ليل وقصيّد
06-29-2013, 08:04 AM
ربما كان الأبلق العقوق أيسر تحصيلًا وأدنى مطلبًا، من مؤرخٍ للأفكار لا يضمّن فلسفة اليونان كتابَ بحثه، بل يكاد مبدأ البحث ألّا يخرج عن هذه الفلسفة، ولما كانت قواعد الحفظ قد تخلفت عن أمة اليونان، ولم ينصب من رجالهم أحدٌ في هذه المهمة، صعب الكشف عن أقوال رجالهم، وعز السبيل إلى جزمٍ بمعنى نصوصهم، فما أسهل أن تنسب قولًا ما لأحد فلاسفة اليونان! وما أصعب أن تحقق نسبةَ هذا القول إليه! ويندُر أن ترى –ولم أجد– باحثًا غربيًّا يبذل وقته، في تحقيق نسبة قولٍ ينحله اليونان، كما يبذل في غير ذلك من مباحث تخصصه، ولا يكسر ذلك على باحثيهم إلا بعض المتخصصين في تدريس فلسفة اليونان! حتى تكون الجملة الواحدة من الرجل الواحد، بابًا لبحثٍ إضافيٍّ يتجشمه الباحث، ولراحةٌ مؤثرة، وسرعةٌ مؤملة، كفيلان بأن يُنسب لليونان ما ليس من قولهم، وأن يُنفى عن الرجل ما هو عماد مذهبه، ومن عساه يبذل وقته في تحرير مذهبهم ببحثٍ آخر لا وقتَ له؟!
ولم يكن البحث في أصول نظرية التطور بخارجٍ عن هذا السياج، وسترى عينُك أن النظرية قد نُسبت إلى قومٍ ما خطرت ببالهم، أو هي على النقيض من قولهم، وستقر عينُك بفوائد شتى في هذا الباب بإذن الله، أسأل الله التوفيق والسداد، وأن يوفقنا إلى قول العدل ومراعاة الإنصاف!
يقول إيزادور جيفروي: (لا شكَّ أنّ عديدًا من الفلاسفة –من قديم الأزمان- تخيّل –ولو بصورة مبهمة- أن نوعًا ما يمكن أن يتحول إلى آخر، ويظهر أن المدرسة الآيونية قد تبنت هذا المبدأ منذ القرن السادس قبل الميلاد) .
وأول من يُنسب إليه القول بنظرية تطورية - من اليونان - هو Anaximander أنكسيمندر (610 – 540 ق.م)، وهو "أعظم أعلام المدرسة الأيونية منزلةً، وأوسعها شهرةً، وأكبرها أثرًا"، وهو يرى أن الحيوانات جميعًا كانت بدايتها في المياه محاطةً بلحاءٍ شائك، وبعد ذلك انتقلت إلى الأجزاء اليابسة من الأرض فانشق عنها اللحاء، وعاشت على الأرض حينًا من الزمن، استبقت فيه نوعها بالتناسل، ولما كان الإنسان يختلف عن هذه الكائنات، من جهة كونه لا يستطيع حماية نفسه في صغره، ويحتاج إلى سنين عديدةٍ ليستطيع القيام بشأن نفسه، وبالتالي فخروجه إلى اليابسة رضيعًا دون أسرةٍ تحميه، يعني أنّه سيموت فينقرض نوعه وهذا ما لم يحدث، خرج أنكسيمندر من هذه المعضلة باستثناء الإنسان من هذا العموم، فزعم أن الإنسان نشأ عن الأسماك، بعد أن ظل في جوفها حتى بلغ سنًّا يؤهله، لحماية نفسه والتكاثر ثم حماية نسله، وليس هناك ما يمنع أن يكون أنكسيمندر قال بهذا القول في سائر الحيوانات، التي يعجز صغارها عن رعاية نفسها في وقتٍ قصير، ولكنّ الذي بلغنا هو قوله في الإنسان وحسب!
ولو بعدنا عن المتخصصين في الفلسفة اليونانية القديمة، فسنجد أمثلةً لإساءة فهم قول أنكسيمندر، وحمله على غير مراده، بل أحيانًا على عكس مراده، يقول الأستاذ إسماعيل مظهر: (وأقدم ما وصل إلينا مما عُثر عليه إلى الآن من تراث الأقدمين، هو ما قاله الفيلسوف الإغريقي "أنتكسمندر" – كذا الأصل! – (610 ق.م) "أن نشأة الكائنات الحية هو نتيجة تأثير الشمس على الأرض، وتميز العناصر المتجانسة بالحركة الدائمة، وأنّ الأرض كانت في البداية طينيةً ورطبةً أكثر مما هي عليه الآن، فلما وقع فعل الشمس دارت العناصر الرطبة في جوفها، وخرجت منها على شكل فقاقيع، وتولدت الحيوانات الأولى، غير أنّها كانت كثيفةً ذات صورٍ قبيحةٍ غير منتظمة، وكانت مغطاةً بقشرةٍ كثيفةٍ تمنعها من الحركة والتناسل وحفظ الذات، فكان لابد من نشوء مخلوقاتٍ جديدة، أو بسبب ازدياد فعل الشمس في الأرض لتوليد حيواناتٍ منتظمة يمكنها أن تحفظ نفسها وتزيد نوعها، أما الإنسان فإنّه ظهر بعد الحيوانات كلها، ولم يخل من التقلبات التي طرأت عليه، فخُلقَ أول الأمر شنيع الصورة ناقص التركيب، وأخذ يتقلب إلى أن حصل على صورته الحالية"، وهذه الفقرة تحمل معظم مبادئ أصل الحياة والنشوء والارتقاء، والانتقاء والتمايز وتأثير الظروف المحيطة، وإذا كانت قد كُتبت من ستة قرونٍ قبل الميلاد، فلابد من وجود تلالٍ من المحررات المماثلة السابقة لهذه الحضارة المتوسطة الموضع في سجل الحضارات)، والفرق بين قول أنكسمندر وما نحلته إياه دائرة المعارف للبستاني واضحٌ لا يحتاج إلى تفصيل.
وإن استزدت ضغثًا على إبالة – عافاك الله من كل سوء – فدونك قول برتراند رسل:
(أما رأى أنكسيمندر في أصل الإنسان فكان "حديثًا" إلى حدٍّ بعيد، ذلك لأن ملاحظته أن الإنسان يحتاج في صغره إلى فترةٍ طويلةٍ من الرعاية والحماية جعلته يستنتج أنه لو كان الإنسان دائمًا على ما هو عليه الآن لما تمكن من البقاء، وعلى ذلك فلا بد أنه كان فيما مضى مختلفًا، أي لا بد أنه تطورَ من حيوانٍ يستطيع أن يرعى نفسه في وقتٍ أسرع، وهذه حجةٌ في الإثبات يطلق عليها اسم "برهان الخلف reduction ad absurdum" وفيها تستدل من افتراضٍ معينٍ على نتيجةٍ واضحة البطلان، وهى في هذه الحالة أن الإنسان لم يستطع البقاء، فيترتب على ذلك ضرورة رفض ذلك الافتراض.
ولو كانت هذه الحجة سليمةً أعني لو أن الإنسان كان دائمًا على ما هو عليه الآن، يترتب عليه أنه ما كان يستطيع أن يستمر في البقاء -وهى نتيجةٌ أعتقد أنها صحيحة- لأصبح في استطاعة هذه الحجة دون أي برهانٍ آخر أن تثبت أن هناك بالفعل نوعًا من العملية التطورية المستمرة.
غير أن أنكسيمندر لم يكتفِ بهذه الحجة بل مضى إلى القول إن الإنسان يرجع أصله إلى أسماك البحر، وأيد ذلك بملاحظاتٍ عن حفرياتٍ باقية كما أيده بملاحظة الطريقة التي تطعم بها أسماك القرش صغارها، وبناء على هذه الأسباب كان من الطبيعي أن ينصحنا أنكسيمندر بالامتناع عن أكل الأسماك، أما مسألة ما إذا كان إخوتنا في أعماق البحار يبادلوننا نفس هذه المشاعر الرقيقة، فتلك مسألةٌ لم يقم عليها دليل!).
(أما الجزء الآخر من أعمال داروين، والأقل أصالةً بكثيرٍ فهو نظرية التطور، التي ترتد في بدايتها كما رأينا إلى الفيلسوف اليوناني أنكسيمندر، فكل ما فعله داروين هنا هو أنه قدم كميةً هائلةً من التفصيلات الواقعية، المبنية على ملاحظته الدءوب للطبيعة، أما براهينه على التطور فإن قيمتها تتفاوت، ولكنها كانت قطعًا ترتكز على أسسٍ أقوى من تلك التي ارتكز عليها سلفه اليوناني الكبير).
وكلام رسل لا يخلو من غلطٍ وتلبيس، فقوله عن برهان أنكسيمندر (في استطاعة هذه الحجة دون أي برهانٍ آخر أن تثبت أن هناك بالفعل نوعًا من العملية التطورية المستمرة، غير أن أنكسيمندر لم يكتفِ بهذه الحجة بل مضى إلى القول إن الإنسان يرجع أصله إلى أسماك البحر، وأيد ذلك بملاحظات .....إلخ)، يوهِم أنّ أنكسيمندر استدل ببرهان الخلف على عمليةٍ تطوريةٍ مستمرة، بينما زاد القول بنسبة الإنسان إلى الأسماك بناءً على ملاحظاتٍ أخرى!! ومحصلة هذا التلبيس – مقصودًا أو غير مقصود – أنّه يمكن الأخذ بحجة برهان الخلف في الدلالة على العملية التطورية المستمرة، دون أخذٍ بالملاحظات التي بنى عليها ردّ أصل الإنسان إلى الأسماك!! بينما الثابت أنّ أنكسميندر استدل ببرهان الخلف نفسه على ردّ أصل الإنسان الأول لجوف الأسماك على الكيفية التي سبق بيانها، وأمّا أن ملاحظة كيفية إطعام أسماك القرش لصغارها هي الدافع لرد أصل الإنسان للأسماك، فهذه دعوى لا دليل عليها ولا على قول أنكسيمندر بها! وبغض النظر عن هذا كله،
فهل يمكن الاعتماد على برهان الخلف هذا في الاحتجاج على عمليةٍ تطوريةٍ مستمرة؟!
الحقيقة أنّ برهان الخلف الذي يرى رسل أنّ (في استطاعة هذه الحجة دون أي برهانٍ آخر أن تثبت أن هناك بالفعل نوعًا من العملية التطورية المستمرة)، هو حجةٌ على نقض التطور لا إثباته، لأن النوع الأول في العملية التطورية، النوع الأول الذي يكون رضيعه ضعيفًا يحتاج لحماية الآباء كالإنسان، إن نتج من آباءٍ ينتمون إلى نوعٍ آخر لا يحتاج فيه الرضيع إلى أبيه، فإن هذا الرضيع إن نتج بعمليةٍ تطوريةٍ داروينية، لن يتمكن من العيش حتى البلوغ، إلا إن كان الداروينيون يفترضون أنّ النوع الأبوي سيستنبط بفطنته وذكائه الحيواني (!) أنّ الجنين يختلف عن بقية الأجنة، وأنه يحتاج إلى رعاية من نوعٍ خاصٍ سيقدمها الآباء وهم لم يعهدوها من قبل!
إن المتأمل في جواب أنكسميندر – على غرابته – يجده أكثر منطقيةً في جواب هذه المعضلة من نظرية التطور، إذ إنه خرج من الحالة التي يعجز الإنسان فيها عن حماية نفسه، إلى حالةٍ تحميه وتحافظ عليه حتى يستطيع الخروج، أما التطور فإنه يجيب عن المعضلة بمعضلتين، فيدّعي أن الجنين العاجز عن حماية نفسه جاء من نوعٍ آخر، يكون فيه الآباء قادرين على النمو السريع دون حاجة لحمايةٍ في صغرها، وبالتالي يظهر سؤالان يعجز التطوري العاقل عن جوابهما: كيف عرف الآباء أن الجنين الجديد في حاجة إلى حماية ولم يتركوه كما تُركوا في صغرهم؟! وعلى فرض أنهم عرفوا حاجة الجنين للحماية فكيف وفّروها له وهم لم يعهدوها قبل ذلك؟!
