كثر الخوض في الآونة الأخيرة في هذه المسألة الخطيرة – وللأسف – من غير أهلها ، وكثر الخلط ؛ بل تجرأ البعض على الآيات والأحاديث المتكاثرة ، وكابر مكابرة بغير حجة ، ونسب إلى العلماء ما هم منه براء ، فكان لزاما التنبيه حتى لا يختلط الحابل بالنابل ، ويضيع العامة ويكثر الجدال ويلبس الحق بالباطل ، فلزم البيان فأقول والله المستعان :
إن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية المعتبرة عند أهل السنة والجماعة التي انعقد الإجماع عليها ، وأدلتها أكثر من أن تذكر ، والواقع خير شاهد ، ولم يخالف إلا الجهمية والمعتزلة القدرية ...
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " ثبوت الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها ، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة " مجموع الفتاوى 25/246
وقال: " أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما دخول الجن في بدن الإنسان المصروع ، ولم ينكروا وجود الجن ، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا ، وإن كانوا مخطئين في ذلك ، ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون : " إن الجني يدخل في بدن المصروع كما قال تعالى : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) "
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل بدن الإنسي ، فقال : يا بني ؛ يكذبون ، هو ذا يتكلم على لسانه " مجموع الفتاوى 19/12،
فدخول الجن حقيقة لا خرافة ، وعلماء الإسلام من أهل السنة قد أجمعوا على ذلك ولم ينكر ذلك إلا من قل علمه وتخبطته أيادي الهوى ، وأصابته لوثة العقلنة ، ونادى على نفسه بالضلال ...
يقول العلامة ابن القيم : " وأما جهلة الأطباء وسقطهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلةً ؛ فأولئك ينكرون صرع الأرواح ، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك ، والحس والوجود شاهد به …. ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها ؛ يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم …. وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة " زاد المعاد 4/67 – 69.
نعم ؛ لم ينكره إلا من فسد عقله أو مذهبه ، ولذلك لما زعم شيخ الاعتزال الزمخشري صاحب الكشاف زعمه المشهور بقوله : " وتخبط الشيطان من زعمات العرب " انهالت عليه شهب أهل السنة السنية حتى قال ابن المنير : " وهذا القول – على الحقيقة – من تخبط الشيطان بالقدرية في زعاماتهم المردودة بقواطع الشرع "
وقال القاسمي العلامة في تفسيره " محاسن التأويل " جزء 3 ص 701 معقبا : " واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع عنها ، وإنما القدرية خصماء العلانية ، فلا جرم ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم ، من ذلك : السحر وخبطة الشيطان ، ومعظم أحوال الجن .. في خبط طويل لهم" أ هـ
فهذه بعض أقاويل أئمة أهل السنة ....
وأما الأدلة الشرعية التي بنى عليها أهل السنة مذهبهم ، وانعقد عليها إجماعهم فهي أكثر من أن تذكر ، اجتزئ بعضها وفيها الكفاية لمن أراد الله له الهداية .
قال تعالى : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) ، قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " جـ3/355 : " وفي الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس " ا هـ ، وبهذا التفسير فسر الآية جماهير المفسرين .
وأما الأحاديث التي تبين إمكانية دخول الجني جسد الإنسي أو تسلطهم عليه بغير ذلك فكثيرة ، فهاك بعضها من باب الإشارة :
الأول : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد –رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل ) .
الثاني : ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فَليستنثر ثلاثاً ، فإن الشيطان يبيت على خيشومه ) .
الثالث : ما رواه البخاري عن جابر – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اكفئوا صبيانكم عند المساء ، فإن للشيطان انتشاراً وخِطفة ) .
الرابع : في البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : ذكر رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم نام حتى أصبح ، فقال : ( ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ) .
الخامس : ما ثبت في السلسلة الصحيحة رقم ( 2918 ) عن عثمان بن العاص الثقفي قال : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيان القرآن ، فضرب على صدري بيده فقال : ( يا شيطان اخرج من صدر عثمان ) فعل ذلك ثلاث مرات .
وفي رواية قال : لما استعملني رسول الله على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي ، حتى ما أدري ما أصلي !! فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (ابن العاص ؟ ) قلت: نعم يا رسول الله ! قال : ( ما جاء بك ؟ ) قلت : يا رسول الله عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي ! قال : ( ذاك شيطان ، ادنُه ) – أي : اقترب- ، فدنوت منه ، فجلست على صدور قدمي ، قال : فضرب صدري بيده ، وتفل في فمي ، وقال : (أخرج عدو الله ! ) فعل ذلك ثلاث مرات ، ثم قال : ( الحق بعملك ) ،
قال الألباني – رحمه الله - : " وفي الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان ويدخل فيه ولو كان مؤمنا صالحا ، وفي ذلك أحاديث كثيرة " ا هـ
السادس : ما رواه الحاكم عن يعلى بن مرة عن أبيه قال : سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت منه عجبا …. وفيه " وأتته امرأة فقالت : إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين ، يأخذه كل يوم مرتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أدنيه) فأدنته منه ، فتفل في فيه ، وقال : (اخرج عدو الله ؛ أنا رسول الله ) ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا رجعنا فأعلمينا ما صنع) ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبلته ومعها كبشان و أقط وسمن فقالت : " والذي أكرمك ؛ ما رأينا به شيئا منذ فارقتنا" السلسلة الصحيحة 1/875.
