الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله
مدخل بدأ ارتباطي ومعرفتي بحقل البرمجة اللغويّة العصبيّة (البرمجة اختصارًا) منذ أحد عشر عامًا، حيث بدأت رحلتي معها بقراءة كتاب عن البرمجة اللغوية العصبية وضعه الصديق الدكتور محمد التكريتي، وبعد فراغي من الكتاب والتأمل في تقنيات البرمجة المقترحة أحسست أنّه
ومما أزعجني في البرمجة أنّها تعتمد على المنهج النّفعيّ (سيأتي توضيح ذلك بالتفصيل) وغيرها من الأمور. والحقيقة أنّني حينذاك لم أكنْ على دراية بالأسس الفلسفيّة للبرمجة لعدم وقوفي على المصادر الأصليّة لها، حيث إنّها لم تكن البرمجة من جملة اهتماماتي الأساسيّة، فذهبت بضع سنوات وأنا أحمل ذات القناعات حيال البرمجة، وكنت طيلة تلك الفترة أسرب بعض قناعاتي "المبدئية" لبعض الأصدقاء وأجد تفاوتًا في الآراء.
ثم ما لبثت البرمجة أن انتشرت بشكل لم يكن يخطر على بالي (مع أنّني مصرّ على أنّها موضة أو هكذا يجب أنْ تكون!)، فتنافست مراكز التدريب وكثير من المدربين المرموقين في العالم العربيّ على التبشير بها، وجعلت جحافل الترويج للبرمجة تقرع كلّ أذن وتقع على كلّ عين، واحتدم النقاش بين مؤيّدين ومعارضين، وتوقف قوم، فلا هم من هؤلاء ولا من هؤلاء، ومع شيء من القراءة والنّقاش اتضح لي معالم جديدة في البرمجة زادت من مخاوفي السابقة، فقررت أن أبدأ رحلة أخرى مع البرمجة، رحلة أكثر عمقًا تمكّنني من الوقوف على جوهرها، فكان لزامًا عليّ أنْ أبدأ بالفلسفة التي تقوم عليها البرمجة، مرورًا بأطرها الثقافيّة والنفسيّة.
ولقد خلصت بعد ذلك إلى كتابة بحث نقديّ تضمن بعض النتائج التي رأيت أنّها جديرة بالطرح والنقاش في الساحة الثقافيّة، علّها تكون معينًا لنا على الوصول إلى الحقيقة تجاه البرمجة بكل تجرّد وموضوعيّة. ولقد حرصت على صياغة البحث بأسلوب علميّ سهل، ولذا فإنّني أرجو أنْ يجده القارئ "خفيف الظلّ"، مع التأكيد على أنّ قراءة موضوع كهذا يجب أنْ تتلبّس بالتأنّي والتأمّل.
مقدّمات حول البحث
تحاول هذه المقالة ممارسة العمل النقديّ لحقل البرمجة من حيث المنطلقات والآثار و الانعكاسات. وفي هذه الممارسة النقديّة سيتمّ التركيز على الأسس التالية:
1- الأُسس الفلسفيّة والمنهجيّة للبرمجة.
2- الأُسس الثقافيّة للبرمجة.
3- الأُسس النفسيّة.
وقبل البدء بمناقشة هذه المحاور يتعين علينا الإشارة إلى بعض القضايا الهامّة التي تشكل إطارًا يساعد على فهم الممارسة النقديّة في هذه الورقة البحثيّة.
<!--[if !supportLists]-->أ- <!--[endif]-->العمل النقديّ في هذه الورقة يؤمن بوجوب دوران الحركة النقديّة في فلك التحليل الحضاريّ، الذي يتفهم تموضع ووظيفة الثقافة في مسار التحضّر، ويدرك سير الأمة وتقلباتها في هذا المسار. ومع استفراغ الوسع للتلبّس بهذه الصّفة، لا تدّعي هذه الورقة أنّها حقّقت نجاحًا كبيرًا في القيام بهذه المهمة العسيرة. ونحن في هذا السياق نؤكّد على أهميّة وجود محاولات جادّة في سبيل رسم الإطار النظريّ والمفاهيميّ للحركة النقديّة الثقافيّة الحضاريّة (2).
ب- إنّ الممارسة النقديّة للبرمجة ستوجه بشكل رئيس إلى إطارها وفلسفتها ونسقها العام دون ملامسة تفاصيلها وتقنياتها وطرقها العمليّة، إلا على سبيل إيراد بعض الأمثلة والشواهد على ما نسوقه في هذه الممارسة النقديّة.
ت- إنّ هذه الممارسة لا تدّعي الإتيان على كافة القضايا المهمة المتعلقة بحقل البرمجة، وذلك طلبًا للاختصار والتركيز، مع الإشارة إلى أهميّة وجود دراسات أكثر شمولاً وعمقًا.
ث- اتّكأ هذا العمل النقديّ على مقولات ورؤى وفلسفة منظري الحقل، ممن يشهد لهم بالريادة والتأثير النظريّ والعمليّ على حقل البرمجة.
ج- تناول العمل النقديّ بعض الجوانب المتعلقة بالمتخصصين في البرمجة في العالم العربيّ الإسلاميّ، دون الدخول في مناقشة تفصيليّة لآرائهم حيال البرمجة فلسفيًا ونظريًا مع إيمان الباحث بأهميّة ذلك لانطواء بعضها على ما يستوجب العمل النقديّ الجادّ.
ح- في هذه الممارسة نثبت النصّ الإنجليزيّ لبعض القضايا الهامة بجانب الترجمة العربيّة وذلك للتوثيق العلميّ، والتأكّد من مدى وجود فهم مشترك للنّص.
وبعد هذه المقدمة المختصرة، يتعين علينا البدء بتعريف حقل البرمجة كي يكون ذلك منطلقًا لفهم واستيعاب بنية الحقل وفلسفته وأهدافه ومنهجيّته وتطبيقاته ومجالاته.
ما هي البرمجة اللغويّة العصبيّة؟
البرمجة حقل معرفي نشأ وتبلور في السبعينيّات الميلاديّة على أيدي مجموعة من المنظّرين والفلاسفة الغربيّين أبرزهما على الإطلاق "ريتشارد باندلر" و"جون قريندر(3)" Richard Bandler & John Grinder ، وشاركهما في تأسيس وتأطير وتطوير الحقل جملة من المنظرين الآخرين أمثال "روبرت ديلتس" و (4)"جوديث ديلوزير" Rober Dilts & Judith Delozier,. مع أنّه يجب أنْ نأخذ في الاعتبار أنّ هذا الحقل قد تأسس على بعض الرّؤى الفلسفيّة لمجموعة أخرى من الفلاسفة الغربيّين (5). حقل البرمجة يتعاطى مع الظواهر الإنسانيّة من خلال ثلاثة مكوّنات هي: الجهاز العصبيّ Neuro واللّغة ******************************** و البرمجة Programming، وهذه المكوّنات الأساسيّة أعطت للحقل اسمه المعروف البرمجة اللغويّة العصبيّة Neuro-Linguistic Programming (NLP) . ولعلنا نورد هنا بعض التعريفات للبرمجة، مع حرصنا على إثبات تعريفات كبار منظّري وفلاسفة حقل البرمجة. يعرف ريتشارد باندلر البرمجة بقوله:
" إنّ البرمجة اللغويّة العصبيّة هي اتجاه (أو توجه) و منهجيّة يخلفان أثرًا من جراء تطبيق بعض التقنيات"
“NLP is an attitude and a methodology, which leave behind a trail of techniques”(6)
في حين يذهب روبرت ديلتس أن "البرمجة اللغويّة العصبيّة هي كل ما يحقق النتائج"
“ NLP is whatever works” (7)
ويعضد هذه المعاني ما جاء في موسوعة البرمجة (8) المعدة من قبل اثنين من أبرز روّاد ومنظري البرمجة وهما "روبرت ديلتس" و "جوديث ديلوزير"، حيث يقولون : إنّ البرمجة اللغويّة العصبيّة مدرسة فكريّة نفعيّة – فلسفة للعلوم تعالج المستويات المتعددة في الإطار الإنسانيّ"
“NLP is a pragmatic school of thought - an 'epistemology' - that addresses the many levels involved in being human”(9) .