أما الجواب الصحيح لمعضلة أنكسمندر، فهو ما يعتقده أهل الحق المؤمنون بالله تعالى، أنّ الله تعالى خلق الزوجين الذكر والأنثى، ثم أهبطهما إلى الأرض وقد هداهما السبيل، وعلى هذا فإنّ معضلة أنكسميندر تعجز نظرية التطور عن حلها، بل إن جواب اليوناني - رغم خرافيته - أكثر منطقية من الداروينية، والجواب الصحيح هو المعتقد الإسلامي، أن الإنسان الأول أُهبط إلى الأرض تام الخلق، ولم ينزلها جنينًا لا يستطيع الدفع عن نفسه!
وخلاصة الأمر أنّ كلام رسل فيه قفزاتٌ غريبة، توهم القارئ أنّ نظرية التطور كفيلةٌ بحلّ المعضلة التي طرحها الفيلسوف اليوناني، وتوهم أنّ الفيلسوف اليوناني يقول بنظريةٍ تطورية، وكما رأيتَ فإنّ التطور يقع في معضلتين لا معضلةٍ واحدة، أما عن نسبة أنكسيمندر لنظرية تطورية، فأحسن تقريرٍ في هذا هو قول جوناثان بارنز (لقد نُعتَ أنكسميندر بأنه الدارويني الأول، وهناك أسس لهذا المدح .. غير أنّ المدح لا ينبغي أن يبدد الدقة ويستخف بها بطريقةٍ تثير الاشمئزاز ... فلم يقرر أنكسميندر أكثر من كون الجيل الأول من كل نوع قد نشأ من لحاءٍ أو محارة، وليس هناك أية فكرةٍ عن طريقة للتكاثر حدثت أكثر من مرة، أو أن الجيل الأول قد سُبق بسلسلة من الأجداد، أو أنه بعد الظهور فإن القطط أو البقر أو الدواجن أو الخيول الأولى اختلفت عن نسلها الحالي من أي وجه، ولم تكن نظرته لأصل الجنس البشري تطوريةً أيضًا، إذ المرجح أن الآباء السمكية للإنسان الأول تمثل نظير الأصول الجامدة التي نشأت منها الحيوانات الأخرى، الفرق أن اللحاء الذي احتوى الإنسان لم ينشق عنه إلا بعد مرحلةٍ متقدمةٍ نسبيًّا!) .
.
ولم يكن البحث في أصول نظرية التطور بخارجٍ عن هذا السياج، وسترى عينُك أن النظرية قد نُسبت إلى قومٍ ما خطرت ببالهم، أو هي على النقيض من قولهم، وستقر عينُك بفوائد شتى في هذا الباب بإذن الله، أسأل الله التوفيق والسداد، وأن يوفقنا إلى قول العدل ومراعاة الإنصاف!
يقول إيزادور جيفروي: (لا شكَّ أنّ عديدًا من الفلاسفة –من قديم الأزمان- تخيّل –ولو بصورة مبهمة- أن نوعًا ما يمكن أن يتحول إلى آخر، ويظهر أن المدرسة الآيونية قد تبنت هذا المبدأ منذ القرن السادس قبل الميلاد) .