السابع : ما رواه البخاري ومسلم من حديث صفية – رضي الله عنها - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) ، وبهذا الحديث استدل الأكابر من العلماء على إمكانية دخول الجان جسد الإنسان وأن الحديث على ظاهره ، وممن قال بذلك القرطبي الإمام وابن تيمية شيخ الإسلام والبقاعي المدقق ، والقاسمي المحقق ، وغيرهم كثير .
الثامن : ما ثبت في الصحيحين عن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ، قلت : بلى ، قال : هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف ، فادع الله لي قال : ( إن شئت صبرت ولك الجنة ….. الحديث ).
فهذه تسعة أدلة من الكتاب والسنة وما أردت إلا الاختصار ، فأدلة هذا الباب لا تكاد تحصى ...
لذلك قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى جـ 19/32 : " وليس لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي ، وإنما معه عدم العلم " ا هـ
وقال العلامة ابن باز – رحمه الله – بعد أن ذكر الأدلة ورد على بعض المعاصرين ممن أنكر تلبس الجني بالإنسي : " وبما ذكرناه من الأدلة الشرعية وإجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على جواز دخول الجني بالإنسي ، يتبين للقراء بطلان قول من أنكر ذلك " ثم قال في الختام :" فاعلم ذلك أيها القارئ ، وتمسك بما ذكرناه من الحق ولا تغتر بجهلة الأطباء وغيرهم ولا بمن يتكلم في هذا الأمر بغير علم ولا بصيرة بل بالتقليد لجهلة الأطباء وبعض أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ، والله المستعان "فتاوى بن باز 3/307 .
وأما الواقع ، وما يشاهده الناس ويسمعونه فتعجز المجلدات عن ذكره وسرده ، بل قال الشيخ محمد الحامد الحموي في كتابه " ردود وأباطيل " 2/135 : " ووقائع سلوك الجن في أجساد الإنس كثيرة مشاهدة ، لا تكاد تحصى لكثرتها ، فمنكر ذلك مصطدم بالواقع المشاهد ، وإنه لينادي ببطلان قوله " ا هـ .
فهذا القول بين البطلان ، متهافت الأركان ، والقول به بدعة وضلال ، فليتب إلى الله من زلت قدمه في هذا ، وليرجع إلى الحق الذي أجمع عليه العلماء .
وأقول للقارئ ما قال الشاعر :
يا بن الأعارب ما علينا باس *** ما قلت إلا ما حكاه الناس
وأي ناس هم ، هم أئمة السنة ، وصفوة الأئمة على مر العصور ، فهذا كلامهم بين يديك مسطور ، فإياك أن تلتفت إلى من خالفهم ، وأختم بكلام خاتمة المحدثين في عصرنا ليتبين ما ينكرُ من ذلك وما يترك ،
يقول العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني في كتابه " تحريم آلات الطرب " ص166 : " لقد أنكر بعض المعاصرين عقيدة مس الشيطان للإنسان ، مسا حقيقيا ، ودخوله في بدن الإنسان وصرعه إياه ، وألف بعضهم في ذلك بعض التأليفات ، موهما فيها على الناس ……. ، وضعف ما جاء في ذلك من أحاديث صحيحة ، وركن هو وغيره إلى تأويلات المعتزلة واشتط آخرون ، فاستغلوا هذه العقيدة الصحيحة ، وألحقوا بها ما ليس منها ، مما غير حقيقتها ، وساعدوا بذلك المنكرين لها ! ، واتخذوها وسيلة لجمع الناس حولهم ، لاستخراج الجان من صدورهم – بزعمهم - ، وجعلوها مهنة لهم لأكل أموال الناس بالباطل ، حتى صار بعضهم من كبار الأغنياء ، والحق ضائع بين هؤلاء المبطلين وأولئك المنكرين " ا هـ ،
فإياك أخي أن تكون من المبطلين أو المنكرين فأحلاهما مر !.
نسأل الله تعالى أن يعصم المسلمين من الفتن وأن يقيهم الزلل ، وأن يهديهم سواء السبيل ، والحمد لله أولاً وآخراً ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .