عبدالله عابد
05-07-2016, 07:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
تاريخ الفكر الأشعري الجهمي
أخذ أبو الحسن الأشعري (324 هـ) علم الكلام من زوج أمه أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة. وبعد أن تبحر في كلام الاعتزال وبلغ فيه الغاية، كثر شكه فيه، ثم إنه تاب عنه ورجع عن الاعتزال إلى مذهب هجين بين عقيدة السلف وبين عقيدة الفلاسفة، وبقي معتمداً على علم الكلام.
وقد ذكروا لأبي الحسن الشعري ثلاثة أحوال:
أولها : حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.
الحال الثاني : انتقاله إلى مذهب الكلابية إثبات الصفات العقلية السبعة، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وتأويل الخبرية كالوجه والقدم والساق ونحو ذلك.
الحال الثالث : إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريًا على منوال السلف وهي طريقته في "الإبانة"التي صنفها آخراً.
قلت: وهذه الحال الثالث لم تثبت والمشهور عن علماء أهل السنة والجماعة في عصره أنه لم يتب (انظر ذم الكلام وأهله للهروي) ويدل على ذلك أن تلامذته ما زالوا متمسكين بمذهبه حتى بعد موته, وقال بعض المحققين أن ما ذكره في كتاب الإبانة كان نفاقا منه للحنابلة وخوفاً من صولتهم
ثم إن بعض الناس أخذوا عنه كتبه التي كتبها في حاله الثاني. وسموا هذا المذهب العقائدي بالمذهب الأشعري. وهو مذهب مشابه لمذهب ابن كلاب، الذي بدّعه الإمام أحمد بن حنبل وأمر بهجره.
مرحلة الدعوة
والذي أخذ عن أبي الحسن الأشعري هو تلميذه أبو عبد الله بن مجاهد الطائي البصري (ت 370هـ). وهو غير أبي بكر بن مجاهد المقرئ. قال عنه الخطيب البغدادي (1|343): «هو من أهل البصرة، سكن بغداد. وعليه درس أبو بكر (الباقلاني) علم الكلام». وقد تتلمذ على يديه أبو ذر الهروي (ت 435هـ) وهو أول من أدخل الأشعرية إلى الحجاز، وأن أول من أدخل الأشعرية إلى بلاد المغرب والأندلس هم تلاميذ أبي ذر وعلى رأسهم القاضيان أبو الوليد الباجي (ت 474هـ) وأبو بكر بن العربي (ت 543هـ). وهما أخذا الأشعرية عن أبي ذر الهروي أولاً، ثم رحلا إلى بغداد بمشورة من أبي ذر، فأخذا الأشعرية عن شيوخه، فنشراها في المغرب. ونشرها في القيروان بعضاً من تلاميذ أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني البصري المالكي (328-403هـ)، شيخ الأشاعرة في عصره. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
روى الإمام أبو إسماعيل الهروي الأنصاري رضي الله عنه في كتابه (ذم الكلام وأهله) عن الحسين بن أبي أمامة المالكي قال: سمعت أبي يقول: "لعن الله أبا ذر الهروي، فإنّه أول من حمل الكلام إلى الحرم، وأول من بثه في المغاربة".
مرحلة الإكراه بالحديد والنار
وهذا يفسر كيف وصل المذهب الأشعري إلى إفريقيا والأندلس، لكنه لا يمكن أن ينتشر بدون دعم قوي من السلاطين. فمن المعروف أنه لم ينتشر في المغرب إلا بعد انتهاء دولة المرابطين وسيطرة الزنادقة التومرتيين "الموحدين" (كما يسمون أنفسهم). وإن كان له وجود من قبل في المغرب والأندلس، لكن الأشاعرة كانوا -قبل التومرتيين- شرذمة مستضعفة. ولم ينتشر المذهب الأشعري إلا بالحديد والنار، بعد مجازر فظيعة ارتكبها أتباع الخارجي الدجال (مدعي المهدية) ابن تومرت (ت 524هـ، وهو تلميذ أبو حامد الغزالي الصوفي الأشعري) في حق أهل السنة والجماعة (السلفيين) في صدر المئة السادسة بعد الهجرة. وسموا أنفسهم بالموحدين لأنهم يكفرون عامة المسلمين ويعتبرونهم مجسمين. وقتلاهم مئات الألوف من المسلمين السنة.
وكان الأشاعرة أقلية مذمومة في المشرق. والظاهر أن أول من تصدى لنشر المذهب الأشعري في خراسان هو أبو بكر بن فورك، فإنه أول من أقام مدرسة تُدَرِّس على طريقة الأشاعرة في نيسابور (قصبة خراسان). وهذا يعبر عن وجود المذهب، أما انتشاره هذا الانتشار الذي لم يبق لغيره معه إلا القليل فلم يكن إلا مع تحول الدولة السلجوقية لتبنيه، بعد التهجم عليه فترة –هي فترة وجيزة مقارنة بما بعدها–. وكان سلاطنة دولة السلاجقة في بدايتها يلعنون الأشاعرة والرافضة على المنابر، كما في زمن عميد الملك (منصور بن محمد الكندري) وزير طغرلبك (تاريخ ابن خلدون 3|468 وشذرات الذهب 3|302). وكان السلطان طغرلبك (ت 455هـ) قد أمر بلعن الأشاعرة والرافضةعلى المنابر بأمر من وزيره الكندري المعتزلي، فغضب علماء الأشعرية –ومنهم القشيري وغيره– من ذلك، وتركوا بلاده، وهاجروا منها. فأرسل طغرلبك وجمعهم عنده، واستفسر عن سبب خروجهم. فقالوا له: إن الأشعري لم يقل هذا الكلام الذي تلعنونه بسببه! فقال لهم طغرلبك: «نحن نلعن من يقول ذلك، بغض النظر عن صاحبه».
حتى أتى الأشعري المتعصب "نظام الملك" (ت 485هـ) وزير السلطان ألب أرسلان فرفعهم ونصر الأشعرية، وبث الفتنة في بغداد، حتى اقتتل أهل الإسلام في الطرقات، بسبب رداءة مذهب نظام الملك قبحه الله. وأعلى من قدر الأشاعرة وأكرم إمامهم الجويني ملحد الحرمين - الذي يسميه الجهمية الأشاعرة إمام الحرمين وأبا القاسم القشيري، وبنى المدرسة النظامية وهي أول مدرسة بنيت للجهمية. وقد حرص أن يتولى التدريس في تلك المدارس من الأشعرية. وقد كانت هناك مدارس للأشعرية قبل المدارس النظامية كمدرسة البيهقي (ت 458هـ) وغيرها، لكن المدرسة النظامية أصبحت بمثابة جامعة حكومية رسمية. وانتشر المذهب الأشعري في عهد وزارة نظام الملك الذي كان أشعري العقيدة، وصاحب الكلمة النافذة في الإمبراطورية السلجوقية. وكذلك أصبحت العقيدة الأشعرية عقيدة شبه رسمية تتمتع بحماية الدولة. وزاد في انتشارها وقوتها: مدرسة بغداد النظامية، ومدرسة نيسابور النظامية. وكان يقوم عليهما رواد المذهب الأشعري. وكانت المدرسة النظامية في بغداد أكبر جامعة للجهمية في العالم كله وقتها.
ومع أن أكثر فقهاء الشافعية المتأخرين من الأشاعرة، فهذا ليس في كل عصر. فغالب أئمة الحديث والأثر شافعية، وأغلبهم ليسوا أشاعرة. فابن خزيمة وابن حبان والإسماعيلي و أبو عوانة وابن عدي والدارقطني والبرقاني والخطيب البغدادي وأبو نعيم والبغوي والصابوني وأئمة الأثر في نيسابور وبغداد، كلهم ليسوا أشاعرة. ثم إن الإمام الشافعي نفسه لم يكن أشعرياً، ولا تلاميذه الذين بثّوا علمه، ولا كان الأشعري قد ولد في زمنهم، بل كانوا على السنة، بل سجن البويطي في محنة خلق القرآن لمناصرته السنة. بل وعلى اعتبار كل من ذكر في طبقات الشافعية شافعي، فمحمد بن نصر المروزي و ابن المنذر إلخ من السلفية. وقال شيخ الحرمين أبو الحسن الكرجي (من علماء القرن الخامس الشافعية): «لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون و يستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، و يتبرءون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، و ينهون أصحابهم و أحبابهم عن الحوم حواليه» (انظر شرح الأصفهانية ص 36).
