[align=center]إسرائيل؛ إله الشر الجديد يدعو إلى الخير! ج1
إبادة الشعب الفلسطيني بين الشرعنة الدولية
والتواطؤ العربي والغليان الشعبي
بقلم/التجاني بولعوالي
باحث مغربي مقيم بهولندا
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة، الآية 70: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُون}.
ويقول كذلك في السورة نفسها، الآيات 78، 79 و80: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}.
ديباجة
(ها هي غزة تترنح تحت نار العدو.. والعالم قاطبة يشهدها ببرودة دم!
ها هي غزة تواجه ابتلاءها وحدها.. وحكام العرب يتشبثون بأهداب العشق الإسرائيلي!
ها هي غزة تصمد في وجه الإعصار.. وحكام العرب سادرون يتنعمون بأفراحهم التي لا تنتهي!
ها هي غزة اختارت أن تجاهد.. في زمن الخذلان العربي!
ها هي غزة تفدي بفلذات أكبادها، بأرواح أهاليها..
من أجل أن تينع أغصان الإيمان في كل ذرة منها، ولا تلغى فلسطين من خارطة الإسلام!
ها هي غزة تصيخ لأحبائها وهم يصرخون لأجلها، خلف الأسوار، وفي كل فضاء.. في وجه الجبن العربي!)
توطئة
على هامش المجزرة الإسرائيلية الجديدة في قطاع غزة، كتب الصحافي الهولندي أوني فان درفال مقالا يحمل عنوان: (من المنطقي أن تتدخل أخيرا إسرائيل في غزة)، وقد نشره في العمود الثابت (تعاليق) بموقع مجلة إلسفير الهولندية الأسبوعية، يوم الثلاثاء 30 ديسمبر 2008. والأفكار الأساسية التي يثبتها من خلال كلامه مؤداها؛ أن ما تصنعه إسرائيل هو عين الحق، وأن حماس تشكل بإرهابها خطرا على الشعب الإسرائيلي، وأن إيران ساعدت حماس لبسط نفوذها على قطاع غزة كله، وأن الإسلاميين يسعون إلى تدمير دولة إسرائيل...(1) وما إلى ذلك من الكلام الإنشائي الذي تجلدنا به وسائل الإعلام الغربية ليل نهار!
لا أقصد من قراءتي لهذا المقال، توجيه نقد لشخص أو طرح معين، لأن ما يطرحه أصلا صاحبه من أفكار، إنما ينقلها عن غيره من الذين يتبنون الخطاب الصهيوني المدعوم ماديا وإعلاميا وقانونيا، حيث هذه الأفكار بحذافيرها لا تني تتردد على ألسنة أصحاب القرار في دولة إسرائيل، لتنتشر كما شرر النار في كل اتجاه، فتتملك بسحرها الكاذب النفوس والعقول، ليس في الغرب فحسب، وإنما كذلك في عقر دار الإسلام، وهذه هي الطامة العظمى!
رغم أن الكاميرا تظل خير شاهد على فظاعة ما تلحقه الآلة الإسرائيلية بالأبرياء، من أطفال ونساء وشيوخ... ورغم أن التقدم النوعي الذي حصده الإعلام الفضائي، يمكن العالم كله من مشاهدة جميع تفاصيل سيناريو الدم الفلسطيني المراق في غزة، من قبل الجلاد الإسرائيلي، الذي يقدم نفسه دوما باعتباره الضحية! كما نلمس في مقال الصحافي أونو فان درفال، بل وفي الآلاف من الكتابات الصحافية والفكرية والأدبية، التي تصور دولة إسرائيل كذلك الحمل الوديع، الذي يوجد بين جماعة من الذئاب المفترسة، لذلك فهي دوما تذأب (تخاف) من أن تفترسها في يوم من الأيام تلك الذئاب! فما عليها إذن إلا أن تحصن قلعتها وتجعلها منيعة، ليس فقط بالسلاح المادي، من عساكر ودبابات وطائرات وكاميرات وغير ذلك، وإنما بالسلاح المعنوي، من دبلوماسية وتطبيع وفكر وإعلام ونحو ذلك.
إله الشر الجديد يدعو إلى الخير!
من هذا المنطلق، سوف أتريث عند جملة من الأمور الجوهرية، التي تتضافر خيوطها لتنسج الحالة الراهنة التي آلت إليها القضية الفلسطينية في قطاع غزة بخاصة، وهي حالة يبدو فيها العدو الإسرائيلي قويا متعجرفا، يعيث فسادا في البلاد والعباد، غير أنه يقدم نفسه كرمز للصلاح والإصلاح، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(2) ، في حين تظهر الأمة العربية الإسلامية وقد اعتراها الخور والوهن أمام عدوها، فاستسلمت له حتى النخاع، كما يستسلم المسحور لأمر ساحره، وقد توقع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الوضعية قبل حوالي 14 قرنا، حيث قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"(3).
