مطرالثبيتي
07-30-2013, 03:01 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
العــــرب فـــي الأنــدلـــــس
أفلت صقر قريش من شرك السفاح ونجا بنفسه وأهله إلى الأندلس وكان الـمُلك فيها يومئذ يضطرب بالخلاف بين المضرية واليمنية ، والبلاد تنتظر من يلمها من شتات ويحييها من موات ويجمعها من فرقة ، فكان عبد الرحمن الداخل هو الرجل الموعود والإمام المنتظر ، فاستولى عليها سنة 138هـ بمعونة اليمنية ونشر علم بني أمية في قرطبة بعد ما طوته المسودة في دمشق ، وتعاقب على عرشها من أولاده وحفدته تسعة عشر خليفة في أربعة وثمانين ومائتي عام حتى أصابهم داء الأمم فتفرقوا وتمزقوا وانحل ملكهم إلى دويلات صغيرة عرف أصحابها بـملوك الطوائف ، كبني جهور في قرطبة ، وأبن عباد في أشبيلية ، وأبن الأفطس في بطليوس .
وكانت سياسة الأمويين في الغرب غير سياستهم في الشرق ، فقد كانوا دولتهم الأولى يترفعون عن خلاط الموالي ويعتزون بعصبية الجنس فأصبحوا في هذه الدولة مدنيين يمدون إلى القوط أسباب الاتصال بهم ويمهدون لهم سب الاندماج فيهم ، صُنع بني العباس في أبناء الفرس فكان من نتيجة هذا الارتباط وأثر هذا الاختلاط أن حدث في الأندلس ما حدث في العراق من امتزاج الجنسية السامية بالجنسية الآرية ونضج العقلية العربية واستعار النهضة الأدبية ، وازدهار الأندلس بحضارة إسلامية مادتها من الشرق وبناتها من العرب ، لأن أوربا يومئذ كانت تخبط في دياجير الجهالة وترسف في أغلال الأمية فاقتبس الأسبان ثقافة العرب فاعتقدوا دينهم وتكلموا لغتهم وتعلموا أدبهم وهجروا اللاتينية وآدابها حتى أنسوها ، وحتى جأر بالشكوى من هذه الحال كاهن قرطبة ولسكن القسيسين أنفسهم لم يستطيعوا الوقوف بفجوة من هذا السيل فجرفهم جرفاً حتى أضطرهم إلى نقل كتب الدين إلى اللغة العربية .
وكان الأمويون وعرب الأندلس لا ينفكون ملتفتين إلى الشرق موطن الجنس والدين واللغة والأدب والحضارة فيسيرون على ضيائه ، ويستمدون من زعمائه وعلمائه ، ويحذون في سياستهم وإدارتهم حذو العباسيين ، فشيدوا المدارس الجامعة وأنشئوا المكاتب العامة ونشطوا حركة التأليف وأذكوا نهضة الأدب ورفعوا مجد الفنون ، وعقدوا مجالس المناظرة والمسامرة والغناء وبلغت من ذلك كله الحظ الموفور في عهد عبد الرحمن الثاني (206-238هـ) وبلغت أوج سلطانها وغاية عمرانها وتمام بنيانها في عصر أمير المؤمنين عبد الرحمن الثالث (300-350هـ) وابنه الحكم ، وهو عصرها الذهبي الذي بلغت فيه من السطوة والقوة والثروة والوحدة والحضارة والعمارة والفن والأدب ما كادت تضارع به بغداد ، وما أدهشت به المؤرخ دوزى حتى قال (إن عبد الرحمن الناصر أولى أن يكون من ملوك العصر الحديث لا من ملوك القرون الوسطى) وهكذا كانت حضارة الإسلام تشع في بغداد وقرطبة في وقت واحد فتبدد دياجير الشرق وتكشف مجاهيل الغرب ، ولكن تمام الشيء مبدأ نقصانه فلم تكد خلافة الحكم ابن الناصر تنتهي حتى دب في خلافة بني مروان دبيب البلى والهرم ، وآل سلطانها إلى ملوك الطوائف فاضطلعوا به قليلاً ثم أوهن كواهلهم داء الانقسام وفساد النظام ، وغاداهم المرابطون من البربر فقوضوا أركانهم ونازعوهم سلطانهم وراوحهم الفرنج متكاتفين فاستلبوا الملك من أيديهم مدينة بعد مدينة ، حتى تمت الهزيمة وعم الجلاء بفرار أبى عبد الله محمد بن علي من غرناطة سنة 898هـ وكان ذلك آخر عهد العرب والعربية بالجزيرة .
ذلك مجمل من القول في حال العرب بالأندلس سقناه إليك تمهيداً لما سئلم به إلماماً من وصف شعرهم وذكر نفر من شعرائهم .
وليس من غرضنا أن نعرض هنا لدراسة الشعر الأندلسي فنفصله ونحلله ، وإنما هي لمحة وجيزة تكشف عن مناهجه مناحيه وتبين تأثير البيئة والطبيعة فيه ، فقد وجد الشعراء العرب في أوروبا ما لم يجدوه في أسيا من الحياة المتنوعة ، والجواء المتغيرة والمناظرة المختلفة والأمطار المتصلة والخمائل الجميلة والأدواح الظليلة والأنهار الروية والسهول الغنية والجبال المؤزرة بعميم النبت والمروج المطرزة بألوان الزهر ، فصفت أذهانهم وسما وجدانهم وعذب بيانهم ووسعوا دائرة الأدب وهذبوا الشعر فتأنقوا في ألفاظه وتنوقوا معانيه ونوعوا في قوافيه وتفننوا في خياله ودبجوه تدبيج الزهر وسلسلوه سلسلة النهر ، وأكثروا من نظمه في البحور الخفيفة القصيرة حتى ضاقت أوزان العروض عما تقتضيه رقة الحضارة ورقي الغناء ، فاستحدثوا الموشح باللغة الفصحى ، ثم تطور عند انحطاط الأدب واضمحلال أمر العرب إلى الزجل باللغة العامية .
وصرفوا الشعر في أغراض شتى كالمدح والغزل والرثاء والدعاء والزهد والتصوف والفلسفة والمزاح والمجون وعالجوا سياسة الاجتماع ونظموا حوادث التاريخ ، وأبدعوا ما شاء الإبداع في الوصف ، فوصفوا الأبنية والتماثيل والقصور والبرك والنوافير والنواعير والحدائق والمروج والأودية والأديرة والأنهار والأشجار والرياح ومجالس الطرب وكل ذلك في حلاوة لفظ ورقة أسلوب ودقة صنعة ، إلا أن شعرهم على الجملة جار مجرى الشعر الشرقي فلم يتعد حدوده ولم يكسر قيوده إلا بمقدار ما ذكرناه لك من أبتداع الموشح وتنويع القافية وذلك لاعتقادهم أنه هو الأصل الذي يرجع إليه والقالب الذي يضرب عليه ولئن صح من بعض الوجوه ما يتقول به أدباء الفرنج من أن الشعر العربي تصنع في اللفظ ، وتعمل في الشكل وليس فيه خيال رائق ولا شعور صادق ، فلن يصح هذا القول بحال في شعراء الأندلس فإنهم عبروا عن عواطفهم وترجموا عن مشاعرهم بلفظ جيد وأسلوب أنيق فطافوا على قرائهم بأكواب من ذهب فيها ما تشتهيه الأنفس ، وإنك لترى في وصفهم مناظر الطبيعة وتصويرهم وجوه الأرض مشابهة لأشعار الفرنج ولقد أخذ الفرنسيون والأسبان عن عرب الأندلس غير العلم والموسيقى وفن العمارة ضروباً شتى من الشعر كالمدح والهجاء والغزل ، كما أخذوا عنهم القافية وكانوا من قبل يكتفون باتحاد الحروف الصوتية الأخير غير ناظرين إلى ما بعدها .
ولو طال على الأندلسيين الأمد في الحضارة ، وتعاقبت أطوار الرقى على اللغة وآدابها لأتوا بأبلغ مما جاء به روسو وهوجو ولامرتين وأضرابهم ، ولكن فاجأهم الانقسام وداهـمهم الخصام فانشقت عصاهم وانفصمت عراهم ونضبت قرائحهم وأمحلت عقولهم ، وذهبوا كأمس الدابر سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً .
المرجع / تاريخ الأدب العربي
أحمد حسن الزيات
مع تحيات الأستاذ / مطر الثبيتي
وشهركم مبارك والسلام ختام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
العــــرب فـــي الأنــدلـــــس
أفلت صقر قريش من شرك السفاح ونجا بنفسه وأهله إلى الأندلس وكان الـمُلك فيها يومئذ يضطرب بالخلاف بين المضرية واليمنية ، والبلاد تنتظر من يلمها من شتات ويحييها من موات ويجمعها من فرقة ، فكان عبد الرحمن الداخل هو الرجل الموعود والإمام المنتظر ، فاستولى عليها سنة 138هـ بمعونة اليمنية ونشر علم بني أمية في قرطبة بعد ما طوته المسودة في دمشق ، وتعاقب على عرشها من أولاده وحفدته تسعة عشر خليفة في أربعة وثمانين ومائتي عام حتى أصابهم داء الأمم فتفرقوا وتمزقوا وانحل ملكهم إلى دويلات صغيرة عرف أصحابها بـملوك الطوائف ، كبني جهور في قرطبة ، وأبن عباد في أشبيلية ، وأبن الأفطس في بطليوس .
وكانت سياسة الأمويين في الغرب غير سياستهم في الشرق ، فقد كانوا دولتهم الأولى يترفعون عن خلاط الموالي ويعتزون بعصبية الجنس فأصبحوا في هذه الدولة مدنيين يمدون إلى القوط أسباب الاتصال بهم ويمهدون لهم سب الاندماج فيهم ، صُنع بني العباس في أبناء الفرس فكان من نتيجة هذا الارتباط وأثر هذا الاختلاط أن حدث في الأندلس ما حدث في العراق من امتزاج الجنسية السامية بالجنسية الآرية ونضج العقلية العربية واستعار النهضة الأدبية ، وازدهار الأندلس بحضارة إسلامية مادتها من الشرق وبناتها من العرب ، لأن أوربا يومئذ كانت تخبط في دياجير الجهالة وترسف في أغلال الأمية فاقتبس الأسبان ثقافة العرب فاعتقدوا دينهم وتكلموا لغتهم وتعلموا أدبهم وهجروا اللاتينية وآدابها حتى أنسوها ، وحتى جأر بالشكوى من هذه الحال كاهن قرطبة ولسكن القسيسين أنفسهم لم يستطيعوا الوقوف بفجوة من هذا السيل فجرفهم جرفاً حتى أضطرهم إلى نقل كتب الدين إلى اللغة العربية .
وكان الأمويون وعرب الأندلس لا ينفكون ملتفتين إلى الشرق موطن الجنس والدين واللغة والأدب والحضارة فيسيرون على ضيائه ، ويستمدون من زعمائه وعلمائه ، ويحذون في سياستهم وإدارتهم حذو العباسيين ، فشيدوا المدارس الجامعة وأنشئوا المكاتب العامة ونشطوا حركة التأليف وأذكوا نهضة الأدب ورفعوا مجد الفنون ، وعقدوا مجالس المناظرة والمسامرة والغناء وبلغت من ذلك كله الحظ الموفور في عهد عبد الرحمن الثاني (206-238هـ) وبلغت أوج سلطانها وغاية عمرانها وتمام بنيانها في عصر أمير المؤمنين عبد الرحمن الثالث (300-350هـ) وابنه الحكم ، وهو عصرها الذهبي الذي بلغت فيه من السطوة والقوة والثروة والوحدة والحضارة والعمارة والفن والأدب ما كادت تضارع به بغداد ، وما أدهشت به المؤرخ دوزى حتى قال (إن عبد الرحمن الناصر أولى أن يكون من ملوك العصر الحديث لا من ملوك القرون الوسطى) وهكذا كانت حضارة الإسلام تشع في بغداد وقرطبة في وقت واحد فتبدد دياجير الشرق وتكشف مجاهيل الغرب ، ولكن تمام الشيء مبدأ نقصانه فلم تكد خلافة الحكم ابن الناصر تنتهي حتى دب في خلافة بني مروان دبيب البلى والهرم ، وآل سلطانها إلى ملوك الطوائف فاضطلعوا به قليلاً ثم أوهن كواهلهم داء الانقسام وفساد النظام ، وغاداهم المرابطون من البربر فقوضوا أركانهم ونازعوهم سلطانهم وراوحهم الفرنج متكاتفين فاستلبوا الملك من أيديهم مدينة بعد مدينة ، حتى تمت الهزيمة وعم الجلاء بفرار أبى عبد الله محمد بن علي من غرناطة سنة 898هـ وكان ذلك آخر عهد العرب والعربية بالجزيرة .
ذلك مجمل من القول في حال العرب بالأندلس سقناه إليك تمهيداً لما سئلم به إلماماً من وصف شعرهم وذكر نفر من شعرائهم .
وليس من غرضنا أن نعرض هنا لدراسة الشعر الأندلسي فنفصله ونحلله ، وإنما هي لمحة وجيزة تكشف عن مناهجه مناحيه وتبين تأثير البيئة والطبيعة فيه ، فقد وجد الشعراء العرب في أوروبا ما لم يجدوه في أسيا من الحياة المتنوعة ، والجواء المتغيرة والمناظرة المختلفة والأمطار المتصلة والخمائل الجميلة والأدواح الظليلة والأنهار الروية والسهول الغنية والجبال المؤزرة بعميم النبت والمروج المطرزة بألوان الزهر ، فصفت أذهانهم وسما وجدانهم وعذب بيانهم ووسعوا دائرة الأدب وهذبوا الشعر فتأنقوا في ألفاظه وتنوقوا معانيه ونوعوا في قوافيه وتفننوا في خياله ودبجوه تدبيج الزهر وسلسلوه سلسلة النهر ، وأكثروا من نظمه في البحور الخفيفة القصيرة حتى ضاقت أوزان العروض عما تقتضيه رقة الحضارة ورقي الغناء ، فاستحدثوا الموشح باللغة الفصحى ، ثم تطور عند انحطاط الأدب واضمحلال أمر العرب إلى الزجل باللغة العامية .
وصرفوا الشعر في أغراض شتى كالمدح والغزل والرثاء والدعاء والزهد والتصوف والفلسفة والمزاح والمجون وعالجوا سياسة الاجتماع ونظموا حوادث التاريخ ، وأبدعوا ما شاء الإبداع في الوصف ، فوصفوا الأبنية والتماثيل والقصور والبرك والنوافير والنواعير والحدائق والمروج والأودية والأديرة والأنهار والأشجار والرياح ومجالس الطرب وكل ذلك في حلاوة لفظ ورقة أسلوب ودقة صنعة ، إلا أن شعرهم على الجملة جار مجرى الشعر الشرقي فلم يتعد حدوده ولم يكسر قيوده إلا بمقدار ما ذكرناه لك من أبتداع الموشح وتنويع القافية وذلك لاعتقادهم أنه هو الأصل الذي يرجع إليه والقالب الذي يضرب عليه ولئن صح من بعض الوجوه ما يتقول به أدباء الفرنج من أن الشعر العربي تصنع في اللفظ ، وتعمل في الشكل وليس فيه خيال رائق ولا شعور صادق ، فلن يصح هذا القول بحال في شعراء الأندلس فإنهم عبروا عن عواطفهم وترجموا عن مشاعرهم بلفظ جيد وأسلوب أنيق فطافوا على قرائهم بأكواب من ذهب فيها ما تشتهيه الأنفس ، وإنك لترى في وصفهم مناظر الطبيعة وتصويرهم وجوه الأرض مشابهة لأشعار الفرنج ولقد أخذ الفرنسيون والأسبان عن عرب الأندلس غير العلم والموسيقى وفن العمارة ضروباً شتى من الشعر كالمدح والهجاء والغزل ، كما أخذوا عنهم القافية وكانوا من قبل يكتفون باتحاد الحروف الصوتية الأخير غير ناظرين إلى ما بعدها .
ولو طال على الأندلسيين الأمد في الحضارة ، وتعاقبت أطوار الرقى على اللغة وآدابها لأتوا بأبلغ مما جاء به روسو وهوجو ولامرتين وأضرابهم ، ولكن فاجأهم الانقسام وداهـمهم الخصام فانشقت عصاهم وانفصمت عراهم ونضبت قرائحهم وأمحلت عقولهم ، وذهبوا كأمس الدابر سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً .
المرجع / تاريخ الأدب العربي
أحمد حسن الزيات
مع تحيات الأستاذ / مطر الثبيتي
وشهركم مبارك والسلام ختام