وإنما يتمسح الأشاعرة الجهمية بالأئمة الكبار كالشافعي ومالك وأحمد ليروج مذهبهم على العامة وقد نجحوا في ذلك نجاحا كبيرا.
وفي مصر نشر يوسف بن أيوب الأيوبي الملقب بصلاحالدين مذهب الأشعري بعد أن قضى على دولة الرافضة العبيديين (الفاطميين كما يسمون أنفسهم). وبذل جهداً كبيراً في حمل الناس أيام حكمه (في الشام ومصر والحجاز واليمن) على اعتناق العقيدة الأشعرية وحسيبه الله. وتوارث هذا الملوك من بعده، في الدولة الأيوبية وفي دولة المماليك. وقد تسلط علماء الجهمية الأشاعرة في زمانه واستفحل أمرهم حتى إن إمام الأشاعرة الجهمية في زمانه الخبوشاني كان ينبش قبور السلفيين بعد موتهم.
وهذا يعطيني صورة حقيقة ليوسف بن أيوب فليس كونه استنقذ القدس من أيدي الصليبيين أنه رجل صالح وأنه نصر الإسلام الأهم من ذلك ماهي عقيدته فلن يخدعنا الشيطان بمثل هذه الأمور, وخصوصا أن الرجل بدأ حكمه بالخروج على إمام زمانه وولي نعمته نور الدين زنكي ثم اشتغل حياته كلها في تأسيس مملكته ولم يلتفت إلى القدس إلا في أخر عمره وبعد أن ضعف الجيش النصراني بفعل الأوبئة التي اجتاحته
قال المقريزي في "المواعظ" (4\160): «وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري. وصار يحفّظها صغار أولاده. فلذلك عقدوا الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه. فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك (يقصد المماليك). واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزاليّ مذهب الأشعريّ. فلما عاد إلى بلاد المغرب وقّام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامّتهم. ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن عليّ الميسيّ وتلقب بأمير المؤمنين، وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدّة سنين، وتسموا بالموحدين! فلذلك صارتّ دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت. إذ هو عندهم الإمام المعلوم المهديّ المعصوم. فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلاّ اللّه خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ. فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعريّ وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نُسي غيره من المذاهب وجُهِلَ، حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه. إلاّ أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل رضي اللّه عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف: لا يرون تأويل ما ورد من الصفات. إلى أن كان بعد السبعمئة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحكم بن عبد السلام بن تيمية الحرّانيّ. فتصدّى للانتصار لمذهب السلف، وبالغ في الردّ على مذهب الأشاعرة، وصَدَعَ بالنكير عليهم وعلى الرافضة وعلى الصوفية».
قلت: نعم ابن تيمية تصدى للأشاعرة ونقض مذهبهم في الصفات وفي عبادة الأموات ولكنه قدم للناس مذهب غلاة المرجئة وزعم أنه مذهب السلف فوقع الناس في بدعة عظيمة لا تقل شراً عن بدعة الأشاعرة.
وظل المذهب السلفي مضطهداً من قبل عامة الحكام المماليك، إلى أن جاء العثمانيون وتبنوا العقيدتين الماتريدية والأشعرية كذلك، مما أسهم في فرضها على سائر المسلمين، خاصة أن العالم الإسلامي كان آنذاك في عصر التخلف والانحطاط. إلى أن ظهرت الصحوة الدينية في بلاد المسلمين في العصر الحديث، بعد تحرر بلادهم من الاستعمار الأوربي. فاليوم نجد المذهب السلفي قد ساد في بلاد كثيرة، بينما ينحسر المذهب الأشعري تدريجياً، إلا أنه قد بقي له نفوذ قوي في الدول التي تحارب الدعوة السلفية.