غير أنه رغم انبطاح الأمة الإسلامية يظل ضميرها حيا متحركا، يستجيب كلما شكا عضو من جسد الأمة؛ ترى من يمثل هذا الضمير الحي في الجسد المتهالك المنهار؟ إنها الشعوب العربية والإسلامية، أما بقية العالم، فلا دور لها إلا الفرجة أو التشفي أو التحكيم لصالح الذي يدفع أكثر، وهو العدو في كل الحالات!
قبل إماطة اللثام عن أهم تلك الخيوط، تجدر الإشارة إلى أن العدو يقدم نفسه حسب وجهة نظره الخاصة، باعتباره داعية إلى الخير والسلم العالمي، في حين أنه حسب المنطق الإنساني السليم يمكن اعتباره عكس ذلك، وهذا بشهادات مفكرين غربيين أكفاء، كهانس يونغ الذي تنبه إلى أهمية القضية الفلسطينية في السياق العالمي الجديد، عندما استنكر صمت الغرب، وهو يردد: أنه لا يمكن السكوت عما تفعله إسرائيل في القضية الفلسطينية(4). وروجيه جارودي الذي أدان بدعة الصهيونية السياسية، التي تقوم على إحلال دولة إسرائيل محل "إله" إسرائيل. ودولة إسرائيل هذه ليست سوى حاملة طائرات نووية حصينة تابعة لسيدة العالم مؤقتا: الولايات المتحدة الأمريكية، التي تريد أن تفرض هيمنتها على نفط الشرق الأوسط، الذي يمثل عصب النمو الغربي"(5). وغيرهما.
على هذا الأساس، يمكن اعتبار العدو الصهيوني ممثلا للشر بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فيقارن بإله الشر (أهرمان) في الديانة الزراديشتية، وبإله الخراب والموت والدمار (ست أو ستان) لدى المصريين القدماء، وبإله الشر (شو) عند الهندوسيين، وبالأرواح الشريرة (ألاستوريس) عند اليونانيين، وبالشيطان في العقيدة الإسلامية وغير ذلك.
ويحضرني في هذا الصدد تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي لعلاقة الإنسان بالشيطان، حيث يصبح الإنسان شيطانا عندما يسير على خطى الشيطان، فيفعل فعله، ويدعو إلى حزبه، يقول: "ويجب أن نعلم أن هناك شياطين من الجن.. وشياطين من الإنس.. يجمعهم وصف واحد، كما يجمعهم الاتحاد في المتعة التي هي نشر المعصية والإفساد في الأرض.. شياطين الجن هم العصاة من الجن الذين يصدون عن الحق ويدعون إلى الكفر٬ وشياطين الإنس يقومون بنفس المهمة.. إذن فاللفظ هنا وصف لمهمة معينة.. وليس إشارة إلى شخص باسمه٬ فكل من دعا إلى الكفر والشرك والعصيان هو شيطان.."(6).
سوف لن أتعرض لتاريخ اليهود الدموي، الذي شهد تقتيل الأنبياء، كما يحدثنا القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، بقدر ما سوف أقتصر على المرحلة الراهنة، التي يتكرر فيها ذلك التاريخ بحذافيره، حيث سوف يفسدون من جديد في الأرض ويعلون علوا كبيرا!
لذلك تظل هذه المقارنة بين سلوك الصهاينة الجدد وسلوك الشياطين وآلهة الشر، على أكثر من مستوى مناسبة، لا سيما وأنهم يوظفون الطرائق نفسها التي تحضر في قصص وحكايات آلهة الشر والشياطين والأرواح الشريرة، كالتضليل، وادعاء الإصلاح، والتطبيع، والترهيب، والتخريب... وغير ذلك، بل والأهم من ذلك، يسعون إلى تحقيق الأهداف ذاتها، التي كانت تتملك نفوس تلك الآلهة والشياطين، وتتحدد أهمها في:
• التظاهر دائما بأنهم الضحية لاستمالة أكبر عدد من المتعاطفين والمساندين.
• ارتكاب أبشع الجرائم، والاستباق للتشكي على أن ذلك إنما دفاع عن النفس والوجود.
• ادعاء الإصلاح في حين أن التاريخ يشهد على أنهم أكبر المفسدين على الإطلاق.
• نفي كل مظاهر الخير لدى الآخر بقوة الشر، والاحتفاظ بها لنفسهم وشعبهم المختار وعملائهم.
• استعمال مختلف وسائل التخويف الخفية قصد ثني عزيمة الخصم.
• توظيف أرقى آليات التضليل من إعلام ودعاية وتجسس وسحر...
• السعي نحو امتلاك آخر ما توصل إليه العلم والتكنولوجيا واستخدامه لدعم استراتيجيتهم التوسعية.
• حشد أعداد هائلة من الأنصار والمساندين عن طريق الإغراء المادي والجنسي والفكري.
• خلق المواجهات والصدامات داخل البيت الواحد، كما صنعوا بمخابراتهم داخل البيت العربي والإسلامي.
