بسم الله الرحمن الرحيم
أضع بين يديكم مقاطع مختارة من شريط للشيخ ( محمد بن صالح المنجد ) بعنوان ( هكذا فعل هؤلاء ) وقد جعلته على شكل سلسة متجددة نسأل الله أن ينفع بها
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
اهتمام السلف بالوقت
عنى القرآن والسنة بالوقت من نواحٍ شتى وبصور عديدة ، فقد أقسم الله به في مطالع سور عديدة بأجزاء منه مثل الليل ، والنهار ، والفجر ، والضحى ، والعصر ، كما في قوله تعالى : { واللَّيْلِ إِذَا يَغْشى . والنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } ، { وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ } ، { وَالضُّحَى . وَاللَّيْلِ إذا سجى } ، { وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِيْ خُسْر } .
والله تعالى إذا أقسم بشيء من خلقه - زمان أو مكان أو شخص - دلَّ ذلك على أهميته وعظمته ، وليلفت الأنظار إليه وينبه على جليل منفعته .
وقد جاءت السنة لتؤكد على أهمية الوقت وقيمة الزمن ، وتقرر أن الإنسان مسئول عنه يوم القيامة ، فعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه) رواه الترمذي ( 2416 ) وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (7299 ) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الوقت نعمة من نعم الله على خلقه ، وأن كثيراً من الناس يُحرَم من خيره فينشغل بالمعاصي ، ويترك ما أوجب الله تعالى وأمره به .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة ، والفراغ " ، رواه البخاري ( 6049 ) .
من أحوال السلف مع الوقت
قال ابن مسعود : "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي" .
وقال الحسن البصري : يا ابن آدم ، إنما أنت أيام ، إذا ذهب يوم ذهب بعضك.
وقال : يا ابن آدم ، نهارك ضيفك فأحسِن إليه ، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك ، وإن أسأت إليه ارتحل بذمِّك ، وكذلك ليلتك .
وقال : الدنيا ثلاثة أيام : أما الأمس فقد ذهب بما فيه ، وأما غداً فلعلّك لا تدركه ، وأما اليوم فلك فاعمل فيه .
وقال ابن الجوزي : ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته ، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة ، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل ، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل .
وقال ابن القيم : إضاعة الوقت أشد من الموت ؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة ، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها .
مواقف للسلف في حفظ الوقت :
حماد بن سلمة
هذا حماد بن سلمة ، يقول عنه تلميذه عبد الرحمن بن مهدي : " لو قيل لحماد بن سلمة : إنك تموت غداّ، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً .
وقال موسى بن إسماعيل التبوذكي : لو قلت لكم : إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاًَ ، لصدقت ؛ كان مشغولاً : إما أن يحدث ، أو يقرأ ، أو يسبِّح ، أو يصلي ، وقد قسّم النهار على ذلك .
الخليل بن أحمد
وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي يقول : أثقل الساعات عليّ : ساعة آكل فيها .
أبو يوسف
وأبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه ، يباحث - وهو في النزع- بعض عُوّاده في مسألة فقهية: " قال تلميذه القاضي إبراهيم بن الجراح : مرض أبو يوسف فأتيته أعوده فوجدته مغمى عليه ، فلما أفاق قال لي : يا إبراهيم ، ما تقول في مسألة ؟ قلت : في مثل هذه الحالة ؟! قال : ولا بأس بذلك ، ندرس لعلّه ينجو به ناجٍ . ثم قال : يا إبراهيم ، أيما أفضل في رمي الجمار ، أن يرميها ماشياً أو راكباً ؟ قلت: راكباً . قال : أخطأت . قلت : ماشياً . قال : أخطأت . قلت : قل فيها ، يرضى الله عنك . قال : أما ما كان يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن يرميه ماشياً ، وأما ما كان لا يوقف عنده فالأفضل أن يرميه راكباً. ثم قمت من عنده ، فلما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه ، وإذا هو قد مات رحمة الله عليه "
وهذا الحافظ عُبيد بن يَعيش شيخ البخاري ومسلم
روى عنه عمار بن رجاء قال : " سمعت عبيد بن يعيش يقول : أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث " .
ابن جرير الطبري آية من الآيات في حفظ الوقت :
كان يصلي الظهر ، ويجلس يكتب في تصنيفه إلى العصر ، ثم يجلس للناس يقرئ ويُقرأ عليه إلى المغرب ، ثم يجلس للفقه والدرس إلى العشاء الآخرة ، ثم يدخل منزله ، وقد قسم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وقفه الله عز وجل .
وقال الخطيب البغدادي : سمعت السِّمسمي يحكي أن ابن جرير مكث أربعين سنة ، يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة .
وهذا شيخ المحدثين الخطيب البغدادي
كان يمشي وفي يده جزء يطالعه . وما ذلك إلا للحفاظ على الوقت، وكسب الزمن أن يذهب فراغاً أثناء المشي دون استفادة به في جنب العلم .
وهذا الإمام سليم الرازي أحد أئمة الشافعية المتوفى سنة 447 هـ
أنه نزل يوماً إلى داره ورجع ، فقال : قد قرأت جزءاً في طريقي . قال أبو الفرج : وحدثني المؤمل بن الحسن أن رأى سليماً حفي عليه القلم ، فإلى أن قطّه جعل يحرك شفتيه ، فعلم أنه يقرأ بإزاء إصلاحه القلم ؛ لئلا يمضي عليه زمان وهو فارغ".
أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي
يقول ابن عقيل : " إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة ، وبصري عن مطالعة ، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره ، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة . وأنا أقصّر بغاية جهدي أوقات أكلي ، حتى أختار سفّ الكعك ، وتحسّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ ، توفراً على مطالعة ، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه ، وإن أجلّ تحصيل عند العقلاء - بإجماع العلماء - هو الوقت ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص ، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة " .
ابن الجوزي
يقول حفيده أبو المظفر : سمعت جدي يقول على المنبر في آخر عمره : كتبت بإصبعيّ هاتين ألفي مجلد.
وقال الذهبي : وما علمت أحداً من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل .
ونقل القمي في " الكنى والألقاب " أن براية أقلام ابن الجوزي التي كتب بها الحديث جمعت فحصل منها شيء كثير ، وأوصى أن يسخن به الماء الذي يغسل به بعد موته ، ففعل ذلك فكفت وفضل منها .
شيخ الإسلام ابن تيمية :
قال ابن شاكر الكتبي : إن تصانيفه تبلغ ثلاثمائة مجلد . قال الذهبي : وما يبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد .
قال ابن القيم : وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه ، وكلامه ، وإقدامه ، وكتابته ، أمراً عجيباً فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر .
مجد الدين ابن تيمية (جد شيخ الإسلام ابن تيمية)
يروي ابن رجب الحنبلي عنه أعجوبة ، فيقول : " قال شيخنا أبو عبد الله ابن القيم : حدثني أخو شيخنا عبد الرحمن بن عبد الحليم بن تيمية ، عن أبيه ، قال: كان الجد - مجد الدين - إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب ، وارفع صوتك حتى أسمع . قلت (ابن رجب) : يشير بذلك إلى قوة حرصه على العلم ، وحفظه لأوقاته " .
النووي :
قال ابن العطار تلميذ النووي : ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى أن كان لا يضيع له وقتاً ، لا في ليل ولا في نهار ، إلا في الاشتغال بالعلم حتى في الطريق يكررّ أو يطالع ، وأنه دام على هذا ست سنين ، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق ، وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة بعد عشاء الآخرة ، ويشرب شربة واحدة عند السّحر ، ويمتنع عن أكل الفواكه والخيار ، ويقول : أخاف أن يرطب جسمي ويجلب لي النوم .
ابن النفيس الفقيه مكتشف الدورة الدموية
قال عنه برهان الدين إبراهيم الرشيدي : " كان العلاء بن النفيس إذا أراد التصنيف توضع له أقلام مبرية، ويدير وجهه إلى الحائط ، ويأخذ في التصنيف إملاءً من خاطره ، ويكتب مثل السيل إذا انحدر ، فإذا كَلَّ القلمُ وحَفِيَ رمى به وتناول غيره ، لئلا يضيع عليه الزمان في بري القلم " .