في صحيح مسلم بشرح محمد فؤاد عبد الباقي
عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال فى القدر بالبصرة معبد الجهنى.
فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميرى حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحد من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء فى القدر.
فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد.
فاكتنفته أنا وصاحبى.
أحدنا عن يمينه والأخر عن شماله.
فظننت أن صاحبى سيكل الكلام إلى.
فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم. وذكر من
شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر.
وأن الأمر أنف. قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى بريء منهم، وأنهم برآء منى.
والذى يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه
حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: حدثنى أبى عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب.
شديد سواد الشعر.
لا يرى عليه أثر السفر.
ولا يعرفه منا أحد.
حتى جلس إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
فاسند ركبتيه إلى ركبتيه.
ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد! أخبرنى عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وتقيم الصلاة.
وتؤتى الزكاة.
وتصوم رمضان.
وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا" قال: صدقت.
قال فعجبنا له.
يسأله ويصدقه.
قال: فأخبرنى عن الإيمان. قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم
الآخر.
وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال: صدقت.
قال: فأخبرنى عن الإحسان.
قال: "أن تعبد الله كأنك تراه.
فإن لم تكن تراه، فإنه يراك".
قال: فأخبرنى عن الساعة.
قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرنى عن أمارتها. قال: "أن تلد
الأمة ربتها.
وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء، يتطاولون فى البنيان".
قال ثم انطلق.
فلبثت مليا.
ثم قال لى: "يا عمر! أتدرى من السائل؟" قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
(أول من قال بالقدر) معناه أول من قال بنفى القدر فابتدع وخالف الصواب الذى عليه
أصل الحق.
ويقال القدر والقدر، لغتان مشهورتان. واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر.
ومعناه أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء فى القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع فى أوقات
معلومة عنده سبحانه وتعال وعلى صفات مخصوصة.
فهى تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى. (فوفق لنا) معناه جعل وفقا لنا. وهو من
الموافقة التى هى كالالتحام.
يقال أتانا لِتـِيفاق الهلال وميفاقه، أى حين أهل، لا قبله ولا بعده.
وهى لفظة تدل على صدق الاجتماع والالتئام.
(فاكتنفته أنا وصاحبى) يعنى صرنا فى ناحيتيه. وكنفا الطائر: جناحاه.
(ويتقفرون العلم) ومعناه يطلبونه ويتبعونه. وقيل معناه يجمعونه.
(وذكر من شأنهم) هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون يحيى بن يعمر.
يعنى وذكر ابن يعمر من حال هؤلاء، ووصفهم بالفضيلة فى العلم والاجتهاد فى تحصيله
والاعتناء به. (وإن الأمر أنف) أى مستأنف، لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى.
وإنما يعلمه بعد وقوعه. (ووضع كفيه على فخديه) معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على
فخدى نفسه.
وجلس على هيئة المتعلم.
(فعجبنا له يسأله ويصدقه) سبب تعجبهم أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل. إنما هذا
كلام خبير بالمسئول عنه، ولم يكن فى ذلك الوقت من يعلم ذلك غير النبى صلى الله عليه
وسلم.
(الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه الخ) قال القاضى عياض رحمه الله: هذا الحديث قد
اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان وأعمال
الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة
إليه ومتشعبة منه.
(أمارتها) الأمارة والأمار، بإثبات الهاء وحذفها هى العلامة. (ربتها) فى الرواية
الأخرى ربها، على التذكير، وفى الأخرى بعلها، وقال: يعين السرارى.
ومعنى ربها وربتها، سيدها ومالكها وسيدتها ومالكتها.
(العالة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان) أما العالة فهم الفقراء.
والعائل الفقير.
والعيلة الفقر.
وعال الرجل يعيل عيلة، أى افتقر.
والرعاء ويقال فيهم: رعاة، ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة
تبسط لهم الدنيا حتى يتباهون فى البنيان.
( فلبث مليا) هكذا ضبطناه من غير تاء، وفى كثير من الأصول المحققة لبثت، بزيادة ياء
المتكلم. وكلاهما صحيح.
(مليا) أى وقتا طويلا .
وفيه ايضا
حدثنا قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف بن عبد الله الثقفى، عن مالك بن أنس (فيما قرئ
عليه)، عن أبى سهل، عن أبيه، أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول : جاء رجل إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد.
ثائر الرأس.
نسمع دوى صوته ولا نفقه ما يقول.
حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا هو يسأل عن الإسلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس صلوات فى اليوم والليلة" فقال: هل على
غيرهن؟ قال "لا. إلا أن تطوع.
وصيام شهر رمضان" فقال: هل على غيره؟ فقال "لا.
إلا أن تطوع" وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة. فقال: هل على غيرها؟
قال" لا.
إلا أن تطوع" قال، فأدبر الرجل وهو يقول: والله! لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفلح إن صدق".
(ثائر) هو برفع ثائر، صفة لرجل.
وقيل يجوز نصبه على الحال.
ومعنى ثائر الرأس، قائم شعره منتفشه.
(نسمع دوى صوته ولا نفقه ما يقول) روى نسمع ونفقه، بالنون المفتوحة فيهما.
وروى يسمع ويفقه.
والأول هو الأشهر الأكثر الأعرف.
وأما دوى صوته فهو بعده فى الهواء.
ومعناه شدة صوت لا يفهم. (أفلح إن صدق) قيل: هذا الفلاح راجع إلى قوله: لا أنقص
خاصة.
والأظهر أنه عائد إلى المجموع. بمعنى أنه إذا لم يزد ولم ينقص كان مفلحا.
لأنه أتى بما عليه.
ومن أتى بما عليه فهو مفلح. وليس فى هذا أنه إذا أتى بزائد لا يكون مفلحا.
لأن هذا مما يعرف بالضرورة فإنه لإذا أفلح بالواجب، فلأن يفلح بالواجب والمندوب
أولى.