وأول من يُنسب إليه القول بنظرية تطورية - من اليونان - هو Anaximander أنكسيمندر (610 – 540 ق.م)، وهو "أعظم أعلام المدرسة الأيونية منزلةً، وأوسعها شهرةً، وأكبرها أثرًا"، وهو يرى أن الحيوانات جميعًا كانت بدايتها في المياه محاطةً بلحاءٍ شائك، وبعد ذلك انتقلت إلى الأجزاء اليابسة من الأرض فانشق عنها اللحاء، وعاشت على الأرض حينًا من الزمن، استبقت فيه نوعها بالتناسل، ولما كان الإنسان يختلف عن هذه الكائنات، من جهة كونه لا يستطيع حماية نفسه في صغره، ويحتاج إلى سنين عديدةٍ ليستطيع القيام بشأن نفسه، وبالتالي فخروجه إلى اليابسة رضيعًا دون أسرةٍ تحميه، يعني أنّه سيموت فينقرض نوعه وهذا ما لم يحدث، خرج أنكسيمندر من هذه المعضلة باستثناء الإنسان من هذا العموم، فزعم أن الإنسان نشأ عن الأسماك، بعد أن ظل في جوفها حتى بلغ سنًّا يؤهله، لحماية نفسه والتكاثر ثم حماية نسله، وليس هناك ما يمنع أن يكون أنكسيمندر قال بهذا القول في سائر الحيوانات، التي يعجز صغارها عن رعاية نفسها في وقتٍ قصير، ولكنّ الذي بلغنا هو قوله في الإنسان وحسب!
ولو بعدنا عن المتخصصين في الفلسفة اليونانية القديمة، فسنجد أمثلةً لإساءة فهم قول أنكسيمندر، وحمله على غير مراده، بل أحيانًا على عكس مراده، يقول الأستاذ إسماعيل مظهر: (وأقدم ما وصل إلينا مما عُثر عليه إلى الآن من تراث الأقدمين، هو ما قاله الفيلسوف الإغريقي "أنتكسمندر" – كذا الأصل! – (610 ق.م) "أن نشأة الكائنات الحية هو نتيجة تأثير الشمس على الأرض، وتميز العناصر المتجانسة بالحركة الدائمة، وأنّ الأرض كانت في البداية طينيةً ورطبةً أكثر مما هي عليه الآن، فلما وقع فعل الشمس دارت العناصر الرطبة في جوفها، وخرجت منها على شكل فقاقيع، وتولدت الحيوانات الأولى، غير أنّها كانت كثيفةً ذات صورٍ قبيحةٍ غير منتظمة، وكانت مغطاةً بقشرةٍ كثيفةٍ تمنعها من الحركة والتناسل وحفظ الذات، فكان لابد من نشوء مخلوقاتٍ جديدة، أو بسبب ازدياد فعل الشمس في الأرض لتوليد حيواناتٍ منتظمة يمكنها أن تحفظ نفسها وتزيد نوعها، أما الإنسان فإنّه ظهر بعد الحيوانات كلها، ولم يخل من التقلبات التي طرأت عليه، فخُلقَ أول الأمر شنيع الصورة ناقص التركيب، وأخذ يتقلب إلى أن حصل على صورته الحالية"، وهذه الفقرة تحمل معظم مبادئ أصل الحياة والنشوء والارتقاء، والانتقاء والتمايز وتأثير الظروف المحيطة، وإذا كانت قد كُتبت من ستة قرونٍ قبل الميلاد، فلابد من وجود تلالٍ من المحررات المماثلة السابقة لهذه الحضارة المتوسطة الموضع في سجل الحضارات)، والفرق بين قول أنكسمندر وما نحلته إياه دائرة المعارف للبستاني واضحٌ لا يحتاج إلى تفصيل.
وإن استزدت ضغثًا على إبالة – عافاك الله من كل سوء – فدونك قول برتراند رسل:
(أما رأى أنكسيمندر في أصل الإنسان فكان "حديثًا" إلى حدٍّ بعيد، ذلك لأن ملاحظته أن الإنسان يحتاج في صغره إلى فترةٍ طويلةٍ من الرعاية والحماية جعلته يستنتج أنه لو كان الإنسان دائمًا على ما هو عليه الآن لما تمكن من البقاء، وعلى ذلك فلا بد أنه كان فيما مضى مختلفًا، أي لا بد أنه تطورَ من حيوانٍ يستطيع أن يرعى نفسه في وقتٍ أسرع، وهذه حجةٌ في الإثبات يطلق عليها اسم "برهان الخلف reduction ad absurdum" وفيها تستدل من افتراضٍ معينٍ على نتيجةٍ واضحة البطلان، وهى في هذه الحالة أن الإنسان لم يستطع البقاء، فيترتب على ذلك ضرورة رفض ذلك الافتراض.
