نحن نعاني من التلكؤ في طرح أسهم الدولة رغم الوعود الواضحة ومن نقص الشفافية
د. سليمان السليم - - - 13/02/1427هـ
قل لمن يبكي على سوق جمح كانزاً ما ضر لو كان طرح
ما حدث في سوق الأسهم في الأيام الماضية مهما كانت نهايته ينبغي أخذه مأخذ الجد وعدم التقليل من آثاره، حتى التسعينيات من القرن الماضي كان عدد المتعاملين في السوق يحوم حول 40 ألف مساهم، أما اليوم وبعد توافر السيولة فقد تجاوز هؤلاء المليونين ونصف المليون وراء العديد منهم قصص مؤلمة يزيد من ألمها عدم قدرة أصحابها على البوح ومعرفتهم بأن دخول السوق والخروج منه قرار يتخذه الفرد على مسؤوليته شأنه شأن أي قرار تجاري، وخلال خدمتي لـ 20 عاما كوزير للتجارة لم يتقدم إلي مواطن واحد يطلب التوسط لتعويضه عن خسارة في تجارته، وقد أكبرت ذلك وما زلت بمواطنينا.لكن هي يعفي ذلك الجهات المختصة من مسؤوليتها عن البيئة الاقتصادية التي يعمل فيها السوق؟ منذ أن تدفقت السيولة نتيجة ارتفاع أسعار البترول وبدأت تطارد الفتات من الأسهم المتاحة للتداول, والمسؤولون يرون الكتابة على الجدار دون أن يحركوا ساكنا. وعندما طرحت شركات مثل الصحراء والبلاد وأمثالها كان ما ينال المواطن أسهما بعدد أصابع اليد، ثم اضطر مواطنونا إلى الزحف إلى دبي وإلى قطر والمبيت في الحدائق العامة وفي الاستادات الرياضية للظفر بما قد يجود به الطارحون.
ومع ازدياد تدفق السيولة إلى السوق زاد التسابق على ما هو متاح للتداول غثه وسمينه إلى أن وصلت الأسعار مستوى جعل أي هزة تقود إلى الانهيار، كل ذلك كان يحدث والدولة ومؤسساتها العامة تتربع على 60 في المائة من الأسهم المدرجة في السوق.
ما الذي حدث؟
من التقاليد الراسخة في المملكة أن الدولة لا تدخل طرفا في أعمال هي من صميم القطاع الخاص وهي تقاليد لها أصول شرعية واجتماعية، وكانت تشجع قيام الكيانات الكبيرة مثل شركات الكهرباء عن طريق ضمان الربح لأسهمها، وبعد الطفرة الأولى بدأت الدولة صناديق الإقراض للقطاع الخاص وأقامت المدن الصناعية في الجبيل وينبع وطورت التجهيزات الأساسية وشجعت قيام شركات مساهمة للأسمنت والعقار وغيرها ولم تدخل مساهمة فيها إلا عندما عجز القطاع الخاص عن تغطية كامل الاكتتاب فيها.
وعندما قامت سابك عام 1976م، جاءت على شكل شركة مساهمة تملك جميع أسهمها الدولة ولكن بنية طرح 75 في المائة من أسهمها في فترة لا تتجاوز عام 1982م، حسب نص نظامها مع إمكانية طرح ما تبقى في فترة لاحقة، وتم فعلا طرح 30 في المائة خلال تلك الفترة خصص 10 في المائة منها لمواطني دول الخليج حتى قبل قيام مجلس التعاون.
كان ذلك في عهد معالي الدكتور غازي القصيبي وهو شخص ق تختلف معه في أمور أخرى غير أنك لا يمكن أن تتهمه بحب الاستحواذ على السلطة وتعظيمها وتوزيع عضويات مجالس الإدارة على المريدين والمقربين، وقد لمست ذلك عن قرب أول تشكيل وزارة الدكاترة عام 1975م، حين تقاسمنا وزارة التجارة والصناعة, إذ تم ذلك بسهولة وسرعة يغبطنا عليها الغابطون.
وبانتقال غازي إلى الصحة عام 1982م، انتهى طرح "سابك" وهي الآن وبعد 34 عاما لم يطرح منها سوى ما طرح.
وقد صاحب احتفاظ الدولة بحصتها في "سابك" توسع في دخول صندوق الاستثمارات العامة والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية ومصلحة التقاعد, إما كمؤسس لشركات مساهمة وإما كمتعامل في سوق الأسهم يميل إلى الشراء والتجميع دون البيع.وكانت النتيجة أن هذه الجهات الحكومية منفردة أو مجتمعة أصبحت تملك إضافة إلى 70 في المائة من "سابك", 70 في المائة من "الاتصالات" وأكثر من 80 في المائة من "الكهرباء" و80 من البنك الأهلي وأكثر من 50 في المائة من مجموعة سامبا المالية ونسبا مختلفة في بنوك أخرى وشركات أسمنت وغيرها، بعبارة أخرى، إذا كنا نتحدث عن الهوامير فهذه الأجهزة الحكومية تأتي على رأس القائمة.