بسم الله الرحمن الرحيم
تاريخ الفكر الأشعري الجهمي
أخذ أبو الحسن الأشعري (324 هـ) علم الكلام من زوج أمه أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة. وبعد أن تبحر في كلام الاعتزال وبلغ فيه الغاية، كثر شكه فيه، ثم إنه تاب عنه ورجع عن الاعتزال إلى مذهب هجين بين عقيدة السلف وبين عقيدة الفلاسفة، وبقي معتمداً على علم الكلام.
وقد ذكروا لأبي الحسن الشعري ثلاثة أحوال:
أولها : حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.
الحال الثاني : انتقاله إلى مذهب الكلابية إثبات الصفات العقلية السبعة، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وتأويل الخبرية كالوجه والقدم والساق ونحو ذلك.
الحال الثالث : إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريًا على منوال السلف وهي طريقته في "الإبانة"التي صنفها آخراً.
قلت: وهذه الحال الثالث لم تثبت والمشهور عن علماء أهل السنة والجماعة في عصره أنه لم يتب (انظر ذم الكلام وأهله للهروي) ويدل على ذلك أن تلامذته ما زالوا متمسكين بمذهبه حتى بعد موته, وقال بعض المحققين أن ما ذكره في كتاب الإبانة كان نفاقا منه للحنابلة وخوفاً من صولتهم
ثم إن بعض الناس أخذوا عنه كتبه التي كتبها في حاله الثاني. وسموا هذا المذهب العقائدي بالمذهب الأشعري. وهو مذهب مشابه لمذهب ابن كلاب، الذي بدّعه الإمام أحمد بن حنبل وأمر بهجره.
مرحلة الدعوة
والذي أخذ عن أبي الحسن الأشعري هو تلميذه أبو عبد الله بن مجاهد الطائي البصري (ت 370هـ). وهو غير أبي بكر بن مجاهد المقرئ. قال عنه الخطيب البغدادي (1|343): «هو من أهل البصرة، سكن بغداد. وعليه درس أبو بكر (الباقلاني) علم الكلام». وقد تتلمذ على يديه أبو ذر الهروي (ت 435هـ) وهو أول من أدخل الأشعرية إلى الحجاز، وأن أول من أدخل الأشعرية إلى بلاد المغرب والأندلس هم تلاميذ أبي ذر وعلى رأسهم القاضيان أبو الوليد الباجي (ت 474هـ) وأبو بكر بن العربي (ت 543هـ). وهما أخذا الأشعرية عن أبي ذر الهروي أولاً، ثم رحلا إلى بغداد بمشورة من أبي ذر، فأخذا الأشعرية عن شيوخه، فنشراها في المغرب. ونشرها في القيروان بعضاً من تلاميذ أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني البصري المالكي (328-403هـ)، شيخ الأشاعرة في عصره. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
روى الإمام أبو إسماعيل الهروي الأنصاري رضي الله عنه في كتابه (ذم الكلام وأهله) عن الحسين بن أبي أمامة المالكي قال: سمعت أبي يقول: "لعن الله أبا ذر الهروي، فإنّه أول من حمل الكلام إلى الحرم، وأول من بثه في المغاربة".
مرحلة الإكراه بالحديد والنار
وهذا يفسر كيف وصل المذهب الأشعري إلى إفريقيا والأندلس، لكنه لا يمكن أن ينتشر بدون دعم قوي من السلاطين. فمن المعروف أنه لم ينتشر في المغرب إلا بعد انتهاء دولة المرابطين وسيطرة الزنادقة التومرتيين "الموحدين" (كما يسمون أنفسهم). وإن كان له وجود من قبل في المغرب والأندلس، لكن الأشاعرة كانوا -قبل التومرتيين- شرذمة مستضعفة. ولم ينتشر المذهب الأشعري إلا بالحديد والنار، بعد مجازر فظيعة ارتكبها أتباع الخارجي الدجال (مدعي المهدية) ابن تومرت (ت 524هـ، وهو تلميذ أبو حامد الغزالي الصوفي الأشعري) في حق أهل السنة والجماعة (السلفيين) في صدر المئة السادسة بعد الهجرة. وسموا أنفسهم بالموحدين لأنهم يكفرون عامة المسلمين ويعتبرونهم مجسمين. وقتلاهم مئات الألوف من المسلمين السنة.
