فضل إنظار المعسر والعفو عن الديون
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فهذا مقال أذكر فيه نفسي وإخواني بعمل من أعمال البر والخير والمعروف، وعد الله من يفعلها بالجزاء الجزيل يوم القيامة، وبالظل الظليل يوم العرض على الله، والثواب الكبير ..
وهذا العمل هو إنظار المدين المعسر الذي لا يملك ما يسد دينه، وكذلك من يتجاوز عن الديون ويسامح أصحابها ويعفو عنهم ..
(1)
قال الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
فحث الله جل وعلا على إنظار المعسر، وعدم التثريب عليه والتشديد عليه في أداء ما عليه من الدين-فضلاً عن حبسه وأذيته بالمن ونحو ذلك- إذا كان لا يملك ما يسد به دينه مع رغبته في السداد (1)، وقصده رد المال لصاحبه {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}..
بل أرشد الله عز وجل إلى أمر أعظم من ذلك وهو التنازل عن الدين، والتصدق به على من كان لازماً له {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قال العلامة ابن كثير رحمه الله : «وقوله: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة} أي: لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي.
ثم يندب إلى الوضع عنه، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين. وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بذلك...».
(2)
ومن تلك الأحاديث :
1- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ : أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ فَتَوَارَى عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ.
فَقَالَ: آللَّهِ؟ قَالَ: آللَّهِ.
قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ )) رواه مسلم في صحيحه.
قال النووي رحمه الله: «وَمَعْنَى ( يُنَفِّس ) أَيْ يَمُدّ وَيُؤَخِّر الْمُطَالَبَة ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ يُفَرِّج عَنْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم».
2- وروى مسلم في صحيحه: عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ:
خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ، وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ!
قَالَ: أَجَلْ. كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ[يعني بذلك أنه من بني حرام من الأنصار] مَالٌ فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَسَلَّمْتُ فَقُلْتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لا!
فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ[أي صغير السن] فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي.
فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ. فَخَرَجَ فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟
قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لا أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا.
قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ. قُلْتُ: آللَّهِ. قَالَ: اللَّهِ. قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ.
قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلَّا أَنْتَ فِي حِلٍّ، فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا، -وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ- رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : (( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ)) .
وفي رواية عند ابن أبي شيبة وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني: ((من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله تعالى في ظل عرشه)).
فتبين أن المراد بظل الله: ظل العرش.
وقد جاء صريحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)) . رواه الترمذي وابن الأعرابي في معجمه والقضاعي في مسنده وغيرهم وإسناده صحيح.
قال القرطبي في تفسيره: «وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر.
والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته.»
3- عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ)) رواه البخاري ومسلم.
وقد جاء الحديث بمزيد تفسير عند أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه وغيرهم: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ، وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ قَالَ: لا. إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ، وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ)).
وروى البخاري ومسلم والسياق له عن حُذَيْفَةَ قَالَ:
أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ -قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا- قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي.
فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي رواية: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَلَقَّتْ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُوسِرِ، قَالَ: فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ)) .
وفي رواية: ((أُنْظِرُ الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ)) .
(3)
وما سبق هو فرع عن فضل الصدقة، ومنه فضل إقراض الناس وإمهالهم والتيسير عليهم ومسامحتهم ..
ففي الحديث الصحيح عن يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أنه كان يُحَدِّثُ: أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ[واسمه مرثد بن عبدالله اليزني] حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ)) .
قَالَ يَزِيدُ: وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَعْكَةً أَوْ بَصَلَةً أَوْ كَذَا (2).
ومما ورد في فضل إمهال من عليه الدين:
صحَّ عن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ ، فإذا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ بعد ذلك فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ)) .
فأوصي نفسي وإخواني بفعل ما يقرب إلى الله، وما يباعد عن النار، وما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك إقراض الناس، والتيسير عليهم، والعفو والتجاوز عنهم ..
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه..
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
الحواشي:
(1) ورد الوعيد في حق من يقصد إتلاف أموال الناس ولا يريد السداد: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ)) رواه البخاري في صحيحه.
(2) رواه ابن المبارك ، والإمام أحمد ، وابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه ، والطبرانى ، وأبو نعيم فى الحلية ، والحاكم ، والبيهقى وإسناده صحيح.
( 3) رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والطحاوي في شرح مشكل الآثار، والروياني والحاكم والبيهقي وإسناده صحيح.
توثيق المقال من موقعي:
تم منع الروابط في هذا القسم من قبل الأدارة