• اقتراح التعاون مع جهة معينة، في حين أنهم يبطنون في دواخلهم عكس ذلك، وهو الاستيلاء على الثروات والمنافذ والأفكار والدعم الدبلوماسي.
وتجدر الإشارة إلى أن الصهاينة يزينون هذه الأهداف وغيرها لكل من يتعاملون معه، ويقدمونها له على طبق من ذهب، وكأنها أسمى نماذج للخير والسلم والصلاح، في حين أن أفعالهم تعكس خلاف ما يسوقونه من خلال وسائط الإعلام وبرامج الدعاية، غير أن ذلك لا ينقص شيئا من مكانتهم في عيون أحبائهم ومناصريهم ومسانديهم، من العرب والمسلمين كذلك! لأنهم قد تمكنوا، لا محالة، من تدجين تفكيرهم وتوجيه نظرهم وفق العقائد التي يدعون إليها، والأفكار التي يروجونها. مما أثر بعمق في موقف الواقع العربي والإسلامي من القضية الفلسطينية، الذي ترتبت عنه حالة متردية ومختلة، تحمل أكثر من مؤشر ملموس على أن ثمة يدا خفية تعبث منذ زمن طويل بمصير أهم قضايا الأمة الإسلامية، وتأتي على رأسها القضية الفلسطينية. حيث تعبر آخر التطورات التي يشهدها قطاع غزة، الذي يتعرض لسلسلة من المجازر الإسرائيلية على مرآى من العالم، بما لا يدع مجالا للشك عن تلك الحالة من التردي والاختلال، وإليكم أهم الخيوط التي تتداخل وتتقاطع وتتضافر لنسج حقيقة هذه الحالة:
الخيط الأول: حول شرعية حماس... والانقلاب عليها!
العالم شهد بأم عينه الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي جرت في يناير 2006، ومرت في ظروف تنظيمية وديمقراطية جيدة، بحضور حوالي 900 مراقب دولي، من بينهم الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر والنائب والمراقب الأوروبي فرانسيس ورتس، الذي أكد بأن العملية الانتخابية جرت بصورة جدية ودون أي مشاكل، بل وأن البيت الأبيض، الذي يرفض حركة حماس ويعاديها، اعترف بأنه كان يوما تاريخيا مشهودا! والتاريخ سجل في ذاكرته أنه رغم نزاهة تلك الانتخابات وقيمتها التاريخية والديمقراطية، فإن ثمة الكثير ممن لم يتقبلوا ما حصل، لا لشيء إلا لأن الذي فاز بها هو حركة المقاومة الإسلامية حماس؛ الممثل الشرعي والشعبي للدين الإسلامي على الأراضي الفلسطينية، وهم يدركون أن تفوق حماس إنما هو نتيجة منطقية لاختيار الناخب الفلسطيني، وبذلك فإن موقفهم المتحفظ أو الرافض لهذا الخيار، هو موقف، بكل المقاييس، لا ديمقراطي!
والعالم شهد بأم عينه كيف تشكلت الحكومة الفلسطينية الجديدة بزعامة حركة المقاومة الإسلامية حماس، وكيف زرعت الأشواك في طريقها منذ أول يوم من تنصيبها، وكيف تكالبت عليها الأعداء من الداخل والخارج..؟ إلى يوم أن أعلنت الرئاسة الفلسطينية إقالتها، بعد اقتتال دموي نشب بين حركتي فتح وحماس، ولم يمض من عمر تلك الحكومة إلا أشهرا معدودات، مثقلة بالمشاكل والأعباء، التي كان يرزح تحتها الشعب الفلسطيني، عقوبة له على اختياره الديمقراطي لحماس، التي لن تستسلم لإملاءات عباس من الضفة الغربية، وإنما سوف تتحدى كل المصاعب، لتظل مسيطرة على قطاع غزة، غير آبهة بتهديدات العدو الإسرائيلي، الذي يتوعد بتنحيتها وتمشيطها، أو بدعاوى مختلف الجهات الأوروبية والعربية والإسلامية التي تحثها على الانخراط في حكومة الوحدة الوطنية، المقترحة من قبل الرئيس الفلسطيني.
هكذا فإن تأمل السياق العام الذي تم فيه اختيار حركة حماس من قبل الشعب الفلسطيني، بما يناهز أكثر من 70% من أصوات الناخبين، حتى يومنا هذا حيث صارت الحركة تحت نير الإبادة الإسرائيلية، يجعلنا نخلص إلى ما مؤداه؛ أن صعود حماس وفوزها تم بطريقة ديمقراطية، بشهادة الجميع بما في ذلك العدو الصهيوني! وهو صعود يعكس رغبة الشعب الفلسطيني واختياره، لكن ومع ذلك، فالعدو بمباركة من مسانديه يرفض هذا الخيار الديمقراطي، ويرفض فوز حماس المستحق، ويرفض رغبة الشعب الأكيدة، بل والأكثر من ذلك كله، يهدد بتنحية الحركة وعقاب كل من يواليها، ويحشد لذلك مختلف الأصوات الغربية والعربية التي تبارك موقفه!
