مجرد ناقل
05-09-2016, 11:00 AM
قال الامام الذهبي في السير ج4 في ترجمة إبن الأشعث :
الأمير متولي سجستان عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي. بعثه الحجاج على سجستان فثار هناك وأقبل في جمع كبير وقام معه علماء وصلحاء لله تعالى لما انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة ولجوره وجبروته. فقاتله الحجاج وجرى بينهما عدة مصافات، وينتصر ابن الأشعث ودام الحرب أشهرا وقتل خلق من الفريقين، وفي آخر الأمر انهزم جمع ابن الأشعث وفر هو إلى الملك رتبيل ملتجئا إليه، فقال له علقمة بن عمرو: أخاف عليك وكأني بكتاب الحجاج قد جاء إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك أو قتلك، ولكن هاهنا خمس مائة مقاتل قد تبايعنا على أن ندخل مدينة نتحصن بها ونقاتل حتى نعطى أمانا أو نموت كراما فأبى عليه. وأقام الخمس مائة حتى قدم عمارة بن تميم فقاتلوه حتى أمنهم ووفى لهم، ثم تتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل بطلب ابن الأشعث، فبعث به إليه على أن ترك له الحمل سبعة أعوام. وقيل : إن ابن الأشعث أصابه السل فمات، فقطع رأسه ونفذ إلى الحجاج .وقيل : إن الحجاج كتب إلى رتبيل إني قد بعثت إليك عمارة في ثلاثين ألفا يطلبون ابن الأشعث فأبى أن يسلمه، وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع فأرسله إلى رتبيل، فخف على رتبيل واختص به، قال لابن الأشعث أخوه القاسم : لا آمن غدر رتبيل فاقتله يعني عبيدا فهم به ففهم ذلك وخاف، فوشي به إلى رتبيل وخوفه من غائلة الحجاج، وهرب سرا إلى عمارة فاستعجل في ابن الأشعث ألف ألف درهم . فكتب بذلك عمارة إلى الحجاج فكتب : أن أعط عبيدة و رتبيل ما طلبا .فاشترط أمورا فأعطيها وأرسل إلى ابن الأشعث وإلى ثلاثين من أهل بيته وقد هيأ لهم القيود والأغلال، فقيدهم وبعث بهم إلى عمارة، وسار بهم، فلما قرب ابن الأشعث من العراق ألقى نفسه من قصر خراب أنزلوه فوقه فهلك .فقيل : ألقى نفسه والحر معه الذي هو مقيد معه، والقيد في رجلي الاثنين فهلكا، وذلك في سنة 84 هـ.
وقال الذهبي أيضاً في ترجمة الإمام الشعبي :
خرج القراء وهم أهل القرآن والصلاح بالعراق على الحجاج لظلمه وتأخيره الصلاة والجمع في الحضر، وكان ذلك مذهبا واهيا لبني أمية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : " يكون عليكم أمراء يميتون الصلاة ".
فخرج على الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي وكان شريفا مطاعا وجدّته أخت الصديق، فالتف على مائة ألف أو يزيدون، وضاقت على الحجاج الدنيا وكاد أن يزول ملكه، وهزموه مرات وعاين التلف وهو ثابت مقدام، إلى أن انتصر وتمزق جمع ابن الأشعث. وقتل خلق كثير من الفريقين فكان من ظفر به الحجاج منهم قتله إلا من باء منهم بالكفرعلى نفسه فيدعه.
فِتْنَة إبِنْ الأشْعَث
قال الإمام ابن كثير في تاريخه : دخلت سنة 80 هـ.
وفي هذه السنة جهز الحجاج الجيوش من البصرة والكوفة وغيرهما لقتال رتبيل ملك الترك ليقتصوا منه ما كان من قتل جيش عبيد الله بن أبي بكرة في السنة الماضية، فجهز أربعين ألفا من كل من المصرين عشرين ألفا، وأمر على الجميع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث مع أنه كان الحجاج يبغضه جدا، حتى إنه كان يقول : ما رأيته قط إلا هممت بقتله .ودخل ابن الأشعث يوما على الحجاج وعنده عامر الشعبي، فقال : انظر إلى مشيته، والله لقد هممت أن أضرب عنقه . فأسرها الشعبي إلى ابن الأشعث، فقال ابن الأشعث : وأنا والله لأجهدن أن أزيله عن سلطانه إن طال بي وبه البقاء.
والمقصود أن الحجاج أخذ في استعراض هذه الجيوش وبذل فيهم العطاء ، ثم اختلف رأيه فيمن يؤمر عليهم ، ثم وقع اختياره على عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقدمه عليهم فأتى عمه إسماعيل بن الأشعث، فقال للحجاج : إني أخاف أن تؤمره فلا يرى لك طاعة إذا جاوز جسر الفرات. فقال : ليس هو هنالك هو لي أهيب، ومني أرهب أن يخالف أمري أو يخرج عن طاعتي، فأمضاه عليهم فسار ابن الأشعث بالجيوش نحو أرض رتبيل، فلما بلغ رتبيل مجيء ابن الأشعث بالجنود إليه كتب إليه رتبيل يعتذر مما أصاب المسلمين في بلاده في السنة الماضية وأنه كان لذلك كارها، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، وسأل من ابن الأشعث أن يصالحه وأن يبذل للمسلمين الخراج، فلم يجبه ابن الأشعث إلى ذلك، وصمم على دخول بلاده ، وجمع رتبيل جنوده وتهيأ له ولحربه وجعل ابن الأشعث كلما دخل بلدا أو مدينة أخذ قلعة من بلاد رتبيل استعمل عليها نائبا من جهته، وجعل معه من يحفظها وجعل المسالح على كل أرض ومكان مخوف، فاستحوذ على بلاد ومدن كثيرة من بلاد رتبيل، وغنم أموالا كثيرة جزيلة وسبى خلقا كثيرة، ثم حبس الناس عن التوغل في بلاد رتبيل حتى يصلحوا ما بأيديهم من البلاد ، ويتقووا بما فيها من المغلات والحواصل، ثم يتقدموا في العام المقبل إلى أعدائهم، فلا يزالون يجوزون الأراضي والأقاليم حتى يحاصروهم في مدينتهم مدينة العظماء على الكنوز والأموال والذراري حتى يغنموها، ثم يقتلون مقاتلتهم، وعزموا على ذلك وكان هذا هو الرأي .وكتب ابن الأشعث إلى الحجاج يخبره بما وقع من الفتح وما صنع الله لهم وبهذا الرأي الذي رآه لهم.
وقال بعضهم : كان الحجاج قد وجه هميان بن عدي السدوسي إلى كرمان مسلحة لأهلها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى ذلك، فعصى هميان ومن معه،
فوجه الحجاج إليه ابن الأشعث، فهزمه وأقام بمن معه.
ثم قال ابن كثير مستعرضاً الفتنة :
فلما أمره الحجاج على ذلك الجيش المتقدم ذكره وأمره بدخول بلاد رتبيل ملك الترك، فمضى وصنع ما قدمناه من أخذه بعض بلاد الترك، ثم رأى لأصحابه أن يقيموا حتى يتقووا إلى العام المقبل، فكتب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج يستهجن رأيه في ذلك ويستضعف عقله ويقرعه بالجبن والنكول عن الحرب، ويأمره حتما بدخول بلاد رتبيل، ثم أردف ذلك بكتاب ثان ثم ثالث، فلما تواردت كتب الحجاج إليه يحثه على التوغل في بلاد رتبيل، جمع من معه وقام فيهم، فأعلمهم بما كان رأى من الرأي في ذلك، وبما كتب إليه الحجاج من الأمر بمعاجلة رتبيل، فثار إليه الناس وقالوا : لا ، بل نأبى على عدو الله الحجاج ولا نسمع له ولا نطيع.