ولو كانت هذه الحجة سليمةً أعني لو أن الإنسان كان دائمًا على ما هو عليه الآن، يترتب عليه أنه ما كان يستطيع أن يستمر في البقاء -وهى نتيجةٌ أعتقد أنها صحيحة- لأصبح في استطاعة هذه الحجة دون أي برهانٍ آخر أن تثبت أن هناك بالفعل نوعًا من العملية التطورية المستمرة.
غير أن أنكسيمندر لم يكتفِ بهذه الحجة بل مضى إلى القول إن الإنسان يرجع أصله إلى أسماك البحر، وأيد ذلك بملاحظاتٍ عن حفرياتٍ باقية كما أيده بملاحظة الطريقة التي تطعم بها أسماك القرش صغارها، وبناء على هذه الأسباب كان من الطبيعي أن ينصحنا أنكسيمندر بالامتناع عن أكل الأسماك، أما مسألة ما إذا كان إخوتنا في أعماق البحار يبادلوننا نفس هذه المشاعر الرقيقة، فتلك مسألةٌ لم يقم عليها دليل!).
(أما الجزء الآخر من أعمال داروين، والأقل أصالةً بكثيرٍ فهو نظرية التطور، التي ترتد في بدايتها كما رأينا إلى الفيلسوف اليوناني أنكسيمندر، فكل ما فعله داروين هنا هو أنه قدم كميةً هائلةً من التفصيلات الواقعية، المبنية على ملاحظته الدءوب للطبيعة، أما براهينه على التطور فإن قيمتها تتفاوت، ولكنها كانت قطعًا ترتكز على أسسٍ أقوى من تلك التي ارتكز عليها سلفه اليوناني الكبير).
وكلام رسل لا يخلو من غلطٍ وتلبيس، فقوله عن برهان أنكسيمندر (في استطاعة هذه الحجة دون أي برهانٍ آخر أن تثبت أن هناك بالفعل نوعًا من العملية التطورية المستمرة، غير أن أنكسيمندر لم يكتفِ بهذه الحجة بل مضى إلى القول إن الإنسان يرجع أصله إلى أسماك البحر، وأيد ذلك بملاحظات .....إلخ)، يوهِم أنّ أنكسيمندر استدل ببرهان الخلف على عمليةٍ تطوريةٍ مستمرة، بينما زاد القول بنسبة الإنسان إلى الأسماك بناءً على ملاحظاتٍ أخرى!! ومحصلة هذا التلبيس – مقصودًا أو غير مقصود – أنّه يمكن الأخذ بحجة برهان الخلف في الدلالة على العملية التطورية المستمرة، دون أخذٍ بالملاحظات التي بنى عليها ردّ أصل الإنسان إلى الأسماك!! بينما الثابت أنّ أنكسميندر استدل ببرهان الخلف نفسه على ردّ أصل الإنسان الأول لجوف الأسماك على الكيفية التي سبق بيانها، وأمّا أن ملاحظة كيفية إطعام أسماك القرش لصغارها هي الدافع لرد أصل الإنسان للأسماك، فهذه دعوى لا دليل عليها ولا على قول أنكسيمندر بها! وبغض النظر عن هذا كله،
فهل يمكن الاعتماد على برهان الخلف هذا في الاحتجاج على عمليةٍ تطوريةٍ مستمرة؟!