ألا يعبر هذا عن أن إسرائيل تختار الانحياز إلى منطق الشر؛ عندما تضلل الجميع بإعلامها الساحر، وتدعو إلى الخير المزيف، وتعمل آلية التدمير والتخريب والتنكيل، وفي الأخير تدعي أنها ضحية الإرهاب الإسلامي، وهي كلها مظاهر تحضر بقوة في سلوكات آلهة الشر والشياطين والأرواح الشريرة!
الخيط الثاني: السلطة الفلسطينية بين الاستحواذ السياسي والتواطؤ مع العدو.
العالم شهد بأم عينه كيف أنه مباشرة بعد وفاة ياسر عرفات في 11 نوفمبر 2004، انتخب المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس رئيسا لفلسطين، وقد رفضت يومها حركة حماس ذلك، بل وأن أحد أهم قياديها وهو د. محمود الزهار أكد "أن انتخاب الرئيس عباس رئيسًا لفلسطين من قِبل مؤسسة فاقدة الشرعية، حيلة سياسية لن تنقذه من أزمة ما بعد 9 يناير عام 2009م"(7)، بغض النظر عن مرحلة ما قبل وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، إن مرحلة خلفه محمود عباس تميزت بالرفض النظري المعلن من قبل حركة حماس للطريقة التي تم بها تنصيبه رئيسا لفلسطين، هذا الرفض الذي سوف يترجم فيما بعد إلى مواجهات وصراعات على أرض الواقع، بين عناصر حركتي فتح وحماس.
ومما لا شك فيه، أن موقف حماس يتضمن جانبا من الصواب، لأن تعيين عباس رئيسا تم بطريقة غير ديمقراطية، لم تستفت فيه الحركات والفصائل الفلسطينية الأخرى، كأن الشعب الفلسطيني كله يختزل في حركة فتح، بل وأن ذلك التعيين يعبر، بشكل أو بآخر، عن استحواذ لا شرعي على السلطة. ومن العجب العجاب، أن أغلب المواقف الدولية والعربية والإسلامية كانت تؤيد هذا الاستحواذ، في حين أنه عندما تمكنت حركة حماس في انتخابات 2006 التشريعية من الفوز بكيفية ديمقراطية، سارعت أغلب تلك المواقف إلى الرفض أو التحفظ أو التخويف من خطر هذه الحركة!
إن ثمة أكثر من مؤشر واقعي على تآمر أو انخراط عباس في المخطط الإسرائيلي الهادف إلى تنحية حركة حماس من الوجود السياسي الفلسطيني، وإحكام الحظر عليها، خدمة لأسياده الذين عينوه عاملا أو واليا على الضفة الغربية، التي جعل منها إقليما إسرائيليا يضاف إلى الأقاليم الأخرى المحتلة من أرض فلسطين. لذلك فمنذ توليه الحكم وهو يسعى إلى تلبية رغبة العدو، عن طريق تقديمه لمختلف التنازلات إرضاء له، وما تلك الزيارات المكوكية التي لا تحصى إلى تل أبيب إلا دليل قاطع على تآمره الأكيد.
إن د. محمود الزهار توقع منذ أكثر من أربع سنوات أنه سوف تنشأ في مستهل السنة 2009 أزمة سياسية في فلسطين، لن يفلت منها الرئيس عباس، وهي نتيجة منطقية للحيلة السياسية التي استخدمها ليصبح في منصب الرئيس، وهذا التوقع يحيل بشكل ما على أنه بمجرد انتهاء ولاية الرئيس الحالي، فلا مناص من تنظيم انتخابات رئاسية، التي كلما كانت ديمقراطية كلما كان حظ حماس منها وافرا، بعبارة أخرى، أنه إذا تم تنظيم هذه الانتخابات بطريقة نزيهة، فإن الرئيس الفلسطيني المستقبلي، سوف يكون لا محالة من حركة حماس! غير أن السلطة الفلسطينية الحالية بما فيها الرئيس وحركة فتح ومؤيدوها الداخليون والخارجيون، قد أخذوا بعين الاعتبار كل الاحتمالات والتوقعات المطروحة، بل ودرسوا بعمق كل خلفياتها المستقبلية، فحاولوا منذ البداية قطع الطريق على حركة حماس، حتى لا تنفرد بأي موقع حساس واستراتيجي؛ فساهموا في الإطاحة بحكومتها الشرعية الفتية، وسببوا بقسط كبير في إشعال فتيل الفتنة والاقتتال بين أتباع الحركتين، وتخندقوا جميعا ضد المقاومة المسلحة التي تتبناها حركة حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية، وأثروا على المواقف العربية الرسمية حتى جعلوا العديد منها يتحفظ على ما تقوم به حركة حماس، ويرون أن ذلك يعرقل مسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، ويعيق مبادرات السلام الدولية... وغير ذلك من المواقف التي كانت السبب المباشر، الذي جعل أغلب المؤسسات الغربية الرسمية والسياسية تدرج حركة حماس في قائمة الحركات الإرهابية.
