قصة واقعية يرويها صاحبها ..تفضلوا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأبدأ من البداية فأقول لك إنني نشأت ابنا وحيدا لأب يعمل موظفا حكوميا.. وأم لا تعي الذاكرة منها إلا أطيافا غائمة.. لأنها رحلت عن الحياة وأنا في السادسة من عمري, وعشت وحيدا مع أبي الطيب.. يرعاني ويهتم بأمري ويصاحبني في أوقات المذاكرة, ويصطحبني معه في زياراته لشقيقه.. وشقيقته أو أصدقائه.. ولا يطمئن إلا إذا كنت أمام ناظريه.. فحتي حين يذهب إلي المقهي ليلعب الطاولة مع بعض أصدقائه كان يجلسني إلي جواره.
وهكذا عشنا معا صديقين متلازمين حتي بلغت سن الثالثة عشرة, وعدت من المدرسة ذات يوم فوجدت مسكننا يعج بالرجال والسيدات.. ومن بينهن عمتي التي استقبلتني بالبكاء.. واحتضنتني وأبلغتني أن أبي قد توفاه الله فجأة وهو جالس إلي مكتبه في عمله.. وأنني الآن قد صرت رجلا وطالبتني بألا أبكي.. وأن أقف بين الرجال لتلقي العزاء في أبي.. وبالفعل فإنني لم أبك حين عرفت بما حدث, وانما أصابني الذهول.. وراح جسمي ينتفض لا إراديا طوال اليوم واستضافتني عمتي في بيتها لفترة نعمت خلالها بعطفها علي وحنانها.. ثم قيل لي إنني يجب أن أنتقل للإقامة في بيت عمي, لأن زوج عمتي يتضرر من وجودي بين بنتيه اللتين تكبرانني ببضع سنوات, وانتقلت إلي بيت عمي الذي تولي الوصاية علي.. وكان أبي قد ترك لي معاشا ضئيلا لا يتجاوز11 جنيها ونصيبا علي المشاع في فدان من الأرض كان قد ورثه مع عمتي وعمي, وفي بيت عمي هذا أدركت معني اليتم الحقيقي وافتقاد النصير, فلقد واجهني من اليوم الأول بأنه لا مكان لي للمبيت سوي الأرض في غرفة ابنيه, لأن الفراش لا يتسع لغيرهما.. والغرفة الأخري مخصصة لبنتيه, فلم أعترض لكن ليالي الشتاء القاسية كانت تشق علي فطلبت منه أن يشتري لي مرتبة صغيرة أنام عليها, فرفض بحجة أن الحالة لا تسمح بذلك, وشيئا فشيئا وجدتني أتحول تدريجيا إلي خادم للأسرة وليس عضوا فيها من دمها ولحمها.. فزوجة عمي تنتظر عودتي من المدرسة لتكلفني بأعمال البيت وشراء الخضار وكي ملابس ابني عمي وابنتيه.. وغسل الأطباق, ناهيك عن يوم التنظيف الاسبوعي الذي يتعين علي فيه أن أمسح تحت اشرافها الشقة كلها, وابناؤها يتسلون بمشاهدة التليفزيون.. فإذا خلوت من كل الواجبات وبدأت أذاكر دروسي في الصالة لم أسلم من لومها لي لإسرافي في استخدام الكهرباء, وشكواها من فاتورتها.. فاختلس ساعة للمذاكرة علي الأكثر وأسرع بإطفاء النور.. وقد تقطع علي مذاكرتي بتكليفي بالخروج لشراء شيء للبيت أو للأولاد.
أما عمي فقد رفض أن يعطيني مصروفا يوميا أو اسبوعيا, بحجة أنني أتناول الطعام والشراب في البيت.. في حين كان أبناؤه جميعا يحصلون علي مصروفهم وينفقونه علي شراء الحلوي والأشياء الصغيرة.. وحتي الحلاقة كان يرفض أن يعطيني أجرتها.. ولما طال شعري كثيرا وأصبح منظري منفرا أحضر شفرة حلاقة وطلب مني أن أحلق لنفسي مستعينا بوضع الشفرة علي حد المشط وتمريره فوق شعري.. ولم أجد مفرا من أن أفعل ذلك.. أما الكتب والكراريس فلقد قال لي صراحة إن معاشي ونصيبي من الأرض لا يكفيان لطعامي وشرابي, وعلي أن أتصرف في بقية احتياجاتي, فكنت أجمع الكشاكيل القديمة لابني عمي وأنزع منها الصفحات البيضاء وأصنع منها كراسات.. وأستعير الكتب من زملائي.. وأعرض خدماتي يوم الجمعة كل أسبوع علي محال المكوجية والبقالة والفاكهة لأعمل لديها مقابل5 قروش.. بل لقد عملت في محل لتصليح الأحذية أربع جمع مقابل اصلاح حذائي المخروق بالمجان..
ناهيك عن أنني أمضيت السنوات الثلاث الأولي من إقامتي عند عمي دون شراء أية قطعة ملابس حتي صغرت علي ملابسي بشكل فاضح, لأن الشاب ينمو جسمه بسرعة خلال هذه المرحلة.., ورجوت عمي مرارا أن يشتري لي بنطلونا وقميصا مناسبين لطولي وحجمي دون جدوي, وزاد الطين بلة أن جسمي ابنيه بالرغم من أن أحدهما يماثلني في السن والآخر يصغرني بسنة, ضئيلان بحيث لا أستطيع الاستفادة من ملابسهما القديمة, وحين أصبح منظري مثيرا للرثاء توجهت إلي عمتي وشكوت لها حالي, فبكت وقدمت لي جنيهين هما كل ما تستطيع مساعدتي به, فأخذتهما وتوجهت إلي سوق الكانتو واشتريت بهما بنطلونا وقميصا من مخلفات المعسكرات, ومضت بي الحياة علي هذا النحو.. وزاد من معاناتي أنني لم أتعثر دراسيا في حين كان ابنا عمي ينجحان سنة ويرسبان أخري.., وبدلا من أن يعترف لي عمي وزوجته باجتهادي برغم ظروفي القاسية ازدادا نفورا مني حتي لم يعد أحدهما يطيق النظر في وجهي.