مرةً أخرى، دعوة إلى معالي الدكتور غازي باعتباره الوحيد الآن في الحكومة من بواقي حكومة الدكاترة في السبعينيات العاملين في الشأن الاقتصادي وأقول له: ذكر الجمع ممن ضم مجلسكم، هل كان في الذهن دخل الدولة في السوق بهذا الشكل؟
ولكن الأمر يتعدى التحول من مبادئ راسخة وواضحة آمن بها هذا الوطن إلى التراخي في الوفاء بالوعود، فقد سبق الحديث عن عدم طرح أسهم "سابك" ونستطيع إضافة حصة الجانب الأمريكي في مجموعة سامبا المالية التي اشترتها الدولة بغرض طرحها إلى صغار المواطنين قبل سنة ونصف، وأعلنت ذلك على الملأ وقتها ولم يتم شيء لحد الآن. أضف إلى ذلك ما أعلن عن تخصيص الخطوط السعودية الذي أعلن عنه قبل 20 عاما، كذلك تخصيص المؤسسة العامة لصوامع الغلال، وقل الشيء نفسه عن قائمة كاملة للتخصيص تبناها المجلس الاقتصادي الأعلى ووافق عليها مجلس الوزراء قبل ثلاث سنوات. والعجيب أن هذه الوعود لم تنفذ ولم يكلف أحد نفسه أن يوضع لنا معشر المواطنين السبب في عدم التنفيذ ولا ما إذا كان قد طرأ ما يوجب تغيير التوجه وأننا "هوّنا" وكأن الأمر لا يعني المواطنين عموما والقطاع الخاص على وجه الخصوص.
وخلال ذلك كله كانت الجهات المختصة توافق بصورة روتينية على زيادة رؤوس أموال شركات المرافق والبنوك مع إعطاء حق الأولوية للمساهمين وقت الزيادة مما زاد تركيز هذه الأسهم في أيدي فئة محدودة فيما يعطي نظام الشركات الحق لمجلس الوزراء بتقييد حق الأولوية لمثل هذه الشركات وطرح أسهم الزيادة كليا أو جزئيا للجمهور، بما يوسع قاعدة المساهمين، وقد سبق تطبيق ذلك على زيادات رؤوس أموال "السعودي البريطاني" وبنك الرياض وغيرهما، وذلك بتنازل جمعيات هذه الشركات عن حق الأولوية مقابل علاوات إصدار يدفعها المساهمون الجدد تمثل رسم دخول وتذهب لاحتياطيات الشركة معززة حقوق المساهمين.
باختصار كان من الممكن تجنب ما حدث في السوق لو طرحت الدولة حصتها في "سامبا" وهي أكثر من 27 مليون سهم، إضافة إلى أكثر من 13 مليون سهم للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، وأكثر من 11 مليون سهم للمصلحة العامة للتقاعد من مجموع 120 مليون سهم هي رأسمال البنك، ولو طرحت البنك الأهلي و10 في المائة من "سابك" و"الاتصالات"، بذلك تكون السيولة قد وجهت إلى أسهم مجزية وذات عوائد يطمئن إليها المواطنون.
لماذا إذن لم تفعل الدولة ذلك رغم الوعود والإعلانات؟ معالي وزير المالية صرح على الأقل بالنية لطرح حصة الدولة في "سامبا" عما قريب. ولكن كاتب هذه السطور أمضى في الدولة من الوقت ما يكفي لإدراك أن الأمور لا تجري دائما وفقما يرغب الوزير، وقد يظهر أثناء مناقشة الأمور رأي من غير متخصص يؤثر في مسار النقاش ويؤجل التنفيذ. ولكن هناك ملاحظات لا بد أن يدركها معاليه. أولها أنه لو ألقى نظرة على جواز سفره فلن يفاجأ إذا وجد أن مجموع فترات غيابه عن الوطن بين مرافقة رئيس الدولة في زياراته الرسمية واجتماعات صندوق النقد الدولي واجتماعات مجلس التعاون والجامعة العربية والإجازات الشخصية قد تصل إلى خمسة أشهر. وثانيها أنه منذ شغور وظيفة نائب وزير المالية معالي الأخ الدكتور جبارة الصريصري بتعيينه وزيرا للنقل لم تشغل هذه الوظيفة، والأجدر أن يعين من يوثق به ويعطى أوسع الصلاحيات، وكذلك وكلاء الوزارة، والملاحظة الأخيرة أنه رغم قرار فصل "الاقتصاد" عن "المالية" مازال هناك وكيل في وزارة المالية يسمى وكيل الشؤون الاقتصادية، وكأن وزير المالية في حاجة إلى أعباء إضافية ليشغل بها أيامه. معاليه بحاجة إلى التركيز والمتابعة فيما يخص الأمور الأساسية ومنها ما نحن بصدده.