والآن، بات واضحا للعيان أن الحرب الجديدة على قطاع غزة، إنما هي حلقة تضاف إلى تلك المواقف القديمة، التي تهدف إلى إلغاء حركة حماس من الوجود الفلسطيني، وما دامت نهاية ولاية عباس الرئاسية على الأبواب، فإنه إذا لم يطرح خيار الانتخاب الرئاسي، فثمة أزمة عارمة تلوح في الأفق، وثمة أكثر من مؤشر على تصعيد داخلي، أما إذا تمت انتخابات رئاسية ديمقراطية، فالشعب الفلسطيني لن يفرط في التصويت على ممثل حماس، وهذا ستتولد عنه كذلك أزمة فادحة، حيث كيف سوف تتعامل حركة فتح وأنصارها في الضفة الغربية مع ذلك الوضع الجديد المحتمل، والكل يتذكر كيف تنكر الجميع لحكومة حماس السابقة، بل والأكثر من ذلك، كيف سوف يتعامل العالم الغربي عامة، والكيان الصهيوني خاصة، مع هذه الحركة التي يعتبرونها إرهابية!
لذلك جاءت هذه الحرب الإبادية الجديدة لتنقية الساحة الفلسطينية من حركة المقاومة الإسلامية حماس، والجميع يدرك ذلك، بما في ذلك الدول الغربية المؤثرة، والسلطة الفلسطينية، وأغلب الأنظمة العربية والإسلامية التي كعادتها لم تسارع إلى شجب هذه الحرب الشرسة رسميا، إلا بعد أن أروى إله الشر الجديد غليله، وأشبع غريزته الدموية!
الخيط الثالث: الموقف العربي/الإسلامي بين الغليان الشعبي وانبطاح الحكام.
انتهينا في الخيط السابق إلى أن أغلب الأنظمة العربية والإسلامية تدرك بعمق، بل وتعلم بحقيقة المخطط الصهيوني، الذي يرمي إلى تنحية حركة حماس من الواقع السياسي واليومي الفلسطيني، لكن لماذا لا تكشف هذه الأنظمة هذه الورقة بما تملكه من وزن سياسي ودبلوماسي، إن كانت تملكه!
لماذا لا نسمع في خطابات أغلب الرؤساء والملوك والأمراء والوزراء العرب
والمسلمين كلاما يشير بوضوح إلى لا شرعية الوجود والفعل الإسرائيلي في فلسطين،
ألا يعني هذا بجلاء تام تواطؤ أغلبهم مع الكيان الصهيوني، ولائحة التطبيعات والاعترافات الرسمية بدولة إسرائيل، من قبل الكثير من الدول العربية، خير دليل على ذلك، وتعتبر مصر أول دولة عربية تعترف بدولة إسرائيل رسميا، وذلك في سنة 1977 حيث قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارتها! لذلك فإن هذه الدول التي غرر بها الشيطان الصهيوني، فأسقطها في أحابيل عشقه، ترى على المستوى الرسمي في حركة حماس نشازا، أو كابوسا رهيبا يعكر عليها صفو هذا العشق الزائف، الذي ما هو إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء!
على هذا الأساس النظري، يمكن فهم تقاعس دول الجوار الفلسطيني، كمصر والأردن والسعودية، في التعامل مع العنف الذي يمارسه باستمرار العدو الصهيوني على أهالي قطاع غزة، عقابا لهم على اختيارهم العفوي لحماس، وهو سلوك لا يختلف كثيرا عما تفعله آلهة الشر القديمة بكل من يميل إلى جبهة الخير! إن أغلب الأنظمة العربية والإسلامية المتواطئة مع النظام العالمي الجديد، الذي تحبك خيوطه خلف الكواليس أيادي الصهيونية المتخفية، تحلم بتسوية سريعة وفورية للملف الفلسطيني، ولو بالتنازل الطوعي على الكثير من القضايا الجوهرية والمصيرية، كقضية القدس، واللاجئين الفلسطينيين، والمستوطنات الإسرائيلية وغيرها، وذلك ليس حبا في عيون الفلسطينيين، وإنما رغبة في أن تعيش هذه الأنظمة اللا ديمقراطية في هناء تام، بعيدا عن هواجس صراع عربي إسرائيلي، أو إسلامي غربي...
من هذا المنطلق، فإن أغلب تلك التصريحات المستنكرة للحرب الإسرائيلية المعلنة على الشعب الفلسطيني الأعزل، التي تتردد على ألسنة بعض الحكام العرب والمسلمين، وعادة ما تأتي متأخرة، هي أشبه ما تكون بـ (برتكول) رسمي على الحاكم أو المسئول تأديته، وهو يراعي فيه الكثير من الجوانب؛
• طمأنة الشعب بأن ثمة تناغما بين الحاكم والقاعدة الشعبية، وأنه بتصريحه ذلك يعبر عن إرادة الشعب وأحاسيسه تجاه إخوته الفلسطينيين.