قال أبو مخنف : فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة الكناني، أن أباه كان أول من تكلم في ذلك، وكان شاعرا خطيبا وكان مما قال : إن مثل الحجاج في هذا الرأي ومثلنا كما قال الأول لأخيه : احمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك، وإن نجا فلك. إنكم إن ظفرتم كان ذلك زيادة في سلطانه، وإن هلكتم كنتم الأعداء البغضاء. ثم قال : اخلعوا عدو الله الحجاج ولم يذكر خلع عبد الملك وبايعوا لأميركم عبد الرحمن بن الأشعث، فإني أشهدكم أني أول خالع للحجاج. فقال الناس من كل جانب : خلعنا عدو الله. ووثبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه عوضا عن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان.
وبعث ابن الأشعث إلى رتبيل، فصالحه على أنه إن ظفر بالحجاج فلا خراج على رتبيل أبدا، ثم سار ابن الأشعث بالجنود الذين معه مقبلا من سجستان إلى الحجاج ; ليقاتله ويأخذ منه العراق ثم لما توسطوا الطريق، قالوا : إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان. فخلعوهما جميعا وجددوا البيعة لابن الأشعث، فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله، وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين. فإذا قالوا : نعم. بايعهم. فلما بلغ الحجاج ما صنعوا من خلعه وخلع ابن مروان، كتب إلى عبد الملك يعلمه بذلك، ويستعجله في بعثه الجنود إليه، وجاء الحجاج حتى نزل البصرة، وبلغ المهلب خبر ابن الأشعث، وكتب إليه يدعوه إلى ذلك فأبى عليه، وبعث بكتابه إلى الحجاج.
وكتب المهلب إلى ابن الأشعث يقول له : إنك يا ابن الأشعث قد وضعت رجلك في ركاب طويل، أبق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الله الله، انظر لنفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت : أخاف الناس على نفسي، فالله أحق أن تخافه من الناس، فلا تعرضها لله في سفك الدماء، أو استحلال محرم والسلام عليك.
وكتب المهلب إلى الحجاج : أما بعد ، فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر من عل، ليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم،
فليس شيء يردهم حتى يصلوا إلى أهليهم ، ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله. فلما قرأ الحجاج كتابه قال : فعل الله به وفعل، لا والله ما لي نظر ولكن لابن عمه نصح. ولما وقع كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ذلك، ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فأقرأه كتاب الحجاج، فقال : يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل خراسان فخفه، وإن كان من قبل سجستان فلا تخفه .
ثم أخذ عبد الملك في تجهيز الجنود من الشام إلى العراق في نصرة الحجاج، وتجهيز الحجاج للخروج إلى ابن الأشعث، وعصى رأي المهلب فيما أشار به عليه وكان فيه النصح والصدق، وجعلت كتب الحجاج لا تنقطع عن عبد الملك بخبر ابن الأشعث صباحا ومساء ; أين نزل ؟ ومن أين ارتحل ؟ وأي الناس إليه أسرع ؟ وجعل الناس يلتفون على ابن الأشعث من كل جانب حتى قيل : إنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل ، وخرج الحجاج في جنود الشام من البصرة نحو ابن الأشعث فنزل تستر، وقدم بين يديه مطهر بن حي العكي أميرا على المقدمة ومعه عبد الله بن زميت أميرا آخر، فانتهوا إلى دجيل فإذا مقدمة ابن الأشعث في ثلاثمائة فارس عليها عبد الله بن أبان الحارثي، فالتقوا في يوم الأضحى عند نهر دجيل، فهزمت مقدمة الحجاج وقتل أصحاب ابن الأشعث منهم خلقا كثيرا نحو ألف وخمسمائة، واحتازوا ما في معسكرهم من خيول وقماش وأموال، وجاء الخبر إلى الحجاج بهزيمة أصحابه فأخذه ما دب ودرج وقد كان قائما يخطب، فقال : أيها الناس ارجعوا إلى البصرة، فإنه أرفق بالجند فرجع بالناس، واتبعتهم خيول ابن الأشعث لا يدركون منهم شاذا إلا قتلوه، ولا فاذا إلا أهلكوه، ومضى الحجاج هاربا لا يلوي على شيء حتى أتى الزاوية، فعسكر عندها وجعل يقول : لله در المهلب أي صاحب حرب هو ؟ قد أشار علينا بالرأي ولكنا لم نقبل .
وأنفق الحجاج على جيشه وهو بهذا المكان مائة وخمسين ألف ألف درهم ، وخندق حول جيشه خندقا ، وجاء أهل العراق فدخلوا البصرة واجتمعوا بأهاليهم وشموا أولادهم، ودخل ابن الأشعث البصرة فخطب الناس بها، وبايعهم وبايعوه على خلع عبد الملك ونائبه الحجاج بن يوسف وقال لهم ابن الأشعث : ليس الحجاج بشيء، ولكن اذهبوا بنا إلى عبد الملك لنقاتله. ووافقه على خلعهما جميع من بالبصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب،
ثم أمر ابن الأشعث بخندق حول البصرة فعمل ذلك، وكان ذلك في أواخر ذي الحجة من هذه السنة.
ودخلت سنة 82 هـ
ففي المحرم منها كانت وقعة الزاوية بين ابن الأشعث والحجاج في آخره وكان أول يوم لأهل العراق على أهل الشام، ثم تواقعوا يوما آخر فحمل سفيان بن الأبرد أحد أمراء أهل الشام على ميمنة ابن الأشعث فهزمها، وقتل خلقا كثيرا من القراء من أصحاب ابن الأشعث في هذا اليوم، وخرّ الحجاج لله ساجدا بعدما كان جثا على ركبتيه، وسل شيئا من سيفه وجعل يترحم على مصعب بن الزبير ويقول : ما كان أكرمه حين صبر نفسه للقتل.
وكان من جملة من قتل من أصحاب ابن الأشعث : أبو الطفيل بن عامر بن واثلة الليثي. ولما فر أصحاب ابن الأشعث رجع ابن الأشعث بمن بقي معه ومن اتبعه من أهل البصرة، فسار حتى دخل الكوفة فعمد أهل البصرة إلى عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل الحجاج خمس ليال أشد القتال، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وتبعه طائفة من أهل البصرة، فاستناب الحجاج على البصرة أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، ودخل ابن الأشعث الكوفة فبايعه أهلها على خلع الحجاج وعبد الملك بن مروان وتفاقم الأمر، وكثر متابعو ابن الأشعث على ذلك واشتد الحال وتفرقت الكلمة جدا وعظم الخطب واتسع الخرق .
قال الواقدي : لما التقى جيش الحجاج وجيش ابن الأشعث بالزاوية، جعل جيش الحجاج يحمل عليهم مرة بعد مرة فقال القراء وكان عليهم جبلة بن زحر: أيها الناس ، ليس الفرار من أحد بأقبح منه منكم فقاتلوا عن دينكم ودنياكم.
وقال سعيد بن جبير نحو ذلك وقال الشعبي : قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة. ثم حملت القراء وهم العلماء على جيش الحجاج حملة صادقة فبدعوا فيهم، ثم رجعوا فإذا هم بمقدمهم جبلة بن زحر صريعا فهدهم ذلك، فناداهم جيش الحجاج : يا أعداء الله قد قتلنا طاغيتكم. ثم حمل سفيان بن الأبرد وهو على خيل الحجاج على ميسرة ابن الأشعث وعليها الأبرد بن قرة التميمي فانهزموا ولم يقاتلوا كثير قتال فأنكر الناس منهم ذلك، وكان أمير ميسرة ابن الأشعث الأبرد شجاعا لا يفر، وظنوا أنه قد خامر فنقضت الصفوف وركب الناس بعضهم بعضا، وكان ابن الأشعث يحرض الناس على القتال، فلما رأى ما الناس فيه أخذ من اتبعه وذهب إلى الكوفة، فبايعه أهلها.
ثم كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة. قاله الواقدي.
وذلك أن ابن الأشعث لما قصد الكوفة خرج إليه أهلها، فتلقوه وحفوا به ودخلوا بين يديه، غير أن شرذمة قليلة أرادت أن تقاتله دون مطر بن ناجية نائب الحجاج، فلم يمكنهم من ذلك فعدلوا إلى القصر فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة أمر بالسلاليم فنصبت على قصر الإمارة فأخذه واستنزل مطر بن ناجية وأراد قتله، فقال له : استبقني، فإني خير من فرسانك فحبسه، ثم استدعاه فأطلقه وبايعه، واستوثق لابن الأشعث أمر الكوفة وانضم إليه من جاء من أهل البصرة وكان ممن قدم عليه عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن عبد المطلب، وأمر بالمسالح من كل جانب وحفظت الثغور والطرق والمسالك .