وكان الأشاعرة أقلية مذمومة في المشرق. والظاهر أن أول من تصدى لنشر المذهب الأشعري في خراسان هو أبو بكر بن فورك، فإنه أول من أقام مدرسة تُدَرِّس على طريقة الأشاعرة في نيسابور (قصبة خراسان). وهذا يعبر عن وجود المذهب، أما انتشاره هذا الانتشار الذي لم يبق لغيره معه إلا القليل فلم يكن إلا مع تحول الدولة السلجوقية لتبنيه، بعد التهجم عليه فترة –هي فترة وجيزة مقارنة بما بعدها–. وكان سلاطنة دولة السلاجقة في بدايتها يلعنون الأشاعرة والرافضة على المنابر، كما في زمن عميد الملك (منصور بن محمد الكندري) وزير طغرلبك (تاريخ ابن خلدون 3|468 وشذرات الذهب 3|302). وكان السلطان طغرلبك (ت 455هـ) قد أمر بلعن الأشاعرة والرافضةعلى المنابر بأمر من وزيره الكندري المعتزلي، فغضب علماء الأشعرية –ومنهم القشيري وغيره– من ذلك، وتركوا بلاده، وهاجروا منها. فأرسل طغرلبك وجمعهم عنده، واستفسر عن سبب خروجهم. فقالوا له: إن الأشعري لم يقل هذا الكلام الذي تلعنونه بسببه! فقال لهم طغرلبك: «نحن نلعن من يقول ذلك، بغض النظر عن صاحبه».
حتى أتى الأشعري المتعصب "نظام الملك" (ت 485هـ) وزير السلطان ألب أرسلان فرفعهم ونصر الأشعرية، وبث الفتنة في بغداد، حتى اقتتل أهل الإسلام في الطرقات، بسبب رداءة مذهب نظام الملك قبحه الله. وأعلى من قدر الأشاعرة وأكرم إمامهم الجويني ملحد الحرمين - الذي يسميه الجهمية الأشاعرة إمام الحرمين وأبا القاسم القشيري، وبنى المدرسة النظامية وهي أول مدرسة بنيت للجهمية. وقد حرص أن يتولى التدريس في تلك المدارس من الأشعرية. وقد كانت هناك مدارس للأشعرية قبل المدارس النظامية كمدرسة البيهقي (ت 458هـ) وغيرها، لكن المدرسة النظامية أصبحت بمثابة جامعة حكومية رسمية. وانتشر المذهب الأشعري في عهد وزارة نظام الملك الذي كان أشعري العقيدة، وصاحب الكلمة النافذة في الإمبراطورية السلجوقية. وكذلك أصبحت العقيدة الأشعرية عقيدة شبه رسمية تتمتع بحماية الدولة. وزاد في انتشارها وقوتها: مدرسة بغداد النظامية، ومدرسة نيسابور النظامية. وكان يقوم عليهما رواد المذهب الأشعري. وكانت المدرسة النظامية في بغداد أكبر جامعة للجهمية في العالم كله وقتها.
ومع أن أكثر فقهاء الشافعية المتأخرين من الأشاعرة، فهذا ليس في كل عصر. فغالب أئمة الحديث والأثر شافعية، وأغلبهم ليسوا أشاعرة. فابن خزيمة وابن حبان والإسماعيلي و أبو عوانة وابن عدي والدارقطني والبرقاني والخطيب البغدادي وأبو نعيم والبغوي والصابوني وأئمة الأثر في نيسابور وبغداد، كلهم ليسوا أشاعرة. ثم إن الإمام الشافعي نفسه لم يكن أشعرياً، ولا تلاميذه الذين بثّوا علمه، ولا كان الأشعري قد ولد في زمنهم، بل كانوا على السنة، بل سجن البويطي في محنة خلق القرآن لمناصرته السنة. بل وعلى اعتبار كل من ذكر في طبقات الشافعية شافعي، فمحمد بن نصر المروزي و ابن المنذر إلخ من السلفية. وقال شيخ الحرمين أبو الحسن الكرجي (من علماء القرن الخامس الشافعية): «لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون و يستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، و يتبرءون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، و ينهون أصحابهم و أحبابهم عن الحوم حواليه» (انظر شرح الأصفهانية ص 36).
