الدمعة الحمراء
في زمن ( السديري ) الجميل كان يكتب عن زمنٍ مضى أجمل وأجمل رغم بساطته
الا ان به من " المراجل " ماجعلته يتسيّد على ما مرّ بعده من أزمنه فخُلد ذكره إلى الآن
فيكفي ان نتذكرهم ونتمنى أن نكون معهم في وقتهم الطيب ذاك ...
ونحن في زمننا ( والذي نتمنى ان يكون جميل ) وتسعد الاجيال بتذكره من بعدنا
نقرأ في ما كتبه السديري رحمه الله عن هذا الزمن بكل مافيه
من " هيبه " و " طيبه " و " وقار " انه زمن الحب العفّ .. الطاهر .. البريء
كتب السديري عن وفاء " البدوي " وشيمته .. عن شرف الحب وعهوده التي تربط
البدوي العاشق بها إلى موته .. كتب عن عشق " بنت الرجال " وطهارتها ونظافة عرضها ..
كتب السديري حتى سقطت آخر دمعاته .. دمعته الحمراء فكانت هي ( شيمه و وافي )
فما هي ( الدمعه الحمراء ) في عرف البدوي ؟
في مقدمة كتاب السديري فُسّرت هذه الدمعه انها آخر الدموع البيضاء او الزرقاء
كما يسميها اهل الباديه .. وحين تكون العين مجبره على البكاء بعد انتهاء دمعها فأنها
لا تجد سوى الدموع الحمراء .. لكنها دمعه واحده فقط او اثنتين وبعدها ينتهي كل شي
فلن يكون هناك عين بعد هذه الدمعه .. إذاً هي نهاية العين .. ونهاية الانسان نفسه
نعم هي نهايته .. ونهاية معاناته أيً كانت مسبباتها
و ابلغ ما قالته العرب عن العين ومائُها قول مجنون بني عامر
جفت مدامع عين الجسم حين بكى
وإن بالدمع عينُ الروحِ تنسكـب
وليس الذي يجري من العين ماؤها
ولكنها نفـسُ تـذوبُ وتقطـرُ
ولعل من يقرأ دمعة السديري الحمراء يعتقد انها احداث خياليه صاغها فكر المؤلف او يصل
لأبعد من ذلك فيقول انها احداث وقعت لأحدٍ ما رواها للسديري فدونها لنا ..
الا ان القارئ حتماً سيستشف الحقيقة خلف السطور وبينها و حول القوافي ومعانيها
و سيرى نور اليقين من معاناة " وافي " و " شيمه " المعتمه ليصل لمعاناة السديري نفسها ..
ولعل اكبر دليل على ذلك .. ما ذكره مقدم الكتاب الشاعر / طلال السعيد عن إشارة الأمير السديري
لمكان قبر " وافي " بطل المعاناة في احدى القصائد ولو زرت هذا المكان .. ستجد قبر الأمير نفسه حالياً
لم اقصد من هذه المشاركه ذكر احداث هذه المأساة التي دونها السديري وختمها بدمعته الحمراء ..
لأن اغلبنا قد حظي بقراءتها ولن افسد على البقية لذة قراءة هذه الدمعه الرائعه ...
وحتى من لم يقرأها بالتأكيد يعرف من هم رمزي العشق الطاهر والعرض الابيض ( شيمه و وافي )
فقد خلّد السديري ذكرهم كما كان مع عنتر وعبله وقيس وليلي ..
إلى بقية العشاق وشخصياً لا استطيع حصى مرات قراءتي لها فقد أثرت في تكويني العاطفي
لأبعد حد .. إذاً اعتبر هذه المشاركه مجرد ( استدارة كحيله في ميدان قوافي العشق وعشاقها ) فقط
السديري .. بحر شعري مازلنا نغوص في أعماقه إلى الآن .. وكم من الدرر والنفائس في هذا
اليم المهيب ..فقد ابدع الامير في رواية احداث القصه بأبيات شعريه خالده على لسان حال ابطالها ..
فيقول الأمير رحمه الله في أول لقاء للوافي بشيمه .. لقاء الطهر بالبراءه ..
جيتك وأنا عن كل أهلك أتغبا
جيتك وحاديني من الود حادي
من كل خلق الله لك القلب حبا
ومن شانكم يازين تعبت جوادي
وخليتها بالكـود يمـك تخبـا
تاطا الوعر هو والسهل بالأيادي
وينشد هُنا ايضا ..