ثم إن الحجاج ركب فيمن معه من الجيوش الشامية من البصرة في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، وبعث إليه ابن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من المصرين فمنعوا الحجاج من نزول القادسية، فسار الحجاج حتى نزل دير قرة، وجاء ابن الأشعث بمن معه من الجيوش البصرية والكوفية حتى نزل دير الجماجم ومعه جنود كثيرة وفيهم القراء من المصرين وخلق من الصالحين، وكان الحجاج بعد ذلك يقول : قاتل الله ابن الأشعث، أما كان يزجر الطير حيث رآني قد نزلت دير قرة ونزل هو بدير الجماجم. وكان جملة من اجتمع مع ابن الأشعث مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم من مواليهم، وقدم على الحجاج في غبون ذلك أمداد كثيرة من الشام ، وخندق كل من الطائفتين على نفسه وحول جيشه خندقا ، يمتنع به من الوصول إليهم ، غير أن الناس كان يبرز بعضهم لبعض في كل يوم فيقتتلون قتالا شديدا في كل يوم ، حتى أصيب من رءوس الناس خلق من قريش وغيرهم ، واستمر هذا الحال مدة طويلة ، واجتمع الأمراء من أهل المشورة عند عبد الملك بن مروان ، فقالوا له : إن كان أهل العراق يرضيهم منك أن تعزل عنهم الحجاج فهو أيسر من قتالهم وسفك دمائهم ، فاستحضر عبد الملك عند ذلك أخاه محمد بن مروان ، وابنه عبد الله بن عبد الملك بن مروان ، ومعهما جنود كثيرة جدا ، وكتب معهما كتابا إلى أهل العراق يقول لهم : إن كان يرضيكم مني عزل الحجاج عنكم عزلته ، وأبقيت عليكم أعطياتكم مثل أهل الشام ، وليختر ابن الأشعث أي بلد شاء يكون عليه أميرا ما عاش وعشت ، وتكون إمرة العراق لمحمد بن مروان . وقال في عهده هذا : فإن لم يجب أهل العراق إلى ذلك فالحجاج على ما هو عليه ، وإليه إمرة الحرب ، ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته وتحت أمره ، لا يخرجون عن رأيه في الحرب وغيره.
ولما بلغ الحجاج ما كتب به عبد الملك إلى أهل العراق من عزله إن رضوا به، شق عليه ذلك مشقة عظيمة جدا وعظم شأن هذا الرأي عنده وكتب إلى عبد الملك : يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي عنهم لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر النخعي على ابن عفان فلما سألهم : ما تريدون؟ قالوا : نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه؟ وإن الحديد بالحديد يفلح ، كان الله لك فيما ارتأيت، والسلام عليك.
قال : فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق كما أمر، فتقدم عبد الله ومحمد، فنادى عبد الله : يا معشر أهل العراق، أنا عبد الله ابن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وإنه يعرض عليكم كيت وكيت، فذكر ما كتب به أبوه معه إليهم من هذه الخصال. وقال محمد بن مروان : وأنا رسول أخي أمير المؤمنين إليكم بذلك. فقالوا : ننظر في أمرنا غدا، ونرد عليكم الخبر عشية، ثم انصرفوا، فاجتمع جميع الأمراء إلى ابن الأشعث، فقام فيهم خطيبا، وندبهم إلى قبول ما عرض عليهم من عزل الحجاج عنهم، وبيعة عبد الملك، وإبقاء الأعطيات، وإمرة محمد بن مروان على العراق بدل الحجاج. فنفر الناس من كل جانب، وقالوا : لا والله لا نقبل ذلك; نحن أكثر عددا وعددا، وهم في ضيق من الحال وقد حكمنا عليهم وذلوا لنا، والله لا نجيب إلى ذلك أبدا. ثم جددوا خلع عبد الملك بن مروان ثانية، واتفقوا على ذلك كلهم.
فلما بلغ عبد الله بن عبد الملك وعمه محمد بن مروان الخبر قالا للحجاج : شأنك بهم إذا، فنحن في طاعتك كما أمرنا أمير المؤمنين. فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة ويسلم هو أيضا عليهم بالإمرة، وتولى الحجاج أمر الحرب وتدبيرها كما كان قبل ذلك، فعند ذلك برز كل من الفريقين للقتال والحرب، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى الخيل سفيان بن الأبرد، وعلى الرجالة عبد الرحمن بن حبيب الحكمي، وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي، وعلى الميسرة الأبرد بن قرة التميمي، وعلى الخيالة عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة، وعلى الرجالة محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري، وعلى القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان في القراء سعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وكميل بن زياد، وكان شجاعا فاتكا على كبر سنه وأبو البختري الطائي وغيرهم .
وجعلوا يقتتلون في كل يوم وأهل العراق تأتيهم الميرة من الرساتيق والأقاليم من العلف والطعام وغيره، وأما أهل الشام الذين مع الحجاج ففي ضيق من العيش وقلة من الطعام وقد فقدوا اللحم بالكلية فلا يجدونه، وما زالت الحرب في هذه المدة كلها حتى انسلخت هذه السنة وهم على حالهم وقتالهم في كل يوم أو يوم بعد يوم، والدائرة لأهل العراق على أهل الشام في أكثر الأيام، وقد قتل من أصحاب الحجاج زياد بن غنم وكسر بسطام بن مصقلة في أربعة آلاف جفون سيوفهم واستقتلوا، وكانوا من أصحاب ابن الأشعث.
ودخلت سنة 83 هـ.
استهلت هذه السنة والناس متواقفون لقتال الحجاج وأصحابه بدير قرة وابن الأشعث وأصحابه بدير الجماجم والمبارزة في كل يوم بينهم واقعة، وفي غالب الأيام تكون النصرة لأهل العراق على أهل الشام حتى قيل : إن أصحاب ابن الأشعث وهم أهل العراق كسروا أهل الشام وهم أصحاب الحجاج بضعا وثمانين مرة ينتصرون عليهم. ومع هذا فالحجاج ثابت في مكانه صابر ومصابر، لا يتزحزح عن موضعه الذي هو فيه، بل إذا حصل له ظفر في يوم من الأيام يتقدم بجيشه إلى نحر عدوه، وكان له خبرة بالحرب، وما زال ذلك دأبه ودأبهم حتى أمر بالحملة على كتيبة القراء، لأن الناس كانوا تبعا لهم وهم الذين يحرضونهم على القتال والناس يقتدون بهم، فصبر القراء لحملة جيشه ثم جمع الرماة من جيشه وحمل بهم وما انفك حتى قتل منهم خلقا كثيرا، ثم حمل على جيش ابن الأشعث فانهزم أصحاب ابن الأشعث وذهبوا في كل وجه وهرب ابن الأشعث بين أيديهم ومعه فل قليل من الناس، فأتبعه الحجاج جيشا كثيفا مع عمارة بن تميم اللخمي ومعه محمد بن الحجاج والإمرة لعمارة، فساقوا وراءهم يطردونهم لعلهم يظفرون به قتلا أو أسرا، فما زال يسوق ويخترق الأقاليم والكور والرساتيق وهم في أثره، حتى وصل إلى كرمان واتبعه الشاميون فنزلوا في قصر كان فيه أهل العراق قبلهم، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من أصحاب ابن الأشعث الذين فروا معه، ثم إن ابن الأشعث دخل هو ومن معه من الفل إلى بلاد رتبيل ملك الترك فأكرمه رتبيل وأنزله عنده وأمنه وعظمه.