نقد الأساس الفلسفيّ
نقد الأُسس الفلسفيّة والمنهجيّة للبرمجة
تتمحور نظريّة المعرفة أو الابستمولوجيا أو ما يمكننا تسميته بـ"المعرفيّات" في جوهر التساؤل الفلسفيّ الكبير "عمّا يمكن اعتباره علمًا أو معرفة صحيحة، دقيقة، موضوعيّة"، وحتى لا يعترض علينا البعض ممّن لا يرى، ولا يسلّم بأنّ صفات الصّحة والدّقة والموضوعيّة هي السّمات الأساسيّة للمعرفة الإنسانيّة؛ دعونا نقل "المعرفة الإنسانيّة التي ُيرى أنّها قابلة للتفعيل في المحيط الاجتماعيّ اعتماداً على أسس يتّفق عليها مجموعة من الباحثين". ومدخل المعرفيّات – متجسدًا بذلك السؤال الضخم - يستدعي بالضرورة وضع تعريف ضابط لـ "العلم" أو "المعرفة"، وتحديد - من ثم - وسائل الحصول على المعلومات التي تشكل بنية هذا العلم أو المعرفة، وكل هذا يجب أنْ يشتمل على تأطير حدود هذا العلم أو المعرفة وتحديد صفات الرديء منه والجيّد. وهذا السؤال بذاته مبحث فلسفيّ كبير لا يسعنا الخوض فيه، بل وليس ثمّة حاجة إلى ذلك أصلاً في بحثنا هذا. إذن ما يهمّنا هنا هو الإشارة على عجالة إلى أهم الأسس الفلسفيّة المعرفيّة التي أرى أنّ حقل البرمجة قد تأسّس عليها.
البرمجة والفلسفة البراغماتيّة
يقوم هذا الحقل على ما يسمى بالمنهج النّفعيّ "البراغماتي" Pragmatic Approach ، وهو المدخل الذي يرى أنّ النّفعيّة هي المعيار لتحديد المعرفة الإنسانيّة الصّحيحة الدّقيقة أو التي تمتلك مقوّمات التفعيل في المحيط الاجتماعيّ. إنّه منهج مشابه لمن يتعاطى العلاج بالأعشاب، فكلّ عشب ينفع مع مريض يمكن أن ينفع مع الآخر المشابه في الأعراض والشكوى، دون إخضاعه للتجربة بضوابطها المنهجيّة المحكمة. وكذلك يفعل المتخصصون في البرمجة اللغويّة العصبيّة "أو البرمجيّون - اختصارًا" إذ إنّهم يطبّقون كلّ نموذج "يعمل" دون النّظر في منطلقاته الفلسفيّة والفكريّة أو صحّته التّجريبيّة. بل إنّ منظّري البرمجة يعدون هذا واحدًا من أهمّ مزاياها حيث يقول أصحاب موسوعة البرمجة "روبرت ديلتس" و "جوديث ديلوزير" ما نصه:
“Perhaps the most important aspect of NLP is its emphasis on practicality” (10).
وهنا قد يثور تساؤل جوهريّ بل أكثر مفاده :
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->ما الخطأ في هذا المنهج النّفعيّ الذي يتبناه حقل البرمجة؟
- وهل سلم المنهج العلميّ من الأخطاء، حتى نحاكم الحقول المعرفيّة له ونحكمها بها؟
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->يمكننا تقديم الإجابة على الشطر الثاني من السؤال - لاعتبارات منطقيّة – وذلك بالقول: إنّ المنهج العلميّ باعتباره فكرًا إنسانيًا لا يمكن الزّعم مطلقًا بخلوّه من المثالب والعيوب والصعوبات فلسفيًّا ومنهجيًّا وعمليًّا، غير أنّه أسلم المناهج الذي يمكّننا من الحصول على المعارف الإنسانيّة واختبارها وتجريبها وإنضاجها فلسفيًّا أو علميًّا أو معًا، وربّما تتّضح معالم هذا التميّز والتفوّق من خلال استعراضنا لبعض مثالب وعيوب ونتائج تبنّي المنهج النّفعيّ في الحقول المعرفيّة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ التركيز سيكون على تلك التي لها صِلة أكبر وأوثق بحقل البرمجة.