وجاءت اللحظة الفاصلة حين عدت ذات يوم من مدرستي فوجدت عمي وزوجته وأبناءه علي هيئة مجلس للعائلة يتناقشون بصخب وعمي ثائر لكثرة المصروفات وزوجته تدافع عن نفسها, بأنها تفعل المستحيل لتدبير معيشة الأسرة بأقل التكاليف, لكن ابن أخيك يسرق الطعام من المطبخ في الليل.. ويأكل كثيرا.. ولو لم يكن يفعل ذلك لما نما جسمه علي هذا النحو الهائل!
ياربي.. أسرق الطعام؟ إنني أحافظ علي صلاتي منذ كنت في السابعة من عمري وأصوم رمضان وصيام التطوع وكثيرا ما صمت يومي الاثنين والخميس, وكثيرا ما اكتفيت بوجبة واحدة وتغاضيت عن تفضيل زوجة عمي لأبنائها بأطايب الطعام والقائها لي ببقاياه.., وكثيرا ما تحلب ريقي وهي تجمع أبناءها في غرفة الأولاد في المساء ليتناولوا عشاء خاصا, وأنا جائع في الصالة ولا يفكر أحد في دعوتي للانضمام إليهم.. وبعد ذلك أتهم بسرقة الطعام, كان هذا آخر احتمالي فانهرت باكيا, وقلت لعمي وللجميع إنني تحملت الذل صابرا في هذا البيت مراعاة لظروفي ويتمي, لكن أن يصل الأمر إلي حد هذا الاتهام المقزز فلا.. ولسوف أغادر البيت وأرجع إلي شقة أبي وأواجه حياتي معتمدا علي نفسي وأريد منه أن يعطيني معاشي كل شهر لأدفع إيجار الشقة وتكاليف الحياة.
وجمعت ما تبقي لي من هلاهيل وكتبي ومددت يدي إلي عمي وكنا في منتصف الشهر طالبا نصف المعاش, وبعد عذاب قبل بمغادرتي لمسكنه, لكنه رفض أن يعطيني معاشي كاملا وهو11 جنيها, وقال لي إنه سيخصم منه ثلاثة جنيهات كل شهر مقابل نفقاتي الاضافية خلال إقامتي لديه!
ولم أجد مفرا من القبول.. وأخذت مفتاح شقة أبي.. وتوجهت إلي صاحبة البيت التي تقيم في الدور الثاني منه, وكنت أمر عليها من حين لآخر وأشرب لديها الشاي وتعطف علي, فرويت لها ما حدث وقلت لها إنني سأعيش وحدي في الشقة بغير مورد سوي ثمانية جنيهات سأدفع لها منها أربعة مقابل الايجار وأعيش بالباقي, وسأعمل لأغطي بقية نفقاتي, فبكت وترحمت علي أمي وأبي وطلبت ألا أدفع لها الإيجار إلي حين تتحسن أحوالي وأصبح قادرا علي ذلك.
ووحيدا تماما من الأهل والأقارب واجهت الحياة في هذه الشقة الصغيرة.. وشعرت برغم قلة الدخل وجفاف الحياة بالأمان والاستقرار, وحصلت علي الثانوية العامة بمجموع كبير يؤهلني للالتحاق بكلية الهندسة.. وسعدت بذلك.. وخلت نفسي من الشماتة لنجاح ابن عمي بمجموع ضعيف لا يؤهله إلا للالتحاق بأحد المعاهد..
وتفضل عمي, الذي كان يراوغني كل شهر في دفع المعاش وأطارده عدة مرات حتي يدفع, بزيارتي في مسكني زيارة خطيرة لينصحني من أجل مصلحتي بالاكتفاء بهذا القدر من التعليم والبحث عن وظيفة كتابية.. أو الالتحاق بأي معهد لمدة سنتين والعمل, وشكرت له حرصه علي مصلحتي وأكدت له أنني سأفعل ما فيه صالحي بإذن الله.
وفي اليوم التالي قدمت أوراقي لمكتب التنسيق وحددت رغبتي الأولي وهي كلية الهندسة. وقبلت بها.. ولن أروي لك عما تكبدته من عناء وحرمان وكفاح خلال دراستي للهندسة مستعينا بالعمل في المساء في مكتب هندسي.. وفي هذا المكتب نشأت صداقة حميمة بيني وبين زميلين بنفس الكلية والمكتب أصبحنا بفضلها أخوة مخلصين وتعاهدنا علي أن يساعد أحدنا الآخر إذا حقق نجاحا يسمح له بذلك.
وحصلت علي بكالوريوس الهندسة بتقدير جيد جدا, وعينت معيدا بنفس الكلية وبدأت التحضير للماجستير في حين رفض صديقاي العمل في مصر.. وسافرا لاستكمال دراستهما العليا والعمل في أمريكا.
وفي غمرة سعادتي بتوفيق الله سبحانه وتعالي لي وشكري له علي أن أعانني علي تحمل ظروفي حتي وصلت إلي بر الأمان, زارني عمي لا ليهنئني بالنجاح والتعيين, وانما ليطلب مني أن أرد له الجميل بخطبة ابنته الكبري التي صادفها حظ عاثر