من أي الدواب دابة الأرض ؟
اختلفت الأقوال في تعيين دابة الأرض ، وإليك بعض ما قاله العلماء في ذلك :
الأول : قال القرطبي : ( أول الأقوال أنها فصيل ناقة صالح ، وهو أصحها ، والله أعلم ) .
واستشهد لهذا القول بما رواه أبوداود الطيالسي عن حذيفة بن أسيد الغفاري ، قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة ... - فذكر الحديث وفيه : - ( لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام ) .
وموضع الشاهد قوله : ( ترغو ) ، والرغاء إنما هو للإبل ،وذلك ( أن الفصيل لما قُتِلت الناقة هرب ، فانفتح له حجر ، فدخل في جوفه ، ثم انطبق عليه ، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل ) .
ثم قال : ( لقد أحسن من قال :
واذكر خروج فَصِيلِ ناقة صالح ٍ * يَسِم الورى بالكفر والإيمان )
وترجيح القرطبي لهذا القول فيه نظر ، فإن الحديث الذي استند إليه في سنده رجل متروك .
وأيضا ً ، فإنه جاء في بعض كتب الحديث لفظ : ( تدنو ) و ( تربو ) ، بدل : ( ترغو ) ، كما في المستدرك للحاكم .
الثاني : أنها الجساسة المذكورة في حديث تميم الداري رضي الله عنه في قصة الدجال .
وهذا القول منسوب إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
وليس في حديث تميم ما يدل على أن الجساسة هي الدابة التي تخرج آخر الزمان ، وإنما الذي جاء فيه أنه لقي دابة أهلب كثيرة الشعر ، فسألها : ما أنتِ ؟ قالت : أنا الجساسة .
وسُميت بالجساسة لأنها تجسُّ الأخبار للدجال .
وأيضا ً ، فما جاء في شأن الدابة التي نتحدث عنها من تعنيف الناس وتوبيخهم على كفرهم بآيات الله تعالى يُبين أنها غير الجساسة التي تنقل الأخبار للدجال ، والله أعلم .
الثالث : أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة .
وهذا القول نسبه القرطبي إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، منقولا ً من كتاب النقاش ، ولم يذكر له مستندا ً في ذلك ، وذكره الشوكاني في تفسيره .
الرابع : أن الدابة إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر ، ويجادلهم لينقطعوا ، فيهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة .
وهذا القول ذكره القرطبي ، ورده بأن الدابة لوكانت إنسانا ً يناظر المبتدعة ، لم تكن الدابة آية خارقة وعلامة من علامات الساعة العشر .
وأيضا ً فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان أو العالم أو الإمام إلى أن يسمى بالدابة ، وهذا خروج عن عادة الفصحاء ، وعن تعظيم العلماء .
الخامس : أن الدابة اسم جنس لكل ما يدب ، وليست حيوانا ً مشخّصا ً معينا ً يحوي العجائب والغرائب ، ولعل المراد بها تلك الجراثيم الخطيرة التي تفتك بالإنسان وجسمه وصحته ، فهي تجرح وتقتل ، ومن تجريحها وأذاها كلمات واعظة للناس لو كانت لهم قلوب تعقل ، فترجع بهم إلى الله ، وإلى دينه ، وتلزمهم الحجة ، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال ، فإن من معاني التكليم التجريح .
وهذا القول هو ما ذهب إليه أبو عبية في تعليقه على ( النهاية / الفتن والملاحم ) لابن كثير ، وهو رأي بعيد عن الصواب ، وذلك لأمور :
أ - أن الجراثيم موجودة من قديم الزمان ، وكذلك الأمراض التي تفتك بالناس في أجسامهم ، وزروعهم ودوابهم ، والدابة التي هي من أشراط الساعة لم تظهر بعد .
ب - أن الجراثيم غالبا ً لا تُرى بالعين المجردة ، وأما الدابة ، فلم يقل أحد : إنها لا ترى ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من أحوالها ما يدل على رؤية الناس لها ، فذكر أن معها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام .. إلى غير ذلك مما سبق ذكره .
جـ - أن هذه الدابة تَسِم الناس على وجوههم بالكفر والإيمان ، فتجلو وجه المؤمن ، وتخطم أنف الكافر ، وأما الجراثيم فلا تفعل شيئا ً من ذلك .
د ـ الذي يظهر أن الذي دفعه لهذا القول هو ما ذُكر في صفة الدابة من الأقوال الكثيرة المختلفة ، ولكن قدرة الله أعظم ، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب التسليم به .
وكذلك ن فأي مانع من حمل اللفظ على المعنى المتبادر ، ولا نلجأ إلى التجوُّز إلا إذا تعذرت الحقيقة ، لا سيما أن قوله هذا مخالف لأقوال المفسرين ، فإنهم ذكروا أن هذه الدابة مخالفة لما يعتاده البشر ، فهي من خوارق العادات ، كما أن طلوع الشمس من مغربها أمر خارق للعادة .
وقد جاء في الحديث أنهما يخرجان في وقت متقارب ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أول الآيات خروجا ً طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا ً )
والذي يجب الإيمان به هو أن الله تعالى سيخرج للناس في آخر الزمان دابة من الأرض تكلمهم ، فيكون تكليمها آية لهم دالة على أنهم مستحقون للوعيد بتكذيبهم آيات الله ، فإذا خرجت الدابة ، فهم الناس ، وعلموا أنها الخارقة المنبئة باقتراب الساعة ، وقد كانوا قبل ذلك لا يؤمنون بآيات الله ، ولا يصدقون باليوم الموعود .
والذي يؤيد أن هذه الدابة تنطق وتخاطب الناس بكلام يسمعونه ويفهمونه هو أن جاء ذكرها في سورة النمل ، وهذه السورة فيها مشاهد وأحاديث بين طائفة من الحشرات والطير والجن وسليمان عليه السلام ، فجاء ذكر الدابة وتكليمها الناس متناسقا ً مع مشاهد السورة وجوها العام .
قال أحمد شاكر رحمه الله : [ والآية صريحة بالقول العربي أنها ( دابة ) ، ومعنى ( الدابة ) في لغة العرب معروف واضح ، لا يحتاج إلى تأويل ... ووردت أحاديث كثيرة في الصحاح وغيرها بخروج هذه ( الدابة ) الآية ، وأنها تخرج آخر الزمان ، ووردت آثار أخرى في صفتها لم تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلِّغ عن ربه ، والمبين آيات كتابه ، فلا علينا أن ندعها ..
ولكن بعض أهل عصرنا ، من المنتسبين للإسلام ، الذين فشا فيهم المنكر من القول والباطل من الرأي ، الذين لا يريدون أن يؤمنوا بالغيب ، ولا يريدون إلا أن يقفوا عند حدود المادة التي رسمها لهم معلِّموهم وقدوتهم ، ملحدوا أوروبا الوثنيون الإباحيون ، المتحللون من كل خلق ودين ، هؤلاء لا يستطيعون أن يؤمنوا بما نؤمن به ، ولا يستطيعون أن ينكروا إنكارا ً صريحا ً ، فيجمجمون ، ويحاورون ، ويداورون ، ثم يتأولون ، فيخرجون بالكلام عن معناه الوضعي الصحيح للألفاظ في لغة الغرب ، يجعلونه أشبه بالرموز ، لما وقر في أنفسهم من الإنكار الذي يبطنون ] .
الجمجمة : هو أن لا يبين كلامه .