يمكننا تلخيص أهمّ عيوب المنهج النّفعيّ بالنّقاط التالية:
<!--[if !supportLists]-->1- <!--[endif]-->عدم إمكانية التحقق من نتائجه Verification باعتبار الصّحة المنهجيّة، الفلسفيّة أو التّجريبيّة وباعتبار أثر هذه النتائج من حيث ديمومتها وطبيعتها وقوّتها، وذلك لانعدام وجود معايير وطرق وخطوات منهجيّة وعمليّة للتجربة والقياس والتحقّق. وفي هذا السياق نجد أنّ أسئلة ملحةً كثيرًا ما تعرض لمن يتدرّب على البرمجة دونما إجابة مقنعة من البرمجيّين غير إيراد "مزاعم"– قد تثبت أو تنفى – عارية من كل دليل تجريبيّ أو برهان عقليّ. ويقف على رأس هذه الأسئلة عند كثير من المتدرّبين والمتابعين للبرمجة ما يتعلّق بمدى ثبوت وديمومة الأثر الذي يتحقّق من جراء تطبيق إحدى تقنيات البرمجة.
2- صعوبة تحديد من يمتلك حقّ التّصديق أو "الختم" على أنّ هذه المعرفة أو تلك نافعة "معرفة تعمل وتؤثّر وتُحدث أثرًا مرغوبًا!". وتتأكد الإشكاليّة في هذا السبيل إذا ما رُوعي أنّ حقل البرمجة نشأ وطوّر على أيدي مجموعة من المنظّرين الغربيّين الذين يمتلكون خصائص فلسفيّة ومعرفيّة ونفسيّة وكاريزميّة مميّزة. وفي هذا السّياق يحقّ للناقد أنْ يتساءل:
- هل هذه الخصائص لهؤلاء المنظّرين معياريّة؟
- هل يجب توافرها في كل من يروم تنظيرًا وإسهامًا في البرمجة؟
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->أم ُيفتح باب الاجتهاد "النّفعيّ" لكل أحد دون شرط أو قيد مادام أنّ الحقل يعتنق المبدأ النّفعيّ؟
- هل يوافق من يرى أنّ "المَشْي على الجمر" تقنية برمجيّة نافعة؟ ولماذا لا يكون المَشْي على مسامير نافعًا أيضًا؟ ما المعيار في ذلك؟ أليس النّفعيّة؟
<!--[if !supportLists]-->- <!--[endif]-->
هذه الأسئلة - وأمثالها كثير - تحتاج إلى إجابات "منهجية" (أو قل "مقنعة!" – حتى لا يشغب علينا البرمجيّون على استخدام منهجيّ) من منظّري وفلاسفة المنهج "النّفعيّ"، بحسب قراءتي المتواضعة لأدبيّات البرمجة لم أقف على إجابات مقنعة على تلك الأسئلة الخطيرة. وهنا نتساءل مجددًا عن مدى إمكانيّة الظفر بإجابات من قبل البرمجيّين العرب والمسلمين حيال هذه القضايا ذات البعد الأيدلوجي.
g- ينتج مما سبق مشاكل و صعوبات غاية في التعقيد والخطورة والتي منها:
a- إشكاليّات كبيرة فيما يتعلق بالتعميم Generalization: يمكن استجلاء بعض الإشكاليّات التي تصاحب وتنجم عن المنهج النّفعيّ بخصوص قضية التعميم عبر طرح الأسئلة الخطيرة التالية:
- هل يمكن تعميم "نفعيّة" كل النماذج التي ثبت نفعيّتها عند كلّ أحد؟ أم يلزم ثبوتها عند رواد الحقل ومنظّروه (وفلاسفته!)؟
- هل يمكن تعميم نتائج أو آثار التطبيق؟
- هل الأثر الذي تتركه تطبيقات البرمجة دائم أم مؤقّت؟ وما المعايير في التفريق بين هذا وذاك؟
- أين دور "الثقافة" في التأثير؟
- هل يصلح المنهج النّفعيّ للإجابة على مثل هذه الأسئلة أم أنّنا نحتاج إلى المنهج العلميّ؟!.