الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،،،
إن الله تعالى خلق البشرية ، وأرسل فيها الرسل ، وأنزل الكتب ، ليبين لها طريق الحق والاستقامة ، ويحدد لها المسلك والمنهج ، فمنها من أسلم وأناب وسلك طريق الفوز والنجاة ، ومنها من كفر وجحد وابتعـد عن طريق الله وهدي الرسل ، فخسر وخاب واستحق العقوبة الإلهية 0
ولا شك أن الإنسان يعيش حياته بين صفو وكدر وجملة من الأخطار والأمراض والحوادث ، وقد قرر الشاعر هذه الحقيقة حين قال :
ومن عاش في الدنيا فلا بد أن يرى00000000000000من العيش مـا يصفو وما يتكدر
والله سبحانه جعل الصبر جوادا لا يكبو ، وصارما لا ينبو ، وجندا لا يهزم ، وحصنا حصينا لا يهدم ولا يثلم ، فهو والنصر أخوان شقيقان ، فالنصر مع الصبر ، والفرج مع الكرب ، والعسر مع اليسر ، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ، ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد ، ولقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب ، وأخبرهم أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين ، فقال تعالى : ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ( سورة الأنفال – الآية 46 ) فظفر الصابرون بهذه المعية بخيري الدنيا والآخرة ، وفازوا بها ، وبنعمه الباطنة والظاهرة ، وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين ، فقال تعالى وبقوله اهتدى المهتدون : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِأيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( سورة السجدة – الآية 24 ) 0
والمسلم يعيش في الحياة وتعترضه الأخطار والحوادث ، ولا يصيبه منها إلا ما كتب الله له ، وإذا أصابه ما يصيبه فإن ذلك قضاء الله وقدره ولحكمة ربانية اقتضتها الإرادة الإلهية المبنية على علم الله الواسع بأحوال عباده ، وما يقتضيه ذلك العلم من مصالح خاصة وعامة للعباد ، قد تعود المصلحة إلى المصاب نفسه وقد تعود إلى أهله وأوليائه وقد تعود إلى مجتمعه 0 ثم إن الأخطار المحيطة بالإنسان قد تصيبه فيكون ذلك نتيجة قضاء الله وقدره وقد تخطئه فيكون ذلك من دفع الله ولطفه بعبده ، قال تعالى في حق العبد : ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ 000 ) ( سورة الرعد – الآية 11 ) 0
قال ابن القيم - رحمه الله - : ( قال بعض الصالحين : يا بني إن المصيبة ما جاءت لتهلكك وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك ، يا بني القدر سبع ، والسبع لا يأكل الميتة ! ) ( زاد المعاد – 4 / 194 ) 0
ولا بد للمسلم أن يعتقد جازما أن طريقه ليس ممهدا ، ولا سهلا ميسرا ، إنما تكتنفه الصعاب ، ويواجه في سيره الكثير من العقبات 0 والابتلاء من الوقفات التي لا بد أن تعترض هذا الطريق ، وأنه لا بد من التمحيص والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب ، فكان الابتلاء 0 وفي ذلك يخبر الحق جل وعلا في محكم كتابه : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) ( سورة العنكبوت – الآية 2 ) 0
وبالعادة يتعرض الإنسان في حياته لمظاهر وأنواع مختلفة من الابتلاء ، فيعيش بين الفرح والحزن ، والغنى والفقر ، والفرج والضيق ، والولادة والموت ، والذي يميز المسلم الحق في سمته أن لا يكون جاحدا لنعم الله تعالى ، فيصبر في الضراء ، ويشكر في السراء 0
ولذلك ترى أبناء الدنيا متقلبين فيها ، بين خير وشر ، ونفع وضر ، ولا ترى لهم في أيام الرخاء أنفع من الشكر والثناء ، ولا في أيام المحنة والبلاء أنجع من الصبر والدعاء 0 وقد اقتضت حكمة الله سبحانه أنه ما من ليل إلا وبعده صباح ، وما من ضيق وشدة إلا وبعده فرج وخير 0
فطوبى ثم طوبى لمن وفق في الحالين للقيام بالواجبين ! وتجد أفضل شيء يفزع إليه من ابتلي بمكروه من شدة أو مرض أو هم أو غم أو أي صارف من صروف الدهر ، قراءة القرآن بتدبر وخشوع ، فإن فيه راحة وطمأنينة وسكينة للنفس الإنسانية 0