قال الواقدي : ومر ابن الأشعث وهو ذاهب إلى بلاد رتبيل على عامل له في بعض المدن كان ابن الأشعث قد استعمله على ذلك عند رجوعه إلى العراق، فأكرمه ذلك العامل وأهدى إليه هدايا وأنزله فعل ذلك خديعة به ومكرا، وقال له : ادخل إلى عندي إلى البلد لتتحصن بها من عدوك، ولكن لا تدع أحدا ممن معك يدخل المدينة. فأجابه إلى ذلك وإنما أراد المكر به فمنعه أصحابه، فلم يقبل منهم فتفرق عنه أصحابه، فلما دخل المدينة وثب عليه العامل فمسكه وأوثقه بالحديد، وأراد أن يتخذ به يدا عند الحجاج وقد كان الملك رتبيل سر بقدوم ابن الأشعث، فلما بلغه ما حدث له من جهة ذلك العامل بمدينة بست، سار حتى أحاط ببست وأرسل إلى عاملها يقول له : والله لئن آذيت ابن الأشعث لا أبرح حتى أستنزلك وأقتل جميع من في بلدك. فخافه ذلك العامل وسير إليه ابن الأشعث، فأكرمه رتبيل فقال ابن الأشعث لرتبيل : إن هذا العامل كان عاملي ومن جهتي فغدر بي، وفعل ما رأيت فأذن لي في قتله. فقال : قد أمنته. وكان مع ابن الأشعث عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان هو الذي يصلي بالناس هنالك في بلاد رتبيل، ثم إن جماعة من الفل الذين هربوا من الحجاج اجتمعوا وساروا وراء ابن الأشعث ليدركوه فيكونوا معه، وهم قريب من ستين ألفا فلما وصلوا إلى سجستان، وجدوا ابن الأشعث قد دخل إلى عند رتبيل فتغلبوا على سجستان، وعذبوا عاملها عبد الله بن عامر البعار وإخوته وقرائبه، واستحوذوا على ما فيها من الأموال وانتشروا في تلك البلاد وأخذوها، ثم كتبوا إلى ابن الأشعث : أن اخرج إلينا حتى نكون معك ننصرك على من يخالفك ونأخذ بلاد خراسان، فإن بها جندا عظيما منا، فنكون بها حتى يهلك الله الحجاج أوعبد الملك فنرى بعد ذلك رأينا، فخرج إليهم ابن الأشعث وسار بهم قليلا إلى نحو خراسان، فاعتزله شرذمة من أهل العراق مع عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فقام فيهم ابن الأشعث خطيبا، فذكر غدرهم ونكولهم عن الحرب وقال : لا حاجة لي بكم، وأنا ذاهب إلى صاحبي رتبيل فأكون عنده ثم انصرف عنهم، وتبعه طائفة منهم وبقي معظم الجيش، فلما انفصل عنهم ابن الأشعث بايعوا عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة الهاشمي وساروا معه إلى خراسان، فخرج إليهم أميرها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة ليمنعهم من دخول بلاده، وكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن عباس يقول له : إن في البلاد متسعا، فاذهب إلى أرض ليس بها سلطان فإني أكره قتالك، وإن كنت تريد مالا بعثت إليك. فقال له : إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا نستريح ونريح خيلنا ثم نذهب وليست بنا حاجة إلى حاجة مما عرضت، ثم أقبل عبد الرحمن على أخذ الخراج مما حوله من البلاد من كور خراسان، فخرج إليه يزيد بن المهلب ومعه أخوه المفضل في جيوش كثيفة، فلما صادفوهم اقتتلوا غير كثير، ثم انهزم أصحاب عبد الرحمن بن عباس وقتل يزيد منهم مقتلة عظيمة وأسر منهم أسرى كثيرة، واحتاز ما في معسكرهم وبعث بالأسارى وفيهم محمد بن سعد بن أبي وقاص إلى الحجاج، ويقال : إن محمد بن سعد قال ليزيد بن المهلب : أسألك بدعوة أبي لأبيك لما أطلقتني. فأطلقه. قال أبو جعفر بن جرير : ولهذا الكلام خبر فيه طول .
ولما قدمت الأسارى على الحجاج قتل أكثرهم وعفا عن بعضهم، وقد كان الحجاج يوم ظهر على ابن الأشعث بدير الجماجم نادى مناديه في الناس : من رجع فهو آمن، ومن لحق بقتيبة بن مسلم بالري فهو آمن، فلحق به خلق كثير ممن كان مع ابن الأشعث فأمنهم الحجاج، ومن لم يلحق به شرع الحجاج في تتبعهم، فقتل منهم خلقا كثيرا حتى كان آخر من قتل منهم سعيد بن جبير على ما سيأتي بيانه.
وقد كان الحجاج وهو مواقف لابن الأشعث بعث كمينا يأتون جيش ابن الأشعث من ورائه، ثم تواقف الحجاج وابن الأشعث وهرب الحجاج بمن معه وترك معسكره، فجاء ابن الأشعث فاحتاز ما في المعسكر وبات فيه، فجاءت السرية إليهم ليلا وقد وضعوا أسلحتهم، فمالوا عليهم ميلة واحدة ورجع الحجاج بأصحابه فأحاطوا بهم، فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل من أصحاب ابن الأشعث خلق كثير وغرق خلق كثير منهم في دجلة ودجيل، وجاء الحجاج إلى معسكرهم فقتل من وجده فيه، فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف منهم جماعة من الرؤساء والأعيان واحتازوه بكماله، وانطلق ابن الأشعث هاربا في ثلاثمائة، فركبوا دجيلا في السفن وعقروا دوابهم وجازوا إلى البصرة، ثم ساروا من هنالك وكان من أمرهم من دخولهم بلاد رتبيل ما كان، ثم شرع الحجاج في تتبع أصحاب ابن الأشعث فقتلهم مثنى وفرادى حتى قيل : إنه قتل منهم بين يديه صبرا مائة ألف وثلاثين ألفا. قاله النضر بن شميل عن هشام بن حسان. منهم محمد بن سعد بن أبي وقاص وجماعات من السادات حتى كان آخرهم سعيد بن جبير رحمهم الله ورضي عنهم ، كما سيأتي ذلك في موضعه .
ثم دخلت سنة 84 هـ
وفيها كان مهلك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي وقيل : في التي بعدها فالله أعلم. وذلك أن الحجاج كتب إلى رتبيل ملك الترك الذي لجأ ابن الأشعث إليه يقول له : والله الذي لا إله إلا هو لئن لم تبعث إلي بابن الأشعث لأبعثن إلى بلادك ألف ألف مقاتل ولأخربنها. فلما تحقق الوعيد من الحجاج استشار في ذلك بعض الأمراء فأشار عليه بتسليم ابن الأشعث إليه قبل أن يخرب الحجاج دياره ويأخذ عامة أمصاره، فأرسل إلى الحجاج يشترط عليه أن لا يقاتل عشر سنين وأن لا يؤدي في كل سنة منها إلا مائة ألف من الخراج ، فأجابه الحجاج إلى ذلك، وقيل : إن الحجاج وعده أن يطلق له خراج أرضه سبع سنين، فعند ذلك غدر رتبيل بابن الأشعث، فقيل : إنه أمر بضرب عنقه صبرا بين يديه وبعث برأسه إلى الحجاج، وقيل : بل كان ابن الأشعث قد مرض مرضا شديدا فقتله وهو بآخر رمق، والمشهور أنه قبض عليه وعلى ثلاثين من أقربائه فقيدهم في الأصفاد، وبعث بهم مع رسل الحجاج إليه، فلما كانوا ببعض الطريق بمكان يقال له : الرخج، صعد ابن الأشعث وهو مقيد بالحديد إلى سطح قصر ومعه رجل موكل به لئلا يفر وألقى نفسه من ذلك القصر، وسقط معه الموكل به فماتا جميعا فعمد الرسول إلى رأس ابن الأشعث فاحتزه، وقتل من معه من أصحاب ابن الأشعث وبعث برءوسهم إلى الحجاج، فأمر فطيف برأسه في العراق ثم بعثه إلى أمير المؤمنين عبد الملك فطيف برأسه في الشام، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بمصر فطيف برأسه هنالك، ثم دفنوا رأسه بمصر وجثته بالرخج.
أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن
و دمتم سالمين
الأمير متولي سجستان عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي. بعثه الحجاج على سجستان فثار هناك وأقبل في جمع كبير وقام معه علماء وصلحاء لله تعالى لما انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة ولجوره وجبروته. فقاتله الحجاج وجرى بينهما عدة مصافات، وينتصر ابن الأشعث ودام الحرب أشهرا وقتل خلق من الفريقين، وفي آخر الأمر انهزم جمع ابن الأشعث وفر هو إلى الملك رتبيل ملتجئا إليه، فقال له علقمة بن عمرو: أخاف عليك وكأني بكتاب الحجاج قد جاء إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك أو قتلك، ولكن هاهنا خمس مائة مقاتل قد تبايعنا على أن ندخل مدينة نتحصن بها ونقاتل حتى نعطى أمانا أو نموت كراما فأبى عليه. وأقام الخمس مائة حتى قدم عمارة بن تميم فقاتلوه حتى أمنهم ووفى لهم، ثم تتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل بطلب ابن الأشعث، فبعث به إليه على أن ترك له الحمل سبعة أعوام. وقيل : إن ابن الأشعث أصابه السل فمات، فقطع رأسه ونفذ إلى الحجاج .وقيل : إن الحجاج كتب إلى رتبيل إني قد بعثت إليك عمارة في ثلاثين ألفا يطلبون ابن الأشعث فأبى أن يسلمه، وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع فأرسله إلى رتبيل، فخف على رتبيل واختص به، قال لابن الأشعث أخوه القاسم : لا آمن غدر رتبيل فاقتله يعني عبيدا فهم به ففهم ذلك وخاف، فوشي به إلى رتبيل وخوفه من غائلة الحجاج، وهرب سرا إلى عمارة فاستعجل في ابن الأشعث ألف ألف درهم . فكتب بذلك عمارة إلى الحجاج فكتب : أن أعط عبيدة و رتبيل ما طلبا .فاشترط أمورا فأعطيها وأرسل إلى ابن الأشعث وإلى ثلاثين من أهل بيته وقد هيأ لهم القيود والأغلال، فقيدهم وبعث بهم إلى عمارة، وسار بهم، فلما قرب ابن الأشعث من العراق ألقى نفسه من قصر خراب أنزلوه فوقه فهلك .فقيل : ألقى نفسه والحر معه الذي هو مقيد معه، والقيد في رجلي الاثنين فهلكا، وذلك في سنة 84 هـ.
وقال الذهبي أيضاً في ترجمة الإمام الشعبي :
خرج القراء وهم أهل القرآن والصلاح بالعراق على الحجاج لظلمه وتأخيره الصلاة والجمع في الحضر، وكان ذلك مذهبا واهيا لبني أمية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : " يكون عليكم أمراء يميتون الصلاة ".
فخرج على الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي وكان شريفا مطاعا وجدّته أخت الصديق، فالتف على مائة ألف أو يزيدون، وضاقت على الحجاج الدنيا وكاد أن يزول ملكه، وهزموه مرات وعاين التلف وهو ثابت مقدام، إلى أن انتصر وتمزق جمع ابن الأشعث. وقتل خلق كثير من الفريقين فكان من ظفر به الحجاج منهم قتله إلا من باء منهم بالكفرعلى نفسه فيدعه.
فِتْنَة إبِنْ الأشْعَث
قال الإمام ابن كثير في تاريخه : دخلت سنة 80 هـ.
وفي هذه السنة جهز الحجاج الجيوش من البصرة والكوفة وغيرهما لقتال رتبيل ملك الترك ليقتصوا منه ما كان من قتل جيش عبيد الله بن أبي بكرة في السنة الماضية، فجهز أربعين ألفا من كل من المصرين عشرين ألفا، وأمر على الجميع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث مع أنه كان الحجاج يبغضه جدا، حتى إنه كان يقول : ما رأيته قط إلا هممت بقتله .ودخل ابن الأشعث يوما على الحجاج وعنده عامر الشعبي، فقال : انظر إلى مشيته، والله لقد هممت أن أضرب عنقه . فأسرها الشعبي إلى ابن الأشعث، فقال ابن الأشعث : وأنا والله لأجهدن أن أزيله عن سلطانه إن طال بي وبه البقاء.
والمقصود أن الحجاج أخذ في استعراض هذه الجيوش وبذل فيهم العطاء ، ثم اختلف رأيه فيمن يؤمر عليهم ، ثم وقع اختياره على عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقدمه عليهم فأتى عمه إسماعيل بن الأشعث، فقال للحجاج : إني أخاف أن تؤمره فلا يرى لك طاعة إذا جاوز جسر الفرات. فقال : ليس هو هنالك هو لي أهيب، ومني أرهب أن يخالف أمري أو يخرج عن طاعتي، فأمضاه عليهم فسار ابن الأشعث بالجيوش نحو أرض رتبيل، فلما بلغ رتبيل مجيء ابن الأشعث بالجنود إليه كتب إليه رتبيل يعتذر مما أصاب المسلمين في بلاده في السنة الماضية وأنه كان لذلك كارها، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، وسأل من ابن الأشعث أن يصالحه وأن يبذل للمسلمين الخراج، فلم يجبه ابن الأشعث إلى ذلك، وصمم على دخول بلاده ، وجمع رتبيل جنوده وتهيأ له ولحربه وجعل ابن الأشعث كلما دخل بلدا أو مدينة أخذ قلعة من بلاد رتبيل استعمل عليها نائبا من جهته، وجعل معه من يحفظها وجعل المسالح على كل أرض ومكان مخوف، فاستحوذ على بلاد ومدن كثيرة من بلاد رتبيل، وغنم أموالا كثيرة جزيلة وسبى خلقا كثيرة، ثم حبس الناس عن التوغل في بلاد رتبيل حتى يصلحوا ما بأيديهم من البلاد ، ويتقووا بما فيها من المغلات والحواصل، ثم يتقدموا في العام المقبل إلى أعدائهم، فلا يزالون يجوزون الأراضي والأقاليم حتى يحاصروهم في مدينتهم مدينة العظماء على الكنوز والأموال والذراري حتى يغنموها، ثم يقتلون مقاتلتهم، وعزموا على ذلك وكان هذا هو الرأي .وكتب ابن الأشعث إلى الحجاج يخبره بما وقع من الفتح وما صنع الله لهم وبهذا الرأي الذي رآه لهم.
وقال بعضهم : كان الحجاج قد وجه هميان بن عدي السدوسي إلى كرمان مسلحة لأهلها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى ذلك، فعصى هميان ومن معه،
فوجه الحجاج إليه ابن الأشعث، فهزمه وأقام بمن معه.
ثم قال ابن كثير مستعرضاً الفتنة :
فلما أمره الحجاج على ذلك الجيش المتقدم ذكره وأمره بدخول بلاد رتبيل ملك الترك، فمضى وصنع ما قدمناه من أخذه بعض بلاد الترك، ثم رأى لأصحابه أن يقيموا حتى يتقووا إلى العام المقبل، فكتب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج يستهجن رأيه في ذلك ويستضعف عقله ويقرعه بالجبن والنكول عن الحرب، ويأمره حتما بدخول بلاد رتبيل، ثم أردف ذلك بكتاب ثان ثم ثالث، فلما تواردت كتب الحجاج إليه يحثه على التوغل في بلاد رتبيل، جمع من معه وقام فيهم، فأعلمهم بما كان رأى من الرأي في ذلك، وبما كتب إليه الحجاج من الأمر بمعاجلة رتبيل، فثار إليه الناس وقالوا : لا ، بل نأبى على عدو الله الحجاج ولا نسمع له ولا نطيع.