• طمأنة الشعب الفلسطيني بأن حاكم الدولة الفلانية وشعبها معهم في محنتهم قلبا وقالبا، وأحيانا ما يعزز ذلك الموقف بمساعدات مادية، تبعث إليهم عبر وساطة غربية أو إسرائيلية!
• محاولة الحفاظ على ماء وجه الأمة العربية والإسلامية، التي بعد أن ينهي العدو مهمته الإبادية، تجتمع في مقر الجامعة العربية، لتلقي خطبها العنترية، تحت التوجيه المباشر للعدو نفسه، أو لأجهزته المخابراتية أو التجسسية.
• التفاهم المباشر أو التلقائي مع العدو على أن تلك التصريحات ذات بعد شكلي ورمزي لا أقل ولا أكثر، حيث يبدو أن الكثير من الحكام العرب يشجبون بشدة ما تقوم به إسرائيل، غير أن ذلك لا يؤثر على علاقاتهم السياسية والاقتصادية معها! بل وأن الرأي العام العربي اعتاد أن يسمع خطب استنكارية من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ثم بعدها مباشرة يستقبل بحفاوة في البيت الإسرائيلي. فيا لها من مفارقة عجيبة!
• هكذا فإن أغلب تلك التصريحات، تعتبر بالنسبة للعدو الصهيوني عديمة الأهمية، وهو يتقبلها من أصدقائها العرب والمسلمين بقلب رحب، أما بالنسبة للشعوب العربية والإسلامية، فهي تنطوي على النفاق وازدواجية المواقف والخوف العربي من قوة الصهاينة!
وعلى ذكر الشعوب العربية والإسلامية في العنصر الأخير، يمكن أن نستحضر طرح المفكر اليهودي ناعوم تشومسكي، الذي يقسم المواطنين إلى فئة الحكام أو كما يسميهم المتآمرين على الشعب، ثم العلماء والمثقفين الذين يحشرون في الفئة الأولى، حيث يظل هؤلاء مسكونين بهاجس واحد، وهو كيفية السيطرة على القطيع/الشعب، ليس خوفا عليه من الضياع، وإنما خشية منه من العصيان، لا سيما وأن "الجمهور على درجة من الغباء لا تمكنهم من فهم الأشياء، وإذا ما حاولوا المشاركة في إدارة أمورهم فهم يتسببون في خلق مشاكل، ولذا قد يبدو لا أخلاقيا إذا ما سمحنا لهم بفعل ذلك – فحسب منطقهم – لا بد وأن نروض هذا القطيع الحائر وألا نسمح له بالغضب وتحطيم كل شيء"(8)، لذلك قد يقول قائل بأن الشعوب العربية والإسلامية، في سياق تظاهرها ضد الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، لا تعدو أن تكون إلا ممثلا يتقمص دورا مكملا للمسرحية، فهي تعبر عن رفضها لما يحدث، عن طريق الخروج إلى الشوارع، والقيام بالمظاهرات الصاخبة، ورفع الشعارات المنددة، وحرق الصور والأعلام، وإلقاء الخطب والأشعار والكلمات الرنانة... لكنها عندما يزحف الليل بظلامه، ترجع القهقرى إلى بيوتها الدافئة! فتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية، وتظل دار لقمان على حالها القديم.
قد ينطوي هذا التفسير على نوع من الصحة، لكنها تظل سطحية ونظرية، أما من الناحية العميقة والميدانية فإن مواقف الشعوب العربية والإسلامية تحمل أكثر من دلالة إيجابية بالنسبة إلى نفوذ الإسلام عامة، ومصير القضية الفلسطينية خاصة، وإليكم أهم تلك الدلالات:
• تظاهر الشعوب العربية والإسلامية في كل صقع من أصقاع الأمة الإسلامية، يعني أن ثمة حركة معينة تنشأ في نفوس ووجدان هذه الشعوب، وأنه لا محالة سوف يأتي اليوم الذي قد تترجم فيه هذه الحركة على أرض الواقع، لا سيما عندما تبلغ ذروة نضجها وتكونها، ولنا في التاريخ القديم والحديث مواقف وعبر كثيرة.
• حركة الشعوب هذه تعبر عن أن ثمة ما يوحدها رغم تباعدها الثقافي واللغوي والجغرافي والاقتصادي، وهو الإسلام. والعدو الصهيوني يدرك أكثر من غيره حقيقة ذلك، إلى درجة أن توسع الدين الإسلامي ديموغرافيا وجغرافيا، أصبحت ترى فيه العديد من الجهات الغربية، بما في ذلك التيار الغربي المتصهين، تهديدا حقيقيا لها ولمصالحها النفوذية والتاريخية والاقتصادية.