أخيرا قد يتسابق المحللون والمعلقون والمتعاملون في توزيع اللوم على المسؤولين، ولكن من المناسب أن نتذكر في هذا المقام الرئيس هاري ترومان. وهو رجل بسيط أتى من ولاية ريفية، وعندما كان نائبا للرئيس طغت على شخصه شخصية الرئيس روزفلت، ولكنه فاجأ الجميع عند توليه الرئاسة بعد وفاة روزفلت بشجاعته وقدرته على اتخاذ القرار.
وقد كتب هذا الرئيس على مكتبه في البيت الأبيض هذه العبارة "الدولار يتوقف هنا"، ويعني بذلك أن الناس يتقاذفون اللوم ويتداولونه كما يتداولون الدولار، ولكن المسؤولية تنتهي عند الرئيس. وإذا كان هذا موقف رئيس في نظام يطبق مبدأ الفصل بين السلطات، فما بالك بنظامنا السياسي؟ فقد تعوّد مواطنونا التواصل مع ولي الأمر إما مباشرة وإما من خلال القنوات التي يتيحها لهم. وقد رأى المواطنون مبادرات مباركة تمثلت في تشجيع الحوار ونبذ الغلو والتوجه نحو الوسطية وإشارات إلى الشفافية في طرح المشروعات، كما حدث في الاتصالات ومشاريع الغاز، وتعزيز دور المرأة، ومحاولات القضاء على الفقر وحل مشكلة الإسكان. ولكنهم يرون كذلك عدم الوفاء بما تعلنه الدولة من طرح أسهمها أو تخصيص مؤسساتها، وفي مقابل ذلك السرعة المباغتة التي تم بها وضع حجر الأساس لمدينة الملك عبد الله دون أن تقوم الهيئة العامة للاستثمار بطرحه للمناقشة على قطاع الأعمال في المملكة، خاصة في مدينة جدة، وذلك لمعرفة آرائه وحرصا على تكافؤ الفرص للجميع.
هذه أمور تتطلب تواصلا بين المسؤولين عن قطاعنا الاقتصادي وبين المواطنين، فهناك غياب شبه كامل لمن يقوم بإيضاح ما يحدث في السوق، ولا يعني ذلك مطالبة بالتدخل غير المبرر، ولكن أولا بطمأنة السوق حول أساسيات الاقتصاد، وشرحا للبرامج المعروضة على المجلس الاقتصادي الأعلى ولجنته الدائمة ولجنته الاستشاري، ولجنة التخصيص فيه، وتعريفا مستمرا بنظام هيئة السوق ولوائحه، وهو نظام ترك الانطباع بأنه ثوب فضفاض مفصل أساسا لأكبر من مقاسنا، ولم يأخذ في الاعتبار علاقته بالأنظمة الأخرى كنظام الشركات والجهات الأخرى كوزارة التجارة، وقد رأينا التنازع بين هذه الجهات عند بدء تطبيقه.
إن أسوأ بيئة لقطاع الأعمال هي تلك التي تتسم بالغموض وعدم التأكد، ولن يساعد على تحسين الوضع تجنب الحديث في أمور قد تكون خلافية، سواء على مستوى المجلس الاقتصادي أو على مستوى اللجان المختلفة. الهواء الطلق ومشاركة الرأي العام أمران يسهمان في الوصول إلى الحلول. ليس من العدل مثلا لمعالي وزير المالية ـ ولا للسوق ـ أن يصرح بقرب طرح حصة الدولة في "سامبا" ثم يترك كالمعلق دون إيضاح.
بعد هذا كله، فإن هذه الغمة التي يمر بها السوق ستمر وأساسيات الاقتصاد تبشر بالخير، بل إن هذه الطفرة التي نمر بها تتطلب منا جميعا تسخيرها لمصلحة هذا الجيل والأجيال المقبلة، وخصوصا أنها فرصة سانحة لن تدوم.
إذا هبّت رياحك فاغتنمها
فإن الخافقات لها سكونانا في نظري مقال جريء وصريح ومتمكن من طرحه