قال أبو مخنف : فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة الكناني، أن أباه كان أول من تكلم في ذلك، وكان شاعرا خطيبا وكان مما قال : إن مثل الحجاج في هذا الرأي ومثلنا كما قال الأول لأخيه : احمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك، وإن نجا فلك. إنكم إن ظفرتم كان ذلك زيادة في سلطانه، وإن هلكتم كنتم الأعداء البغضاء. ثم قال : اخلعوا عدو الله الحجاج ولم يذكر خلع عبد الملك وبايعوا لأميركم عبد الرحمن بن الأشعث، فإني أشهدكم أني أول خالع للحجاج. فقال الناس من كل جانب : خلعنا عدو الله. ووثبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه عوضا عن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان.
وبعث ابن الأشعث إلى رتبيل، فصالحه على أنه إن ظفر بالحجاج فلا خراج على رتبيل أبدا، ثم سار ابن الأشعث بالجنود الذين معه مقبلا من سجستان إلى الحجاج ; ليقاتله ويأخذ منه العراق ثم لما توسطوا الطريق، قالوا : إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان. فخلعوهما جميعا وجددوا البيعة لابن الأشعث، فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله، وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين. فإذا قالوا : نعم. بايعهم. فلما بلغ الحجاج ما صنعوا من خلعه وخلع ابن مروان، كتب إلى عبد الملك يعلمه بذلك، ويستعجله في بعثه الجنود إليه، وجاء الحجاج حتى نزل البصرة، وبلغ المهلب خبر ابن الأشعث، وكتب إليه يدعوه إلى ذلك فأبى عليه، وبعث بكتابه إلى الحجاج.
وكتب المهلب إلى ابن الأشعث يقول له : إنك يا ابن الأشعث قد وضعت رجلك في ركاب طويل، أبق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الله الله، انظر لنفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت : أخاف الناس على نفسي، فالله أحق أن تخافه من الناس، فلا تعرضها لله في سفك الدماء، أو استحلال محرم والسلام عليك.
وكتب المهلب إلى الحجاج : أما بعد ، فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر من عل، ليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم،
فليس شيء يردهم حتى يصلوا إلى أهليهم ، ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله. فلما قرأ الحجاج كتابه قال : فعل الله به وفعل، لا والله ما لي نظر ولكن لابن عمه نصح. ولما وقع كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ذلك، ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فأقرأه كتاب الحجاج، فقال : يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل خراسان فخفه، وإن كان من قبل سجستان فلا تخفه .
ثم أخذ عبد الملك في تجهيز الجنود من الشام إلى العراق في نصرة الحجاج، وتجهيز الحجاج للخروج إلى ابن الأشعث، وعصى رأي المهلب فيما أشار به عليه وكان فيه النصح والصدق، وجعلت كتب الحجاج لا تنقطع عن عبد الملك بخبر ابن الأشعث صباحا ومساء ; أين نزل ؟ ومن أين ارتحل ؟ وأي الناس إليه أسرع ؟ وجعل الناس يلتفون على ابن الأشعث من كل جانب حتى قيل : إنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل ، وخرج الحجاج في جنود الشام من البصرة نحو ابن الأشعث فنزل تستر، وقدم بين يديه مطهر بن حي العكي أميرا على المقدمة ومعه عبد الله بن زميت أميرا آخر، فانتهوا إلى دجيل فإذا مقدمة ابن الأشعث في ثلاثمائة فارس عليها عبد الله بن أبان الحارثي، فالتقوا في يوم الأضحى عند نهر دجيل، فهزمت مقدمة الحجاج وقتل أصحاب ابن الأشعث منهم خلقا كثيرا نحو ألف وخمسمائة، واحتازوا ما في معسكرهم من خيول وقماش وأموال، وجاء الخبر إلى الحجاج بهزيمة أصحابه فأخذه ما دب ودرج وقد كان قائما يخطب، فقال : أيها الناس ارجعوا إلى البصرة، فإنه أرفق بالجند فرجع بالناس، واتبعتهم خيول ابن الأشعث لا يدركون منهم شاذا إلا قتلوه، ولا فاذا إلا أهلكوه، ومضى الحجاج هاربا لا يلوي على شيء حتى أتى الزاوية، فعسكر عندها وجعل يقول : لله در المهلب أي صاحب حرب هو ؟ قد أشار علينا بالرأي ولكنا لم نقبل .
وأنفق الحجاج على جيشه وهو بهذا المكان مائة وخمسين ألف ألف درهم ، وخندق حول جيشه خندقا ، وجاء أهل العراق فدخلوا البصرة واجتمعوا بأهاليهم وشموا أولادهم، ودخل ابن الأشعث البصرة فخطب الناس بها، وبايعهم وبايعوه على خلع عبد الملك ونائبه الحجاج بن يوسف وقال لهم ابن الأشعث : ليس الحجاج بشيء، ولكن اذهبوا بنا إلى عبد الملك لنقاتله. ووافقه على خلعهما جميع من بالبصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب،
ثم أمر ابن الأشعث بخندق حول البصرة فعمل ذلك، وكان ذلك في أواخر ذي الحجة من هذه السنة.
ودخلت سنة 82 هـ
ففي المحرم منها كانت وقعة الزاوية بين ابن الأشعث والحجاج في آخره وكان أول يوم لأهل العراق على أهل الشام، ثم تواقعوا يوما آخر فحمل سفيان بن الأبرد أحد أمراء أهل الشام على ميمنة ابن الأشعث فهزمها، وقتل خلقا كثيرا من القراء من أصحاب ابن الأشعث في هذا اليوم، وخرّ الحجاج لله ساجدا بعدما كان جثا على ركبتيه، وسل شيئا من سيفه وجعل يترحم على مصعب بن الزبير ويقول : ما كان أكرمه حين صبر نفسه للقتل.
وكان من جملة من قتل من أصحاب ابن الأشعث : أبو الطفيل بن عامر بن واثلة الليثي. ولما فر أصحاب ابن الأشعث رجع ابن الأشعث بمن بقي معه ومن اتبعه من أهل البصرة، فسار حتى دخل الكوفة فعمد أهل البصرة إلى عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل الحجاج خمس ليال أشد القتال، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وتبعه طائفة من أهل البصرة، فاستناب الحجاج على البصرة أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، ودخل ابن الأشعث الكوفة فبايعه أهلها على خلع الحجاج وعبد الملك بن مروان وتفاقم الأمر، وكثر متابعو ابن الأشعث على ذلك واشتد الحال وتفرقت الكلمة جدا وعظم الخطب واتسع الخرق .
قال الواقدي : لما التقى جيش الحجاج وجيش ابن الأشعث بالزاوية، جعل جيش الحجاج يحمل عليهم مرة بعد مرة فقال القراء وكان عليهم جبلة بن زحر: أيها الناس ، ليس الفرار من أحد بأقبح منه منكم فقاتلوا عن دينكم ودنياكم.
وقال سعيد بن جبير نحو ذلك وقال الشعبي : قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة. ثم حملت القراء وهم العلماء على جيش الحجاج حملة صادقة فبدعوا فيهم، ثم رجعوا فإذا هم بمقدمهم جبلة بن زحر صريعا فهدهم ذلك، فناداهم جيش الحجاج : يا أعداء الله قد قتلنا طاغيتكم. ثم حمل سفيان بن الأبرد وهو على خيل الحجاج على ميسرة ابن الأشعث وعليها الأبرد بن قرة التميمي فانهزموا ولم يقاتلوا كثير قتال فأنكر الناس منهم ذلك، وكان أمير ميسرة ابن الأشعث الأبرد شجاعا لا يفر، وظنوا أنه قد خامر فنقضت الصفوف وركب الناس بعضهم بعضا، وكان ابن الأشعث يحرض الناس على القتال، فلما رأى ما الناس فيه أخذ من اتبعه وذهب إلى الكوفة، فبايعه أهلها.
ثم كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة. قاله الواقدي.
وذلك أن ابن الأشعث لما قصد الكوفة خرج إليه أهلها، فتلقوه وحفوا به ودخلوا بين يديه، غير أن شرذمة قليلة أرادت أن تقاتله دون مطر بن ناجية نائب الحجاج، فلم يمكنهم من ذلك فعدلوا إلى القصر فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة أمر بالسلاليم فنصبت على قصر الإمارة فأخذه واستنزل مطر بن ناجية وأراد قتله، فقال له : استبقني، فإني خير من فرسانك فحبسه، ثم استدعاه فأطلقه وبايعه، واستوثق لابن الأشعث أمر الكوفة وانضم إليه من جاء من أهل البصرة وكان ممن قدم عليه عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن عبد المطلب، وأمر بالمسالح من كل جانب وحفظت الثغور والطرق والمسالك .