قبل امس جيت أطلب ودادك وصديت
وش فيك للقلـب المعـذب تغيضـي
عـز الله انـي بالـمـوده تمـاديـت
ومن سبتك يازيـن قلبـي مريضـي
أوقف بجاه الي فرض حجـة البيـت
أبيـك ترحمنـي وعنـدي تريضـي
شف عبرتي يازين عقـب التناهيـت
شف دمعة من فوق عينـي تفيضـي
لولاك ما تعبـت نفسـي ولا جيـت
غثني بفضل إرضاك وأرحم جضيضي
يبدع السديري في الابيات ويبدع في وصف الشرف في ذلك الزمن الجميل
فيقول بلسان الوافي ...
يابنت أنا جيتك على الرجل حافي
مع قفرة يضيـع فيهـا الدليلـه
بالله يـاراع الثمـان الرهافـي
نبي لي اسمك ياعنـود الجميلـه
فترد شيمه بشيمة بنت الباديه..
انا الذي ستري مع الناس ظافي
ولا شفت حي وافي نلتجي له
الإسم شيمه والشرف لي الحافي
وبوي فاضل له مقام وقبيلـه
يبدأالسديري في وصف معاناة شيمه و وافي فينشد قائلاً ..
جيت المكان اللي به الزيـن وافيـت
صافي الجبين وسيد تلعات الارقـاب
جيتـه وهليـت العبايـر وونيـت
وقفت به والدمع يمطـر وسكّـاب
وأصيح بأعلى الصوت عقب التناهيت
وبقيت أدوج فيه لين الشفـق غـاب
ولا لقيت الا الجـوازي مصانيـت
وتركتهن من شان وضاح الأنيـاب
وعويت من جور العنـا ثـم ونيـت
ولجلج صداها بين شعبان وهضـاب
على الحبيب اللي لشوفـه تشافيـت
اللي من أسبابه شعر عارضي شـاب
لله در الأمير كيف هي مشاعره ؟ وكم هو رائع احساسه
هذا ماكان من الوافي فكيف صاغ الامير ما أحست به شيمه
لنقرأ ما ابدعه على لسان حالها ...
ان غاب وافي كل شيء معه غـاب
والروح من بين الضمايـر سلبهـا
وان كان شفته فزت والنوم لي طاب
وفرحات قلبي صاحبي هو سببهـا
العين في بعده عن النـوم حـراب
وقربه دوى عيني وبعـده غضبهـا
قلبي يحبه لو نحـى يـم الاجنـاب
تفداه روحي ... لو حبيبـي نهبهـا
لا زال الامير يبدع من قوافيه ويكيل ولازالت قلوبنا معه تبكي و دموعنا تسيل
فلنقترب لنرى المزيد من هذا الحب العفّ وابداعات السديري ..
شيمه ...
يا وافي العراف صديـت عنـا
وأنا عليك دموع عيني تجـارن
يا ما سهر طرفي ويـا مـا تمنـا
والقلب تاق بضامري عقب ماون
وافي ...
عليك ياشيمه دموعـي جرنـا
وعويت لين أن الضواري تعاون
عويت وسحمان الضواري عونا
وعلى ونين القلب جن يتعادن
شيمه ...
ما جـور يـا وافـي لعلـك تهنـا
قلبي ضحك لك قبل مايضحك السن
ليتك قريـب الـدار وأبـوك منـا
وليتك ولد عمي وأزورك بلا مـن
وافي ...
يا عود ريحان على المـا تثنـا
ريح الهبايب يقبلن بـه ويقفـن
عليك قلبـي بالضمايـر معنـا
وسهوم نجلك صوبني ولا أخطن
قمة الابداع هذه الحوار الذي انشده الشاعر وكيف ؟ على لسان آخرين !!
ومن خلال الأحداث استوقفتني ابيات السديري في " الرجم " ولأني أعشق الرجوم والوقوف بها
كان لابد لي ان أقف عند ابياته .. فيقول الامير بلسان شيمه ..
