الوطنية وأنسنة الهوية 3/3
(الأحد 13 شوال 1429 الموافق 12 اكتوبر 2008)
د. سعد بن عبدالله البريك
تشير بعض الإحصاءات إلى أن عدد الفضائيات العربية حوالي 480 قناة، ومن المتوقع أن تتجاوز 1000 قناة في الأعوام القليلة المقبلة؛ إذ بلغ معدل نمو هذه الفضائيات 163% خلال السنوات الأربع الأخيرة، 73.8% قنوات خاصة غير حكومية..
وتبلغ نسبة القنوات التي تقدم برامجها باللغة العربية 90% من هذه القنوات؛ ما دفع عدداً كبيراً من الجهات الإعلامية الغربية إلى الاتجاه نحو إنشاء فضائيات تبث باللغة العربية؛ نظراً إلى طبيعة السوق الفضائي العربي الجاذب للاستثمار في هذا المجال. لكن هذا النمو الهائل في عدد الفضائيات العربية يصدق عليه قول القائل:
وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
ففي استطلاع للرأي أجريتُه على الموقع الشخصي عن أثر الفضائيات العربية رأى 52% من المشاركين أن هذه الفضائيات تسهم في تغريب المسلمين، بينما ذهب 31% منهم إلى أنها تزيف قضايا الأمة، فهناك نسبة 90% من برامجها موجهة لهدم عقيدة الأمة وغزوها ثقافياً وفكرياً، بينما تتقاسم البرامج الوطنية والترفيهية والدينية النسبة الباقية، حيث لا تتجاوز البرامج الدينية في أحسن تقدير نسبة 5%.
وهذا يؤكد ما كنتُ أقوله في غير مناسبة أن كثيراً من هذه الفضائيات يسهم في إضعاف الانتماء للأمة بطرق ووسائل شتى، منها: 1 مخاطبة الغرائز وهدم القيم، 2 محاربة اللغة العربية بفتح المجال واسعاً لانتشار الدعوة إلى اللغة المحلية بدلاً من اللغة العربية، ومعلوم أن اللغة وعاء الفكر، 3 إثارة الخلافات السياسية، وإتاحة الفرصة لبعض المارقين لدعوة السُّذَّج بالخروج وشق عصا الطاعة؛ الأمر الذي أوقع بعض ضعاف النفوس وقليلي البضاعة من العلم، وأصحاب الثقافة المزجاة، وأقنعهم بصدق دعاوى هؤلاء.
والأخطر من ذلك كله ما كشفت عنه بعض الأبحاث الإعلامية أن 80% من برامج بعض الفضائيات العربية يتم استيراده من الخارج سواء كانت أفلاماً أو مسلسلات مدبلجة أو أفلام كرتون أو أفلاماً وثائقية؛ ما يعني أن المشهد الإعلامي العربي في معظمه مستنسخ من نظيره الغربي؛ الأمر الذي يسهم في سلخ الانتماء عن الدين والأمة، وبث الاغتراب والانبهار مع ما يصاحب ذلك من آثار اجتماعية أخرى.
ولعل سبب ذلك هو غياب استراتيجية إنتاج إعلامي أصيلة، والسعي نحو الربح المادي ولو كان على حساب الحصانة الفكرية والثقافية للمجتمع؛ ما جعل الكثير من الفضائيات العربية لا تعدو أن تكون بوقاً للإعلام الغربي بما يمثله من قدرة على اختراق الثقافة والتأثير على هوية الأمة وتشكيل أطرها الفكرية والعقدية.
ومن هنا فإني أوجه الدعوة إلى الفضائيات العربية لكي تقدم مضموناً ثقافياً وعلمياً وأخلاقياً منبثقاً من دين الأمة ومُثُلها وقيمها، وليس ذلك بالأمر العسير على أمة تفوق المليار وتملك من الإمكانيات المادية والبشرية ما يعينها على ذلك، ولا أدل على هذا من وجود 11 قناة فضائية شيعية لم تجد أي تعارض أو تضاد بين تدين خطابها الإعلامي في المظهر بالتزام المذيعات بالحجاب وفي المضمون بالتزام نهج ينبع من الموروث العقدي والمنهجي لهذه الطائفة، وبين مراعاة المعاصرة والواقعية في الطرح.
وأول ما يجب على جمهور الفضائيات العربية طرحه هو ما يسهم في توحيد الكلمة والفكر وتأكيد الهوية ونشر الوعي الاجتماعي والثقافي وعرض برامج تعزز الانتماء إلى الدين والوطن والأمة، ويأتي في مقدمة ذلك الدعوةُ إلى التوحيد، ووضع خطط إعلامية لترسيخه في نفوس الناشئة والكبار والصغار والرجال والنساء.
فالتوحيد أساس كل وحدة، وعندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كان العرب مللاً شتى ونحلاً مختلفة وقبائل متناحرة وعصبيات متقاتلة، فلما استقر توحيد الله في نفوسهم وتشبعت به قلوبهم وارتوت به جوارحهم؛ توحدت صفوفهم وأصبحوا يداً واحدة.
فلو أن هذه القنوات اهتمت بجانب الانتماء والهوية لبات بإمكاننا تزويد أجيالنا الناشئة بجرعات كبيرة من هذه المادة الأساسية التي لا غنى لأي أمة عنها؛ إذ يبلغ متوسط عدد ساعات مشاهدة النشء للتلفزيون 5 ساعات خلال العطلات، و2.5 ساعة خلال فترات الدراسة، وهذا يعني أننا نستطيع عبر الصورة وفيلم الكرتون والنشيد والبرنامج الترفيهي أن نسهم في تحصين انتمائهم وأصالتهم، وهو أمر ممكن في ظل برامج فضائية مدروسة وخطط إعلامية هادفة مع توجيه ورعاية من الوالدين، والتوجيه يكفي؛ لأن فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تحتاج لتنميتها سوى التوجيه الرشيد والمحضن الآمن.