال كان استقلالاً اقتصادياً محدوداً تم تطبيقه في عصر عبد الناصر ولم يؤسس على الاستقلالية الكاملة؛ لهذا فشل في أول تغيير لشخص صاحب المشروع. وكون المشروع العلماني الليبرالي أو الشيوعي مستورداً من الخارج فسيظل عوار التبعية متلبثاً به مهما حاول الظهور كمشروع مستقل أو أوهم الناس بأنه مشروع مصرياً صميماً.
وأكثر ما يتميز به المشروع الإسلامي هو كونه مستقلاً تماماً عن أي مشروع مستورداً من الخارج أو غريبا على ثقافة المجتمع ودينه، كما أنه مشروع مستقل بشكل شامل، سواءً كان سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً، فهو لا يركز على الاستقلال الاقتصادي كما فعلت التجربة الناصرية، في حين أنها سياسياً كانت تابعة للسياسة الروسية التي تمثلت في قبول أكثر من 70 ألف عسكري روسي في مصر تحت زعم المساعدة العسكرية ومساعدتها للحركات اليسارية التحررية تحديداً تقوية لها ضد الحركات التحررية الإسلامية والوطنية، بينما جاء النموذج الليبرالي في عصر السادات ومبارك حيث حول تبعيته السياسية إلى الاتجاه المعاكس ناحية الغرب وإسرائيل، ولم يفكر في أي تحرر اقتصادي أو ثقافي، وصلت إلى درجة العمالة، حتى أن إسرائيل صرحت في أكثر من مناسبة أن مبارك كنز استراتيجي لإسرائيل، وتعامل معها كثير من الإعلاميين والمفكرين والكتاب على أساس أنها دولة صديقة.
ـ ومن عوار المشروع العلماني أنه، في ظل تحكّمه، لم يهتم بأمر الفقراء بل اتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء إلى أقصاها ففي عهد عبد الناصر كانت الهوة سحيقة بين أفراد الشعب وبين طبقة الحاكمين من العسكر وكبار موظفي الدولة، وظهرت الطوابيرـ كظاهرة جديدة ـ على الجمعيات الاستهلاكية من اجل الحصول على السلع الضرورية، ونفس الأمر في عصر السادات كانت الهوة تزداد اتساعاً ولكن بين الشعب وبين طبقة رجال الأعمال. وفي كلا النظامين الاشتراكي الناصري والليبرالي الرأسمالي عانى الفقير معاناة شديدة؛ مات كثير من الناس من الأمراض ومن عدم توافر تكلفة العلاج وظهرت مصر في ترتيب متأخر جداً في معدلات التنمية والدخل القومي، بل كان يسُمح لرجال الأعمال ممارسة كافة طرق الاستغلال والاحتكار والرشوة لنهب الشعب المصري وفي نفس الوقت يتمتع أبناؤهم بالمناصب العليا ومناطقهم السكنية تُقدَّم لها كافة خدمات النظافة والتجميل والمواصلات وغيرها، بينما هم محرومون من أبسط هذه الحقوق، ثم يلومون على الإسلاميين أنهم يراعون الفقراء ويواسونهم بقليل من السلع الغذائية.
في حين أن ثقافة الناس تتقبل الإسلام؛ لأنه المنهج الوحيد الذي عنى بالفقراء عناية فائقة، حتى أنه تاريخيا الحرب العالمية الأولى التي شُنت دفاعاً عن حقوق الفقراء كانت في الإسلام ضد مانعي الزكاة، والمنهج الوحيد والسابق في ضمان حق الحياة الكريمة للفقراء فضلا على أنه المنهج الوحيد الذي في قرآنه شن حربا شديدة ضد ترف وبخل الأغنياء.
ـ التدني الأخلاقي والتفريط الديني الملازم للعلمانيين جعل الناس- كمسلمين- يتشككون في صدق أطروحاته ووعودهم بالعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات؛ فقد شهد الناسُ، على مدى السنين، العلمانيينَ يرتادون البارات ونساءَهم شبه عاريات ويشجعون تدني مستوى الفن ويحمون وجوده باسم والحرية بغرض نشر التفسخ الأخلاقي في المجتمع، لأن أمثال هؤلاء هم الذين يحمون العلمانية؛ لأنها تتيح لهم ممارسة فسقهم الذي تعودوا عليه.
ـ كون المشروع العلماني فُرض على الناس بالقوة و القهر والاستبداد والإقصاء لكل ما ومن هو إسلامي، مع بداية الاحتلال وظهور الدولة العسكرية البوليسية، جعل الناس تنفر منه وتتقبله على مضض تحت نير التهديد بالسجن والاعتقال والتعذيب؛ بينما الإسلام لم يُفرض بالقوة ولم يعتنقه الناس إلا بإرادتهم الحرة، وهذا هو ما تنزع إليه النفس الإنسانية أن تكون حرة فيما تؤمن به وتتبناه.
ـ أهم ما جعل الناس تكره العلمانيين هو موقفهم العدائي من الإسلام عموما ودعمهم لكل من يجرح أو يشكك في الإسلام ورموزه. أذكر أن محكمة النقض حينما حكمت بارتداد نصر أبو زيد وفرقت بينه وبين زوجته قامت الدنيا ولم تقعد حتى تم تغيير قانون الحسبة حتى لا يمكن لأحد بعد ذلك أن يقيم دعوة ضد من يجرح أو يشكك في الإسلام.
الصراع سيستمر ولكن فرص بقاء العلمانية في بلاد المسلمين ضعيفة جداً وإلى ضمور؛ فالقوة لن تصمد أمام الفكرة، طالما وَجد الإسلام من يدافع ويدعم توجهاته؛ لأنه متسق مع الفطرة مصلح للنفس، وأصلح لتحقيق الأمن والسعادة للبشرية.