• موقف هذه الشعوب يشير، بوضوح تام، إلى أن ثمة عدوا موحدا يفرض عليها نقلا وعقلا وواقعا مواجهته، وهذا العدو الموحد يتمثل في كل من يعادي العقيدة التي تدين بها، وهي عقيدة الإسلام، بغض النظر عن اسمه وموقعه ودرجة عدائه.
• موقف هذه الشعوب يدل، بجلاء تام، على أن أغلبيتها الساحقة ترفض الوضع السياسي الذي توجد فيه، وأنها تحلم بمجيء اليوم الذي تقضي فيه على حكامها الذين لم تخترهم بمحض إرادتها، فكما أنها تخرج اليوم بكثافة للتظاهر ضد العدوان الصهيوني الغاشم، فإنه سوف تأتي اللحظة التي ستخرج فيه للتظاهر ضد حكامها.
الخيط الرابع: التسويق الصهيوني لأسطورة الإرهاب الإسلامي العالمي.
يلاحظ أنه بشكل خفيف قبل بداية الألفية الثالثة، وبشكل كثيف عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، راحت مختلف الجهات الغربية؛ السياسية والإعلامية والفكرية والدينية وغيرها، تروج فكرة الإرهاب الإسلامي العالمي، حيث ينعت الإسلام بالعدو الجديد، وبالخطر الأخضر، الذي يشكل تهديدا خطيرا في عقر دار الغرب وخارجها، وقد تضافرت الكتابات الصحافية والبرامج الفضائية والمواقع الرقمية والأبحاث الأكاديمية، لدعم هذه الفكرة وتبرير مواجهتها، بالقانون والإعلام والسلاح.
وفيما يتعلق بنظرة الفكر الغربي المعاصر إلى الإسلام، يمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات رئيسة:
1- الاتجاه الأول: يعبر فيه أصحابه عن رفضهم القاطع للهيمنة الغربية على العالم الإسلامي، وتجاوزاتها في فلسطين والعراق وغيرهما، وقد تمت الإشارة آنفا إلى كل من هانس يونغ، وروجيه جارودي.
2- الاتجاه الثاني: يحاول فيه أصحابه طرح تفسير موضوعي لعلاقة الإسلام بالغرب، غير أنهم يتهاونون في دراسة بعض الجوانب المظلمة من هذه العلاقة، كالاحتلال الإسرائيلي، والإرهاب الأمريكي، وازدواجية الديمقراطية الغربية، وغيرها. ونتريث في هذا الصدد عند المفكر الغربي برنارد لويس الذي يرى في كتابه (أزمة الإسلام الجهاد وجذور الغضب)، أنه طرأت في السنوات الأخيرة تغيرات على نظرة المسلمين إلى الغرب، فهو يفرق بين ثلاثة مواقف أساسية؛
الموقف الأول يرى في الغرب عامة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية خاصة عدوا للإسلام، الذي يشكل المعرقل الوحيد في طريق تجديد الاتكال على الله والتأهب لتحقيق النصر محليا وعالميا، ولا يتم ذلك إلا بالكفاح إلى حد الموت قصد نشر أحكام هذا الدين.
أما الموقف الثاني فيقدر التقدم الغربي على الصعيد العلمي والتكنولوجي والحقوقي، غير أن ذويه يظلون متشبثين بعقيدتهم وثقافتهم الأصلية، ويسعون إلى التعايش السلمي مع الغرب.
في حين أن الموقف الثالث ساخط على الغرب، لكنه يدرك وزن قوته، فهو يظهر بأنه يسعى مؤقتا إلى التعايش والتصالح معه، حتى يتمكن من الاستعداد الكافي للدخول مستقبلا في حرب مصيرية ضد الغرب(9).
ثم نتوقف عند الخبير المسيحي جيمس بيفيرلي، الذي يذهب في كتابه (دليل حول الإسلام) إلى أن ثمة نوعين من الإسلام، حيث الفريق الأول يبرر ويساند عمل الإرهاب العالمي باسم الله، أما الفريق الثاني فيخالفه، إذ يرى أن أحداث 11 سبتمبر بمثابة خيانة للإسلام والرسول والقرآن(10).
3- الاتجاه الثالث: يعلن أصحابه صراحة عداءهم للإسلام، الذي يعتبرونه سبب كل الشرور والويلات، وتدعم هذا الاتجاه الكثير من الجهات السياسية والثقافية والإعلامية، كالصهيونية واليمين المتطرف وحركة المثليين وحركة المرتدين وغيرها.
في الحقيقة إن موضوع البحث لا يسمح بدراسة هذه الاتجاهات بإسهاب، غير أنه ما الداعي إلى التطرق إليها في هذا السياق الخاص بالقضية الفلسطينية.