ونتيجة لمواكبة الإنسان للظروف والأحداث ، وبنظرة متفحصة متأملة إلى من عاش في الدنيا قديما وحديثا ، تجد تقلب الأحوال ، وتغيرها من حال لحال ، ومعرفة الممتحن لذلك فيه شحذ لبصيرته على الصبر ، وتقوية عزيمته على التسليم إلى مالك كل أمر ، والتفويض إلى من بيده ملك النواصي ، وإذا علم الله سبحانه وتعالى - وهو علام الغيوب - من عبده الممتحن والمبتلى صدق اللجوء إليه ، وانقطاع آماله إلا من عنده ، لم يكله إلى سعيه وجهده ونفسه ، بل ينزل عليه من عنايته وحفظه ورفقه ما تزول به الغمة والشدة ويعيش في أحسن حال 0
ولذلك جاءت الأدلة من الكتاب والسنة تبين الأجر الكبير والثواب العظيم ، الذي أعده الله سبحانه وتعالى للصابرين المحتسبين ، يقول تعالى في محكم كتابه : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ) ( سورة البقرة – الآية 155 ، 157 ) وكما ثبت من حديث جابر - رضي الله عنه - أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليودن أهل العافية يوم القيامة ، أن جلودهم قرضت بالمقاريض ، مما يرون من ثواب أهل البلاء ) ( صحيح الجامع 5484 ) 0
قال المناوي : لا( أي يتمنى أهل العافية في الدنيا يوم القيامة قائلين ليت جلودنا كانت قرضت بالمقاريض فلنا الثواب المعطى على البلاء ، " مما يرون من ثواب أهل البلاء " لأن الله سبحانه طهرهم في الدنيا من موادهم الخبيثة بأنواع البلايا والرزايا فلقوه وقد خلصت سبيكة إيمانهم من الخبث في دار الخبث فصلحوا حينئذ لجواره ومساكنته في دار كرامته ، فيصب عليهم فيها الأنعام صبا 0 وأما من لم يتطهر من مواده الخبيثة في دار الخبث فتطهره النار ، إذ حكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في دار كرامته وهو متلطخ بخبائثه 0 ومن تحقق بعلم ذلك انفتح له باب الرضى والتسليم ، ومن ثم قال بعض العارفين لو كشف للمبتلى عن سر سريان الحكمة في البلاء لم يرض إلا به ) ( فيض القدير – 5 / 399 ) 0
يقول الدكتور الشيخ ابراهيم البريكان – حفظه الله – تعقيبا على كلام العلامة المناوي – رحمه الله - : ( الدنيا ليست دار خبث ولكنها دار عبادة لله وقيام بحقه ) 0
وكما ثبت أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة ، في نفسه وولده وماله ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) ( صحيح الجامع - 5815 ) 0
قال المباركفوري : ( قوله " ما يزال البلاء بالمؤمن " أي ينزل بالمؤمن الكامل " والمؤمنة " في نفسه وماله وولده " حتى يلقى الله " أي يموت " وما عليه خطيئة " أي وليس عليه سيئة لأنها زالت بسبب البلاء ) ( تحفة الأحوذي – باختصار – 7 / 67 ، 68 ) 0
فالرضى بقضاء الله وقدره يقرب إلى الله تعالى ، والصابرون المحتسبون ليس لهم جزاء إلا الجنة ، التي عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه – أنه قال : قال تعالى في الحديث القدسي : ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ( صحيح الجامع 4307 ) 0
يقول الشيخ عبدالله الحداد المعالج بالقرآن ورئيس وحدة الإرشاد الصحي بجمعية مكافحة التدخين والسرطان في دولة الكويت تحت عنوان " الإيمان بالقضاء والقدر " : ( لا بد من ترسيخ حقيقة أن ما أصابنا فهو بقدر من الله وهو أرحم الراحمين ، وله حكمة في ذلك ، وإذا تعزز هذا المفهوم في نفس المسلم هانت عليه كل المصائب ، ولا شك في أن الأعراض الناتجة من تأثيرات السحر أو المس أو الحسد هي من ضمن البلايا والمصائب ) ( مجلة الفرحة – العدد 42 – مارس سنة 2000 م ) 0
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنه ، فسيرته نموذج يقتدى به في الصبر والتحمل ، فقد لاقى الكثير في سبيل الدعوة وتبليغ الرسالة ، وتبعه من بعده الخلفاء الراشدون وتحملوا الكثير من أعباء الدعوة وتبعاتها ، ومنهم من لقي الله شهيدا محتسبا ، وسيرة الصحابة والتابعين والسلف تزخر بالأعمال العظيمة والتضحيات الكبيرة ، وصبر وتحمل مشاق تقصر عنها خطانا كثيرا ، منافحين ومدافعين عن الكتاب والسنة ، وكانت نظرتهم للدنيا وزخرفها نظرة مودع ، لا مؤمل ، علموا يقينا أن الدنيا وما فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، كانوا ينشدون رضا الله سبحانه ، ويسعون للفوز بجنته ، فكانوا من أشد الناس بلاء ، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أخت حذيفة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أشد الناس بلاء الأنبياء الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ) ( صحيح الجامع – 994 ) 0
قال المباركفوري : ( قوله " أشد الناس " أي أكثر وأصعب " بلاء " أي محنة ومصيبة " قال الأنبياء " أي هم أشد في الابتلاء لأنهم يتلذذون بالبلاء كما يتلذذ غيرهم بالنعماء ، ولأنهم لو لم يبتلوا لتوهم فيهم الألوهية ، وليتوهن على الأمة الصبر على البلية 0 ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرعا والتجاء إلى الله تعالى " ثم الأمثل فالأمثل " قال الحافظ : الأمثل أفعل من المثالة والجمع أماثل وهم الفضلاء 0 وقال ابن الملك : أي الأشرف فالأشرف والأعلى فالأعلى رتبة ومنزلة 0 يعني من هو أقرب إلى الله بلاؤه ليكون ثوابه أكثر ) ( تحفة الأحوذي – 7 / 66 ، 67 ) 0
وحديث عطاء بن رباح - رضي الله عنه - مثل يقتدى به على التحمل والصبر ونيل رضا الله سبحانه ، تلك الصحابية الجليلة العفيفة الطاهرة ( أم زفر ) كانت تصرع وتتكشف فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو حالها وتصف له داءها ، فأوصاها بالصبر والاحتساب وبشرها بالجنة ، والحديث قد عرجت عليه في كتابي ( منهج الشرع في بيان المس والصرع ) تحت عنوان ( أدلة السنة المطهرة على صرع الجن للإنس ) 0
والتسخط من قضاء الله وقدره يوجب سخط الله وعقوبته ، والرضى به يجني لصاحبه الخير الكثير والسعادة الأبدية والفوز بالجنة ، كما ثبت من حديث أنس – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ) ( صحيح الجامع 2110 ) 0
قال المباركفوري : ( قوله " إن عظم الجزاء " أي كثرته " مع عظم البلاء " فمن كان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم " ابتلاهم " أي اختبرهم بالمحن والرزايا " فمن رضي " بما ابتلاه به " فله الرضى " منه تعالى وجزيل الثواب " ومن سخط " بكسر الخاء أي كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضائه " فله السخط " منه تعالى وأليم العذاب ، ومن يعمل سوءا يجز به ، والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في طلبه للنهي عنه ) ( تحفة الأحوذي - 7 / 65 ، 66 ) 0
وهكذا يجب أن يكون حال المسلم ، يصبر ويحتسب ولا يلجأ إلا لخالقه سبحانه ، فيسأله الشفاء ويرضى بالقضاء ويتذكر الموت والبعث والنشور وتطاير الصحف ، ثم هل إلى الجنة أم إلى النار ؟ إن تفكر في ذلك سيعلم آنذاك أن الابتلاء نعمة ، والصبر فوز وعافية ، والقنوط خسران ونقمة 0
ولا شك أن لدفع البلاء عن العبد مجموعة من الأسباب منها :
1)- لطف الله بعبده ورحمته إياه ، خاصة إن كان العبد قوي الإيمان بخالقه ، شديد التعلق بربه 0
2)- حفظ العبد ربه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( احفظ الله يحفظك ) 0
3)- التعرف إلى الله في الرخاء بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، كما ثبت من حديث ابن عباس وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة 000 الحديث ) ( صحيح الجامع - 2961 ) 0
قال المناوي : ( " تعرف " بشد الراء " إلى الله " أي تحبب وتقرب إليه بطاعته والشكر على سابغ نعمته ، والصبر تحت مر أقضيته وصدق الالتجاء الخالص قبل نزول بليته " في الرخاء " أي في الدعة والأمن والنعمة وسعة العمر وصحة البدن فالزم الطاعات والإنفاق في القربات حتى تكون متصفا عنده بذلك معروفا به " يعرفك في الشدة " بتفريجها عنك وجعله لك من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا بما سلف من ذلك التعرف ، كما وقع للثلاثة الذين أووا إلى الغار 0 فإذا تعرفت إليه في الرخاء والاختيار جازاك عليه عند الشدائد والاضطرار بمدد توفيقه وخفى لطفه كما أخبر تعالى عن يونس- عليه الصلاة والسلام- بقوله : ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ ) ( سورة الصافات – الآية 143 ) يعني قبل البلاء بخلاف فرعون لما تنكر إلى ربه في حال رخائه لم ينجه اللجوء عند بلائه فقال تعالى : ( ءالأنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) " سورة يونس – الآية 91 " ) ( فيض القدير – 3 / 251 ) 0
4)- التقرب إلى الله تعالى بالصدقات ، فإن صدقة السر تدفع غضب الرب وتداوي المرض ، كما ثبت من حديث عبدالله بن جعفر وأبي سعيد – رضي الله عنهما – قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صدقة السر تطفئ غضب الرب ) ( صحيح الجامع 3759 ) 0
قال المناوي : ( يمكن حمل إطفاء الغضب على المنع من إنزال المكروه في الدنيا ووخامة العاقبة في العقبى من إطلاق السبب على المسبب ، كأنه نفي الغضب وأراد الحياة الطيبة في الدنيا والجزاء الحسن في العقبى 0قال بعضهم : المعنى المقصود في هذا الموضع الحث على إخفاء الصدقة ) ( فيض القدير – باختصار – 4 / 193 ) 0
وقد ثبت من حديث أبي أمامة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( داووا مرضاكم بالصدقة ) ( صحيح الجامع 3358 ) 0
قال المناوي : ( فإن الطب نوعان ، جسماني وروحاني فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأول ، وأشار إلى الثاني فأمر بمداواة المرضى بالصدقة ، ونبه بها على بقية أخواتها من القرب كإغاثة ملهوف وإعانة مكروب ، وقد جرب ذلك الموفقون فوجدوا الأدوية الروحانية تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية ، ولا ينكر ذلك إلا من كثف حجابه ! والنبي صلى الله عليه وسلم طبيب القلوب ، فمن وجد عنده كمال استعداد إلى الإقبال على رب العباد أمره بالطب الروحاني ومن رآه على خلاف ذلك وصف له ما يليق من الأدوية الحسية ) ( فيض القدير – 3 / 515 ) 0
5)- الإكثار من الأوراد والأذكار المستمدة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية المطهرة 0
6)- الالتجاء إلى الله تعالى والتعلق به ، والاعتقاد بأنه المعطي والمانع ، وأن النفع والضر بيده سبحانه وتعالى وحده دون سواه من سائر الخلق 0
قال ابن القيم - رحمه الله - : ( وليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها ، لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا ، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقـده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية من هذه الأدواء ، وحفظا لصحة عبوديته ، واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة ، فسبحان من يرحم ببلائه ، ويبتلي بنعمائه 0 كما قيل :
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت000000000000000000ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فلولا أنه سبحانه وتعالى يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء ، لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا في الأرض ، وعاثوا فيها بالفساد ، فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمر ونهي ، وصحة وفراغ ، وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها ، تمردت وسعت في الأرض فسادا مع علمهم بما فعل بمن قبلهم ، فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال ؟! ولكن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بعبده خيرا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ، يستفرغ منه الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه ، أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته ، ورقاه أرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته ) ( الطب النبوي – 195 ) 0
وقال - رحمه الله - في موضع آخر : ( وإن مما يتسلى به أهل المصائب ) :
* أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه 0
* أن ينظر المصاب ما أصيب به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله ، أو أفضل منه ، وادخر له - إن صبر ورضي - ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ، وإنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي 0
* أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ، ولينظر يمنة ، فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة ، فهل يرى إلا حسرة ؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى ، إما بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، وإن شرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل ، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا ، وإن سرت يوما ، ساءت دهرا ، وإن متعت قليلا منعت طويلا ، وما ملأت دارا خيرة إلا ملأتها عبرة ، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوما شرورا 0
* أن يعلم أن الجزع لا يردها ، بل يضاعفها 0 وهو في الحقيقة من تزايد المرض 0
* أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم - وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع - أعظم من المصيبة في الحقيقة 0
* أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ، ويسيء صديقه ، ويغضب ربه ، ويسر شيطانـه ، ويحبط أجره ، ويضعف نفسه 0 وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ورده خاسئا ، وأرضى ربه ، وسر صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزاهم هو قبل أن يعزوه ، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم ، لا لطم الخدود ، وشق الجيوب ، والدعاء بالويل والثبور ، والسخط على المقدور 0
* أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به ولو بقي عليه ، ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه ، فلينظر : أي المصيبتين أعظم ، مصيبة العاجلة ؟ أم مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد ؟!
* أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله ، فإنه من كل شيء عوض إلا الله فما منه عوض 0
* أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له ، فمن رضي فله الرضى ، ومن سخط فله السخط ، فحظك منها ما أحدثته لك ، فأختر خير الحظوظ أو شرها ، فإن أحدثت له سخطا وكفرا ، كتب في ديوان الهالكين ، وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب أو فعل محرم ، كتب في ديوان المفرطين 0 وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر ، كتب في ديوان المغبونين ، وإن أحدثت له اعتراضا على الله وقدحا في حكمته ، فقد قرع باب الزندقة أو ولجه 0 وإن أحدثت صبرا وثباتا لله ، كتب في ديوان الصابرين 0 وإن أحدثت له الرضا عن الله ، كتب في ديوان الراضين 0 وإن أحدثت له الحمد والشكر ، كتب في ديوان الشاكرين ، وكان تحت لواء الحمد مع الحامدين 0 وإن أحدثت له محبة واشتياقا إلى لقاء ربه ، كتب في ديوان المحبين المخلصين 0
* أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته ، فآخـر أمره إلى صبر الاضطرار ، وهو غير محمود ولا مثاب 0
* أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له ، وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب ، فمن ادعى محبة محبوب ، ثم سخط ما يحبه ، وأحب ما يسخطه ، فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتمقت إلى محبوبه 0
* أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومهما : لذة تمتعه بما أصيب به ، ولذة تمتعه ثواب الله له ، فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح ، فليحمد الله على توفيقه 0 وإن آثر المرجوح من كل وجه ، فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من مصيبته التي اصيب بها في دنياه 0
* أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به ، ولا ليعذبه به ، ولا ليجتاحه ، وإنما تفقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرعه وابتهاله ، وليراه طريحا ببابه ، لائذا بجنابه مكسور القلب بين يديه ، رافعا قصص الشكوى إليه 0
* أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة ، يقلبها الله سبحانه كذلك ، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة ، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك ) ( الطب النبوي – بتصرف واختصار – 188 ، 196 ) 0
ذكر أبو عبدالله محمد المنبجي الحنبلي في كتابه ( تسلية أهل المصائب ) إضافة إلى ما نقله عن العلامة ابن القيم - رحمه الله - في بعض ما يتسلى به أهل المصائب ، فقال :
* أن يستعين بالله ويتوكل عليه ، ويتعزى بعزاء الله تعالى ، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة ، ويعلم أن الله مع الصابرين ، ويطلب استنجاز ما وعد الله به عباده على الصبر ، فالمؤمن الموفق - نسأل الله تعالى حسن التوفيق - من يتلقى المصيبة بالقبول ، ويعلم أنها من عند الله لا من عند أحد من خلقه ، ويجتهد في كتمانها ما أمكن 0
* أن يعلم أن المصيبة في الدين من أعظم مصائب الدنيا والآخرة ، وهي نهاية الخسران الذي لا ربح معه ، والحرمان الذي لا طمع معه 0
* وأن يعلم أن من أعظم المصائب في الدين : موت النبي صلى الله عليه وسلم لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم ، ولأن بموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة ، وانقطعت النبوات ، وكان موته أول ظهور الشر والفساد ، بارتداد العرب عن الدين ، فهو أول انقطاع عرى الدين ونقصانه ، وفيها غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد ، وغير ذلك من الأمور التي لا أحصيها 0
عن القاسم – مرسلا - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليعز المسلمين في مصائبهم ، المصيبة بي ) ( رواه ابن المبارك في " الزهد " - برقم ( 467 ) ، وقال الألباني حديث صحيح ، أنظر صحيح الجامع 5459 - السلسلة الصحيحة 1106 ) 0
* أن يوطن نفسه على أن كل مصيبة تأتيه هي من عند الله ، وأنها بقضائه وقدره ، وأنه سبحانه وتعالى لم يقدرها عليه ليهلكه بها ، ولا ليعذبه ، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه ، وشكواه إليه وابتهاله ودعاءه ، فإن وفق لذلك كان أمر الله قدرا مقدورا ، وإن حرم ذلك كان خسرانا مبينا 0
* أن لا ينكر في هذه الدنيا وقوع هذه المصائب على اختلاف أنواعها ، ومن استخبر العقل والنقل أخبراه بأن الدنيا مارستان المصائب ، وليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بالكدر ، فكل ما يظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب ، وعمارتها وإن حسنت صورتها خراب ، وجمعها فهو للذهاب ، ومن خاض الماء الغمر – أي الماء القليل - لم يخل من بلل ، ومن دخل بين الصفين – أي في القتال - لم يخل من وجل ، فالعجب كل العجب ممن يده في سلة الأفاعي – جمع أفعى وهو ذكر الحية - كيف ينكر اللسع ؟! وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر – المطبوع على الضر : كالعقرب والحية ونحوها - النفع ! 0
* ينبغي للمصاب بنفسه ، أو بولده ، أو بغيرهما ، أن يجعل في المرض - مكان الأنين - ذكر الله تعالى ، والاستغفار والتعبد ، فإن السلف - رحمهم الله تعالى – كانوا يكرهون الشكوى إلى الخلق ، وهي وإن كان فيها راحة إلا أنها تدل على ضعف وخور ، والصبر عنها دليل قوة وعز ، وهي إشاعة سر الله تعالى عند العبد ، وهي تؤثر شماتـة الأعداء ورحمة الأصدقاء ) ( تسلية أهل المصائب – باختصار – 23 ، 42 ) 0
تلك وقفات جميلة بها عزاء وتسلية لمن أصابته مصيبة أو هم ، أو غم أو كرب ، والتأمل في تلك الوقفات والتدبر في معانيها ، يعطي نقاء وصفاء للنفس البشرية فيهذبها ويصقلها بالأدب الإسلامي حيث تدرك آنذاك أن الله سبحانه قد من عليها بنعم لا تعد ولا تحصى ، وأعظمها وأجلها نعمة الدين ، فالواجب يحتم الرضاء بقضاء الله ، وشكره على نعمه وسائر فضله ، والتفكر بالجزاء والأجر والثواب ، سائلين المولى سبحانه وتعالى الصبر والثبات في الدنيا وعند الممات ، كما أسأله أن يشفي مرضى المسلمين ويرزقهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة 0
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،،،