قبل الوصول لثورة يوليو ودروسها، هناك درس مهم للزعيم مرسى من الزعيم سعد زغلول؛ فالقارئ يجد أن التحديات واحدة وإن تحفظ البعض على الزعامات؛ فسعد يواجه الاحتلال والسراى التى يسعى للحد من تدخلها فى الشأن السياسى، ومرسى يواجه النظام القديم والمجلس الأعلى للقوات المسلحة للحد من طموحه ونفوذه فى السلطة، وهما يعتمدان على البرلمان والوزارة ليتمكنا من سلاحهما السحرى وهو الشعب.
الجماهير تهتف بالميدان بحياة محمد مرسى مبتهجة بالديمقراطية منددة بحل البرلمان، ويوم افتتاح البرلمان بعد ثورة 19م كان عيداً للمصريين ومظاهرات الفرح تجوب الشوارع تهتف بحياة سعد، هى نفس المشاعر تقريباً عندما أحس الشعب فى تلك اللحظات أنه يمتلك السلطة.
وهناك أيضاً مطلب الإفراج عن السجناء السياسيين؛ وعد به سعد ونفذه غداة توليه الوزارة، ووعد به مرسى، وقد لا يأتى العيد إلا وجميع المسجونين السياسيين فى بيوتهم بعد اكتمال ملامح الوزارة الجديدة.
المشهد قريب والروح الجماهيرية الحميمة الحماسية واحدة تقريباً، وقارئ التاريخ لا يندهش لهذه الأمواج المصرية المتدفقة فى الميدان عند كل كبيرة وصغيرة، والجموع كانت تتوافد على بيت الأمة فيخرج سعد ويتواصل معها ويلبى مطالبها.
المعضلة الحقيقية أمام الثورة وأمام وزارة الوفد وأمام سعد هى نفس المعضلة التى تواجه مرسى والثورة اليوم، وهى ما يُطلق عليها الدولة العميقة، التى من الممكن أن تُفشل بكل سهولة جهود التغيير وأن تهزم أعظم الحكومات.
فكيف استطاع سعد ووزارته تغيير جهاز الدولة لصالح الحركة الثورية، ليصبح "زغلولياً" لحماً ودماً كما كان يردد سعد.
كيف يمكن لمرسى ووزاراته أن يفعل ذلك لصالح الثورة وتحقيق مطالبها، ليصبح جهاز الدولة "ثورياً" – وليس مُرسياً – لحماً ودماً؟!
هذه هى المعركة الحقيقية للثورة، أن تنجح أو تفشل فى إدارة الصراع داخل الدولة العميقة لصالحها، بدون إجراءات ثورية وجراحات استئصالية تنعكس بردات فعل انتقامية.
الوفد كان قد حسم ارتباطه بالشعب وحقق نجاحات جماهيرية فى مواجهة الاحتلال والملك وحزب كبار الملاك، والإخوان المسلمون بمساندة القوى الثورية والتيارات الإسلامية الأخرى حققوا نجاحات ملموسة فى هذا الجانب فى مواجهة فلول نظام مبارك ورجال أعماله ورموز حزبه، وفى النزاع السياسى البارد مع قيادات المؤسسة العسكرية، تُوجت بالوصول أخيراً إلى سُدة الرئاسة.
بقى الصراع السلمى الأخطر وهو ما عُرف أيام سعد بمسألة الموظفين، ويُطلق عليه اليوم "الدولة العميقة" أو تندراً "الغويطة".
يَنقل المستشار طارق البشرى عن الدكتور هيكل فى مذكراته أنه سمع سعداً يقول: "إن أخطر مشاكل الحكم، القضية الوطنية والموظفون".
الموظفون الإنجليز كانوا يحتلون أهم المراكز فى أهم المصالح والوزارات وفى الجيش والبوليس، فلجأت الوزارة الوفدية إلى الحد من سلطة الموظفين الأجانب وبدأت ترفض التجديد لمن تنتهى عقود توظيفهم، ونجحت فى إخراج الكثيرين.
المسألة ليست هينة على الإطلاق؛ فهى محاولة لإجلاء الاحتلال المدنى من داخل جهاز الدولة، بما لهؤلاء الموظفين من روابط وصلات قوية فى قلب الأجهزة.
واتسم سعى الحكومة بالحذر مع تصاعد شعور الإنجليز بالخطر، لذلك عمدت الوزارة إلى التزام الشرعية وإلى التدرج على مستويين: الحد من السلطات ورفض تجديد العقود.
وبعد تولى الوزارة أُحيل بعض المديرين ووكلائهم وبعض مأمورى المراكز إلى المعاش وأُجريت تنقلات واسعة بين كبار الموظفين تبعد خصوم الوفد عن المراكز العامة، بدون تعمد لإثارة الخصوم، وعينت الوزارة الكثير من أنصارها.
نحن إذاً فى انتظار الوزارة التى تغير فى بنية الدولة الغويطة، تأليفاً وتوثيقاً للروابط بينها وبين الثورة والشعب، بعد أن نجح النظام بالامتيازات الخرافية والبدلات والحوافز والمرتبات والألقاب الأسطورية فى عزلها عن الشعب والاعتماد عليها كأكبر عائق أمام التغيير.