عود على بدء، لقد تمت الإشارة في بداية هذه الورقة إلى أن المقاومة الفلسطينية تشكل بإرهابها خطرا على الشعب الإسرائيلي، مما جعل اللوبي الصهيوني ينجح في تسويق فكرة أن حركة حماس إرهابية، رغم أنها في موقع المقاوم والمدافع، وقد تجاوب مع هذا الخطاب الكثير من المثقفين والمفكرين والإعلاميين والسياسيين، لا سيما الاتجاه الثالث المشار إليه أعلاه، وهو في الواقع صناعة صهيونية خالصة، وهناك أكثر من دليل ملموس على ذلك، وأود أن أشير إلى اثنين منهما؛ يتحدد أولهما في أن أولئك يدافعون باستماتة عن المشروع الصهيوني في فلسطين، ويقولون أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأن من حقها الدفاع عن نفسها ولو عن طريق إلحاق المجازر والإبادات والمحرقات بالشعب الفلسطيني، وأن عملها في المنطقة ينبغي أن يدعم ماديا ومعنويا، ما دام أنها تساهم بقسط عظيم في استئصال جذور الإرهاب الإسلامي في تربته الأصلية.
ويتعين ثانيهما في أن أولئك المنخرطين في الذود عن المشروع الصهيوني، يتلقون دعما ماديا ورمزيا من الكيان الإسرائيلي، في شكل مبالغ مادية هائلة، وجوائز نقدية قيمة، وزيارات متنوعة لدولة إسرائيل.
هكذا نجحت الصهيونية الجديدة في تسويق فكرة الإرهاب الإسلامي العالمي، بعد أن نجحت الصهيونية التقليدية في تأسيس الكيان الإسرائيلي على أول قبلة للمسلمين، حيث إنه كان في الماضي القريب من المحرمات في العالم العربي والإسلامي الحديث عن وجود دولة إسرائيل، أما في الآونة الأخيرة فأصبح الجميع يرى أن هذه الدولة صارت من المسلمات، حيث أن الكثير من الأنظمة العربية والإسلامية تفتخر بإبرام علاقات دبلوماسية معها، بل والأفظع من ذلك أن آلاف المواطنين العرب والمسلمين يحلمون بالهجرة إلى إسرائيل والعمل فيها!
وقد تمكنت إسرائيل من تحقيق هذا النجاح في زمن قياسي، يحمل الكثير من المفكرين والإعلاميين الغربيين على الانبهار بها والإعجاب بمشروعها الديمقراطي المتميز، بل وأن ثمة من يتحدث عن المعجزة الإسرائيلية، في حين يغيب السياق التاريخي الذي تم فيه تأسيس هذا الكيان، حيث استحوذت مرتزقة من الصهاينة بدعم من الاستعمار البريطاني على أرض فلسطين، التي ما تفتأ تعيث فيها فسادا، موظفة مختلف أساليب الخداع السياسي والتآمر والترهيب والتجويع وتزييف الحقائق وما إلى ذلك،
وقد خص المفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي الكيان الصهيوني بكتاب يحمل عنوان (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية)، وقد أثار ضجة عارمة على المستوى السياسي والإعلامي، كانت نتيجته أن اتهم الكاتب بمعادة السامية، فتوبع قضائيا، و"طبقًا لقانون فابيوس جيسو، تمت محاكمة جارودي وغرمه القاضي 20.000 دولار، استأنف جارودي الحكم. واعتدى صهاينة بيتار على الصحافيين والإعلاميين العرب والإيرانيين على عتبة المحكمة، وطاردوهم حتى محطة مترو الأنفاق وأصابوهم بما يستلزم علاجًا في المستشفى.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد تلقى جارودي عدة مكالمات هاتفية تهدده بالقتل، وتم الاعتداء على المكتبات التي تبيع كتبه في فرنسا وسويسرا واليونان، حتى امتنعت عن ذلك"(11).
يقول جارودي عن كتابه هذا الذي كان سبب كل هذه الضجة والمعاناة: "ولا يرمي هذا النقد، الذي سقت جميع أسانيده من مصادر موثقة، إلى الدعوة للقضاء على دولة إسرائيل، بل يهدف بالأحرى إلى نزع القداسة عنها. فالأرض التي قامت عليها هذه الدولة، والتي لا تختلف عن أي أرض أخرى، ليست أرضا موعودة بل هي أرض تم الاستيلاء عليها، شأنها شأن أراضي فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وفقا لموازين القوى السائدة في كل عصر من العصور"(12).
قياسا على هذا، فإن المقاومة الفرنسية أو الهولندية للاستعمار النازي في حينها يمكن اعتبارها إرهابا، ما دام أن الإعلام والفكر الغربيين يريان في المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي إرهابا، وفي المقاومة الإسلامية ضد الغزو الأجنبي لأراضيها إرهابا، فهل يقبل أي فرنسي أو هولندي وطني بهذا الوصف! فإن كان لا يقبل بذلك، وهذا أكيد، فما عليه إلا أن يعيد النظر فيما يجري حوله، ويراجع أفكاره التي يدعي أنها على صواب!
......يتبع/ج2[/align]