وإنما يتمسح الأشاعرة الجهمية بالأئمة الكبار كالشافعي ومالك وأحمد ليروج مذهبهم على العامة وقد نجحوا في ذلك نجاحا كبيرا.
وفي مصر نشر يوسف بن أيوب الأيوبي الملقب بصلاحالدين مذهب الأشعري بعد أن قضى على دولة الرافضة العبيديين (الفاطميين كما يسمون أنفسهم). وبذل جهداً كبيراً في حمل الناس أيام حكمه (في الشام ومصر والحجاز واليمن) على اعتناق العقيدة الأشعرية وحسيبه الله. وتوارث هذا الملوك من بعده، في الدولة الأيوبية وفي دولة المماليك. وقد تسلط علماء الجهمية الأشاعرة في زمانه واستفحل أمرهم حتى إن إمام الأشاعرة الجهمية في زمانه الخبوشاني كان ينبش قبور السلفيين بعد موتهم.
وهذا يعطيني صورة حقيقة ليوسف بن أيوب فليس كونه استنقذ القدس من أيدي الصليبيين أنه رجل صالح وأنه نصر الإسلام الأهم من ذلك ماهي عقيدته فلن يخدعنا الشيطان بمثل هذه الأمور, وخصوصا أن الرجل بدأ حكمه بالخروج على إمام زمانه وولي نعمته نور الدين زنكي ثم اشتغل حياته كلها في تأسيس مملكته ولم يلتفت إلى القدس إلا في أخر عمره وبعد أن ضعف الجيش النصراني بفعل الأوبئة التي اجتاحته
قال المقريزي في "المواعظ" (4\160): «وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري. وصار يحفّظها صغار أولاده. فلذلك عقدوا الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه. فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك (يقصد المماليك). واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزاليّ مذهب الأشعريّ. فلما عاد إلى بلاد المغرب وقّام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامّتهم. ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن عليّ الميسيّ وتلقب بأمير المؤمنين، وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدّة سنين، وتسموا بالموحدين! فلذلك صارتّ دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت. إذ هو عندهم الإمام المعلوم المهديّ المعصوم. فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلاّ اللّه خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ. فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعريّ وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نُسي غيره من المذاهب وجُهِلَ، حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه. إلاّ أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل رضي اللّه عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف: لا يرون تأويل ما ورد من الصفات. إلى أن كان بعد السبعمئة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحكم بن عبد السلام بن تيمية الحرّانيّ. فتصدّى للانتصار لمذهب السلف، وبالغ في الردّ على مذهب الأشاعرة، وصَدَعَ بالنكير عليهم وعلى الرافضة وعلى الصوفية».
قلت: نعم ابن تيمية تصدى للأشاعرة ونقض مذهبهم في الصفات وفي عبادة الأموات ولكنه قدم للناس مذهب غلاة المرجئة وزعم أنه مذهب السلف فوقع الناس في بدعة عظيمة لا تقل شراً عن بدعة الأشاعرة.
وظل المذهب السلفي مضطهداً من قبل عامة الحكام المماليك، إلى أن جاء العثمانيون وتبنوا العقيدتين الماتريدية والأشعرية كذلك، مما أسهم في فرضها على سائر المسلمين، خاصة أن العالم الإسلامي كان آنذاك في عصر التخلف والانحطاط. إلى أن ظهرت الصحوة الدينية في بلاد المسلمين في العصر الحديث، بعد تحرر بلادهم من الاستعمار الأوربي. فاليوم نجد المذهب السلفي قد ساد في بلاد كثيرة، بينما ينحسر المذهب الأشعري تدريجياً، إلا أنه قد بقي له نفوذ قوي في الدول التي تحارب الدعوة السلفية.