الحقيقة أنّ برهان الخلف الذي يرى رسل أنّ (في استطاعة هذه الحجة دون أي برهانٍ آخر أن تثبت أن هناك بالفعل نوعًا من العملية التطورية المستمرة)، هو حجةٌ على نقض التطور لا إثباته، لأن النوع الأول في العملية التطورية، النوع الأول الذي يكون رضيعه ضعيفًا يحتاج لحماية الآباء كالإنسان، إن نتج من آباءٍ ينتمون إلى نوعٍ آخر لا يحتاج فيه الرضيع إلى أبيه، فإن هذا الرضيع إن نتج بعمليةٍ تطوريةٍ داروينية، لن يتمكن من العيش حتى البلوغ، إلا إن كان الداروينيون يفترضون أنّ النوع الأبوي سيستنبط بفطنته وذكائه الحيواني (!) أنّ الجنين يختلف عن بقية الأجنة، وأنه يحتاج إلى رعاية من نوعٍ خاصٍ سيقدمها الآباء وهم لم يعهدوها من قبل!
إن المتأمل في جواب أنكسميندر – على غرابته – يجده أكثر منطقيةً في جواب هذه المعضلة من نظرية التطور، إذ إنه خرج من الحالة التي يعجز الإنسان فيها عن حماية نفسه، إلى حالةٍ تحميه وتحافظ عليه حتى يستطيع الخروج، أما التطور فإنه يجيب عن المعضلة بمعضلتين، فيدّعي أن الجنين العاجز عن حماية نفسه جاء من نوعٍ آخر، يكون فيه الآباء قادرين على النمو السريع دون حاجة لحمايةٍ في صغرها، وبالتالي يظهر سؤالان يعجز التطوري العاقل عن جوابهما: كيف عرف الآباء أن الجنين الجديد في حاجة إلى حماية ولم يتركوه كما تُركوا في صغرهم؟! وعلى فرض أنهم عرفوا حاجة الجنين للحماية فكيف وفّروها له وهم لم يعهدوها قبل ذلك؟!
أما الجواب الصحيح لمعضلة أنكسمندر، فهو ما يعتقده أهل الحق المؤمنون بالله تعالى، أنّ الله تعالى خلق الزوجين الذكر والأنثى، ثم أهبطهما إلى الأرض وقد هداهما السبيل، وعلى هذا فإنّ معضلة أنكسميندر تعجز نظرية التطور عن حلها، بل إن جواب اليوناني - رغم خرافيته - أكثر منطقية من الداروينية، والجواب الصحيح هو المعتقد الإسلامي، أن الإنسان الأول أُهبط إلى الأرض تام الخلق، ولم ينزلها جنينًا لا يستطيع الدفع عن نفسه!
وخلاصة الأمر أنّ كلام رسل فيه قفزاتٌ غريبة، توهم القارئ أنّ نظرية التطور كفيلةٌ بحلّ المعضلة التي طرحها الفيلسوف اليوناني، وتوهم أنّ الفيلسوف اليوناني يقول بنظريةٍ تطورية، وكما رأيتَ فإنّ التطور يقع في معضلتين لا معضلةٍ واحدة، أما عن نسبة أنكسيمندر لنظرية تطورية، فأحسن تقريرٍ في هذا هو قول جوناثان بارنز (لقد نُعتَ أنكسميندر بأنه الدارويني الأول، وهناك أسس لهذا المدح .. غير أنّ المدح لا ينبغي أن يبدد الدقة ويستخف بها بطريقةٍ تثير الاشمئزاز ... فلم يقرر أنكسميندر أكثر من كون الجيل الأول من كل نوع قد نشأ من لحاءٍ أو محارة، وليس هناك أية فكرةٍ عن طريقة للتكاثر حدثت أكثر من مرة، أو أن الجيل الأول قد سُبق بسلسلة من الأجداد، أو أنه بعد الظهور فإن القطط أو البقر أو الدواجن أو الخيول الأولى اختلفت عن نسلها الحالي من أي وجه، ولم تكن نظرته لأصل الجنس البشري تطوريةً أيضًا، إذ المرجح أن الآباء السمكية للإنسان الأول تمثل نظير الأصول الجامدة التي نشأت منها الحيوانات الأخرى، الفرق أن اللحاء الذي احتوى الإنسان لم ينشق عنه إلا بعد مرحلةٍ متقدمةٍ نسبيًّا!) .
.