ثم إن الحجاج ركب فيمن معه من الجيوش الشامية من البصرة في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، وبعث إليه ابن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من المصرين فمنعوا الحجاج من نزول القادسية، فسار الحجاج حتى نزل دير قرة، وجاء ابن الأشعث بمن معه من الجيوش البصرية والكوفية حتى نزل دير الجماجم ومعه جنود كثيرة وفيهم القراء من المصرين وخلق من الصالحين، وكان الحجاج بعد ذلك يقول : قاتل الله ابن الأشعث، أما كان يزجر الطير حيث رآني قد نزلت دير قرة ونزل هو بدير الجماجم. وكان جملة من اجتمع مع ابن الأشعث مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم من مواليهم، وقدم على الحجاج في غبون ذلك أمداد كثيرة من الشام ، وخندق كل من الطائفتين على نفسه وحول جيشه خندقا ، يمتنع به من الوصول إليهم ، غير أن الناس كان يبرز بعضهم لبعض في كل يوم فيقتتلون قتالا شديدا في كل يوم ، حتى أصيب من رءوس الناس خلق من قريش وغيرهم ، واستمر هذا الحال مدة طويلة ، واجتمع الأمراء من أهل المشورة عند عبد الملك بن مروان ، فقالوا له : إن كان أهل العراق يرضيهم منك أن تعزل عنهم الحجاج فهو أيسر من قتالهم وسفك دمائهم ، فاستحضر عبد الملك عند ذلك أخاه محمد بن مروان ، وابنه عبد الله بن عبد الملك بن مروان ، ومعهما جنود كثيرة جدا ، وكتب معهما كتابا إلى أهل العراق يقول لهم : إن كان يرضيكم مني عزل الحجاج عنكم عزلته ، وأبقيت عليكم أعطياتكم مثل أهل الشام ، وليختر ابن الأشعث أي بلد شاء يكون عليه أميرا ما عاش وعشت ، وتكون إمرة العراق لمحمد بن مروان . وقال في عهده هذا : فإن لم يجب أهل العراق إلى ذلك فالحجاج على ما هو عليه ، وإليه إمرة الحرب ، ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته وتحت أمره ، لا يخرجون عن رأيه في الحرب وغيره.
ولما بلغ الحجاج ما كتب به عبد الملك إلى أهل العراق من عزله إن رضوا به، شق عليه ذلك مشقة عظيمة جدا وعظم شأن هذا الرأي عنده وكتب إلى عبد الملك : يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي عنهم لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر النخعي على ابن عفان فلما سألهم : ما تريدون؟ قالوا : نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه؟ وإن الحديد بالحديد يفلح ، كان الله لك فيما ارتأيت، والسلام عليك.
قال : فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق كما أمر، فتقدم عبد الله ومحمد، فنادى عبد الله : يا معشر أهل العراق، أنا عبد الله ابن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وإنه يعرض عليكم كيت وكيت، فذكر ما كتب به أبوه معه إليهم من هذه الخصال. وقال محمد بن مروان : وأنا رسول أخي أمير المؤمنين إليكم بذلك. فقالوا : ننظر في أمرنا غدا، ونرد عليكم الخبر عشية، ثم انصرفوا، فاجتمع جميع الأمراء إلى ابن الأشعث، فقام فيهم خطيبا، وندبهم إلى قبول ما عرض عليهم من عزل الحجاج عنهم، وبيعة عبد الملك، وإبقاء الأعطيات، وإمرة محمد بن مروان على العراق بدل الحجاج. فنفر الناس من كل جانب، وقالوا : لا والله لا نقبل ذلك; نحن أكثر عددا وعددا، وهم في ضيق من الحال وقد حكمنا عليهم وذلوا لنا، والله لا نجيب إلى ذلك أبدا. ثم جددوا خلع عبد الملك بن مروان ثانية، واتفقوا على ذلك كلهم.
فلما بلغ عبد الله بن عبد الملك وعمه محمد بن مروان الخبر قالا للحجاج : شأنك بهم إذا، فنحن في طاعتك كما أمرنا أمير المؤمنين. فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة ويسلم هو أيضا عليهم بالإمرة، وتولى الحجاج أمر الحرب وتدبيرها كما كان قبل ذلك، فعند ذلك برز كل من الفريقين للقتال والحرب، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى الخيل سفيان بن الأبرد، وعلى الرجالة عبد الرحمن بن حبيب الحكمي، وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي، وعلى الميسرة الأبرد بن قرة التميمي، وعلى الخيالة عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة، وعلى الرجالة محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري، وعلى القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان في القراء سعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وكميل بن زياد، وكان شجاعا فاتكا على كبر سنه وأبو البختري الطائي وغيرهم .
وجعلوا يقتتلون في كل يوم وأهل العراق تأتيهم الميرة من الرساتيق والأقاليم من العلف والطعام وغيره، وأما أهل الشام الذين مع الحجاج ففي ضيق من العيش وقلة من الطعام وقد فقدوا اللحم بالكلية فلا يجدونه، وما زالت الحرب في هذه المدة كلها حتى انسلخت هذه السنة وهم على حالهم وقتالهم في كل يوم أو يوم بعد يوم، والدائرة لأهل العراق على أهل الشام في أكثر الأيام، وقد قتل من أصحاب الحجاج زياد بن غنم وكسر بسطام بن مصقلة في أربعة آلاف جفون سيوفهم واستقتلوا، وكانوا من أصحاب ابن الأشعث.
ودخلت سنة 83 هـ.
استهلت هذه السنة والناس متواقفون لقتال الحجاج وأصحابه بدير قرة وابن الأشعث وأصحابه بدير الجماجم والمبارزة في كل يوم بينهم واقعة، وفي غالب الأيام تكون النصرة لأهل العراق على أهل الشام حتى قيل : إن أصحاب ابن الأشعث وهم أهل العراق كسروا أهل الشام وهم أصحاب الحجاج بضعا وثمانين مرة ينتصرون عليهم. ومع هذا فالحجاج ثابت في مكانه صابر ومصابر، لا يتزحزح عن موضعه الذي هو فيه، بل إذا حصل له ظفر في يوم من الأيام يتقدم بجيشه إلى نحر عدوه، وكان له خبرة بالحرب، وما زال ذلك دأبه ودأبهم حتى أمر بالحملة على كتيبة القراء، لأن الناس كانوا تبعا لهم وهم الذين يحرضونهم على القتال والناس يقتدون بهم، فصبر القراء لحملة جيشه ثم جمع الرماة من جيشه وحمل بهم وما انفك حتى قتل منهم خلقا كثيرا، ثم حمل على جيش ابن الأشعث فانهزم أصحاب ابن الأشعث وذهبوا في كل وجه وهرب ابن الأشعث بين أيديهم ومعه فل قليل من الناس، فأتبعه الحجاج جيشا كثيفا مع عمارة بن تميم اللخمي ومعه محمد بن الحجاج والإمرة لعمارة، فساقوا وراءهم يطردونهم لعلهم يظفرون به قتلا أو أسرا، فما زال يسوق ويخترق الأقاليم والكور والرساتيق وهم في أثره، حتى وصل إلى كرمان واتبعه الشاميون فنزلوا في قصر كان فيه أهل العراق قبلهم، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من أصحاب ابن الأشعث الذين فروا معه، ثم إن ابن الأشعث دخل هو ومن معه من الفل إلى بلاد رتبيل ملك الترك فأكرمه رتبيل وأنزله عنده وأمنه وعظمه.