يارجم وين اللي بنـاك وشيـدك
يارجـم ياليتـك علـي تجيـب
يارجم ياليتـك بظلـك تظلنـي
الى أوجست من عقب الفراق لهيب
حبيب بناك العام يارجم وانتحـا
ما أنساه لو أن الغـراب يشيـب
يارجم ماشفت الوفا كاسب الثنـا
حليف الندا سفر الحجاج نجيـب
يارجم أنا وياك في مهمـه الفـلا
والكـل منـا بالفيـاح غريـب
يارجم أنا أحبك على شان صاحبي
بعيد وهو وسط الفـواد قريـب
يسهب السديري في وصف المأساه وهذه الابيات تخفي الكثير بين سطورها
يبكي فيها السديري بحسره لبكاء وافي فيقول ...
أنا عفت نجد وصاحبي بين حيها
ولا ذكر محبوب جفا دار صاحبه
ولكن حبيبي حيل دوني ودونـه
وحبل الرجا مني قطع كف جاذبه
وأنا أوجست قلبي بين كفين طاير
بثومة فوادي شارعـات مخالبـه
أنا عفت نجد وحبها يسكن الحشا
وفيها عزيز الجار قلبـي يداعبـه
رعا الله من حبه تمكن بضامـري
ولو مت روحي دايم عند جانبـه
الى أن قال ...
أنا اقفيت عن دنيا بها الكيد والشقا
وخليت غالٍ مت من شان واجبه
هل الأمير هو وافي ؟ والوافي هو نفسه الأمير ؟ ..اختلطت الأمور و لم نعد نعلم أيهم كان العاشق
لكن نحن على يقين انهم ان كانوا شخصين .. فأنهم بقلبٍ واحد
هنا بعد موت الشيمه هل كان العهد للوافي ام أنه عهد الامير نفسه ؟!
ياقبر ماتنفاجلي وأنت مسمـوح
تنفاجلي ساعه وأنا منك راضي
نبي نوادع غاليٍ فيـك مملـوح
حبه بقلبي دامي الجرح ماضـي
عاف الحياة وعلق الروح بالروح
وقلبي عليه من المعاليق جاضـي
وأتعبت من فرقاه نوح باثر نوح
والقلب ذاب وباقي الصبر قاضي
ياقبر أبي أعاهدك ياقبر مـاروح
الين ماتابس عيونـي مغاضـي
عليه قلبي .. بالمعاليـق مجـروح
وعلى نصايب قبره الدمع فاضي
هنا نصل لــ الدمعة الحمراء التي ذكرناها قبلاً فنرى تفسير السديري لها في هذه الابيات
بلسان الوافي .. هي آخر ماقاله وافي وآخر دمعاته ودمعات الأمير .
خلوا جريح القلب ينوح عاليـه
وخلوه يلحق غايتـه منتهاهـا
وخلوه ينثر من عيونـه عباريـه
حتى تفيض عبرته كـل ماهـا
مرحوم يللي ماسلا القلب ناسيه
وعيني بكت فرقاه وأمطر سماها
مصورٍ بالقلب زولـه وطاريـه
وروحي من اسبابه تدانت خطاها
ان مت حطوا غالي عند غاليـه
حتى المطر يسقي ثراي وثراهـا
يابوي لا تلحق غلامك مشاريه
حبه برا حالي وروحـي طواهـا
عزي لمن مثلي يصفـق بياديـه
وبالقبر عينه غاب عنها ضياهـا
لوهو ليا ناديت يسمـع مناديـه
جريت ونات ٍ يزلـزل صداهـا
عاف الحياة وراح روحي تباريه
واقفت به الدنيا ودارت رحاهـا
يظل وافي يصارع سكرات عشقه فينشد السديري ...
ان مت في جنب الحبيب أدفنونـي
لعل طيفي يجتمـع هـو وطيفـه
وازرع علينا مخضـرات الغصونـي
تظـل شيمـه ويتظلـل وليـفـه
وان كان يالعـراف لـي ترحمونـي
اركز على القبرين بيضـا صحيفـه
اكتب ولا بـد المـلا يشهدونـي
( هذي قبور أهل العروض النظيفه )
كانت هذه آخر دمعات السديري ... ( الدمعه الحمراء ) حيث كانت هي النهايه ..
فهل كانت نهاية وافي فقط ؟
أم انها نهاية الأمير نفسه ونهاية معاناته التي خلدتها هذه الابيات ؟
ستظل هذه التساؤلات قائمه وسنظل نحن نتوق لزمن العفة وزمن الشيمه والوفاء
// // // //
// //
//
من أروع ما قرأت
صانع الأبداع