قال الواقدي : ومر ابن الأشعث وهو ذاهب إلى بلاد رتبيل على عامل له في بعض المدن كان ابن الأشعث قد استعمله على ذلك عند رجوعه إلى العراق، فأكرمه ذلك العامل وأهدى إليه هدايا وأنزله فعل ذلك خديعة به ومكرا، وقال له : ادخل إلى عندي إلى البلد لتتحصن بها من عدوك، ولكن لا تدع أحدا ممن معك يدخل المدينة. فأجابه إلى ذلك وإنما أراد المكر به فمنعه أصحابه، فلم يقبل منهم فتفرق عنه أصحابه، فلما دخل المدينة وثب عليه العامل فمسكه وأوثقه بالحديد، وأراد أن يتخذ به يدا عند الحجاج وقد كان الملك رتبيل سر بقدوم ابن الأشعث، فلما بلغه ما حدث له من جهة ذلك العامل بمدينة بست، سار حتى أحاط ببست وأرسل إلى عاملها يقول له : والله لئن آذيت ابن الأشعث لا أبرح حتى أستنزلك وأقتل جميع من في بلدك. فخافه ذلك العامل وسير إليه ابن الأشعث، فأكرمه رتبيل فقال ابن الأشعث لرتبيل : إن هذا العامل كان عاملي ومن جهتي فغدر بي، وفعل ما رأيت فأذن لي في قتله. فقال : قد أمنته. وكان مع ابن الأشعث عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان هو الذي يصلي بالناس هنالك في بلاد رتبيل، ثم إن جماعة من الفل الذين هربوا من الحجاج اجتمعوا وساروا وراء ابن الأشعث ليدركوه فيكونوا معه، وهم قريب من ستين ألفا فلما وصلوا إلى سجستان، وجدوا ابن الأشعث قد دخل إلى عند رتبيل فتغلبوا على سجستان، وعذبوا عاملها عبد الله بن عامر البعار وإخوته وقرائبه، واستحوذوا على ما فيها من الأموال وانتشروا في تلك البلاد وأخذوها، ثم كتبوا إلى ابن الأشعث : أن اخرج إلينا حتى نكون معك ننصرك على من يخالفك ونأخذ بلاد خراسان، فإن بها جندا عظيما منا، فنكون بها حتى يهلك الله الحجاج أوعبد الملك فنرى بعد ذلك رأينا، فخرج إليهم ابن الأشعث وسار بهم قليلا إلى نحو خراسان، فاعتزله شرذمة من أهل العراق مع عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فقام فيهم ابن الأشعث خطيبا، فذكر غدرهم ونكولهم عن الحرب وقال : لا حاجة لي بكم، وأنا ذاهب إلى صاحبي رتبيل فأكون عنده ثم انصرف عنهم، وتبعه طائفة منهم وبقي معظم الجيش، فلما انفصل عنهم ابن الأشعث بايعوا عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة الهاشمي وساروا معه إلى خراسان، فخرج إليهم أميرها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة ليمنعهم من دخول بلاده، وكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن عباس يقول له : إن في البلاد متسعا، فاذهب إلى أرض ليس بها سلطان فإني أكره قتالك، وإن كنت تريد مالا بعثت إليك. فقال له : إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا نستريح ونريح خيلنا ثم نذهب وليست بنا حاجة إلى حاجة مما عرضت، ثم أقبل عبد الرحمن على أخذ الخراج مما حوله من البلاد من كور خراسان، فخرج إليه يزيد بن المهلب ومعه أخوه المفضل في جيوش كثيفة، فلما صادفوهم اقتتلوا غير كثير، ثم انهزم أصحاب عبد الرحمن بن عباس وقتل يزيد منهم مقتلة عظيمة وأسر منهم أسرى كثيرة، واحتاز ما في معسكرهم وبعث بالأسارى وفيهم محمد بن سعد بن أبي وقاص إلى الحجاج، ويقال : إن محمد بن سعد قال ليزيد بن المهلب : أسألك بدعوة أبي لأبيك لما أطلقتني. فأطلقه. قال أبو جعفر بن جرير : ولهذا الكلام خبر فيه طول .
ولما قدمت الأسارى على الحجاج قتل أكثرهم وعفا عن بعضهم، وقد كان الحجاج يوم ظهر على ابن الأشعث بدير الجماجم نادى مناديه في الناس : من رجع فهو آمن، ومن لحق بقتيبة بن مسلم بالري فهو آمن، فلحق به خلق كثير ممن كان مع ابن الأشعث فأمنهم الحجاج، ومن لم يلحق به شرع الحجاج في تتبعهم، فقتل منهم خلقا كثيرا حتى كان آخر من قتل منهم سعيد بن جبير على ما سيأتي بيانه.
وقد كان الحجاج وهو مواقف لابن الأشعث بعث كمينا يأتون جيش ابن الأشعث من ورائه، ثم تواقف الحجاج وابن الأشعث وهرب الحجاج بمن معه وترك معسكره، فجاء ابن الأشعث فاحتاز ما في المعسكر وبات فيه، فجاءت السرية إليهم ليلا وقد وضعوا أسلحتهم، فمالوا عليهم ميلة واحدة ورجع الحجاج بأصحابه فأحاطوا بهم، فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل من أصحاب ابن الأشعث خلق كثير وغرق خلق كثير منهم في دجلة ودجيل، وجاء الحجاج إلى معسكرهم فقتل من وجده فيه، فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف منهم جماعة من الرؤساء والأعيان واحتازوه بكماله، وانطلق ابن الأشعث هاربا في ثلاثمائة، فركبوا دجيلا في السفن وعقروا دوابهم وجازوا إلى البصرة، ثم ساروا من هنالك وكان من أمرهم من دخولهم بلاد رتبيل ما كان، ثم شرع الحجاج في تتبع أصحاب ابن الأشعث فقتلهم مثنى وفرادى حتى قيل : إنه قتل منهم بين يديه صبرا مائة ألف وثلاثين ألفا. قاله النضر بن شميل عن هشام بن حسان. منهم محمد بن سعد بن أبي وقاص وجماعات من السادات حتى كان آخرهم سعيد بن جبير رحمهم الله ورضي عنهم ، كما سيأتي ذلك في موضعه .
ثم دخلت سنة 84 هـ
وفيها كان مهلك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي وقيل : في التي بعدها فالله أعلم. وذلك أن الحجاج كتب إلى رتبيل ملك الترك الذي لجأ ابن الأشعث إليه يقول له : والله الذي لا إله إلا هو لئن لم تبعث إلي بابن الأشعث لأبعثن إلى بلادك ألف ألف مقاتل ولأخربنها. فلما تحقق الوعيد من الحجاج استشار في ذلك بعض الأمراء فأشار عليه بتسليم ابن الأشعث إليه قبل أن يخرب الحجاج دياره ويأخذ عامة أمصاره، فأرسل إلى الحجاج يشترط عليه أن لا يقاتل عشر سنين وأن لا يؤدي في كل سنة منها إلا مائة ألف من الخراج ، فأجابه الحجاج إلى ذلك، وقيل : إن الحجاج وعده أن يطلق له خراج أرضه سبع سنين، فعند ذلك غدر رتبيل بابن الأشعث، فقيل : إنه أمر بضرب عنقه صبرا بين يديه وبعث برأسه إلى الحجاج، وقيل : بل كان ابن الأشعث قد مرض مرضا شديدا فقتله وهو بآخر رمق، والمشهور أنه قبض عليه وعلى ثلاثين من أقربائه فقيدهم في الأصفاد، وبعث بهم مع رسل الحجاج إليه، فلما كانوا ببعض الطريق بمكان يقال له : الرخج، صعد ابن الأشعث وهو مقيد بالحديد إلى سطح قصر ومعه رجل موكل به لئلا يفر وألقى نفسه من ذلك القصر، وسقط معه الموكل به فماتا جميعا فعمد الرسول إلى رأس ابن الأشعث فاحتزه، وقتل من معه من أصحاب ابن الأشعث وبعث برءوسهم إلى الحجاج، فأمر فطيف برأسه في العراق ثم بعثه إلى أمير المؤمنين عبد الملك فطيف برأسه في الشام، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بمصر فطيف برأسه هنالك، ثم دفنوا رأسه بمصر وجثته بالرخج.
أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن
و دمتم سالمين