عبدالله عابد
12-23-2010, 11:09 AM
(يكفرن العشير)
د. محمد بن عمر بن دولة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فمَن تأمّلَ فقهَ الشكرِ؛ وجدَ أنه لا يَقتصِرُ على كَونِه صِلةً للخلقِ بربِّهم. بل هو مَنهَجٌ للسلامِ الاجتماعي؛ فمَن لم يَشكُر الناسَ لم يَشكُر الله!
وقد بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم خطرَ جُحُودَ المرأةَ حقَّ زوجِها وكُفرانَها فضلَه ونُكرانَها إحْسانَه، وحذَّرَ صلى الله عليه وسلم أشدَّ تحذير من كُفرانِ العشيرِ؛ حيث تقول بعضُ الزوجات لزوجِها إذا غضبت منه: (ما رأيتُ منك خَيْراً قَطَُّ)! فلا خيرَ في الجاحِدات.. اللاتي يكفرن الإحسانَ ويكفرن العشير! فإنَّ جُحُودَ النعمة؛ يؤدي إلى النار، والعياذ بالله!
وقد وردَ في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُرِيتَ النارَ؛ فإذا أكثرُ أهلِها النساء؛ يكفرن! قيل: أيَكْفُرْنَ بالله؟ قال: يَكْفُرْن العَشِير ويَكْفُرْن الإحْسان؛ لو أحْسَنْتَ إلى إحْداهُنَّ الدهرَ، ثم رأت منك شيئاً؛ قالت ما رأيتُ منك خيراً قط)!1
فلْتَعْلَم المستَهِيناتُ بحقوقِ أزواجِهنَّ أنَّ العلماءَ قد اعتبَرُوا استجابةَ المرأةِ لِدَواعي غَضَبِها ونُكرانَها فَضلَ زَوجِها كبيرةً من الكبائرِ والعياذ بالله؛ لِحَدِيثِ جابر رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (أتَى النِّساءَ فوَعَظَهنَّ وذَكَّرَهُنَّ فقال: تَصَدَّقْن؛ فإنَّ أكْثَرَكنَّ حَطبُ جهنم... لأنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكاةَ وتَكْفُرْن العَشِير).2 قال النووي: "فيه أنَّ كُفْرانَ العشيرِ والإحسانِ: مِن الكبائر؛ فإنَّ التوعُّدَ بالنارِ مِن علامةِ كَوْنِ المعصيةِ كبيرةً".3
وإنَّ في قصة الخليلِ إبراهيم عليه السلام مع زوجتَي ابنِه إسماعيل عليه السلام لعبرةً للنساءِ وعِظةً بليغةً ودليلاً على أنه لا خيرَ في المرأةِ التي تجحَدُ نِعَمَ ربِّها وتكفُرُ فَضلَ عَشِيرِها!
فقد روى البخاري رحمه الله قال: (جاء إبراهيم بعد ما تزوَّجَ إسماعيلُ يُطالِعُ تَرِكَتَه؛ فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشِهم وهيئتِهم فقالت: نحن بِشَرٍّ! نحن في ضِيقٍ وشِدةٍ؛ فشكَتْ إليه، قال: فإذا جاء زوجُك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يُغَيِّر عَتَبَةَ بابه؛4 فلما جاء إسماعيلُ كأنه آنسَ شيئاً،5 فقال: هل جاءكم مِن أحدٍ؟ قالت: نعم جاءنا شيخٌ كذا وكذا فسألَنا عنك فأخبرتُه، وسألنِي: كيفَ عَيشُنا؛ فأخبرتُه أنَّا في جَهدٍ وشِدة! قال: فهل أوصاك بشيءٍ، قالت: نعَم أمَرَنِي أنْ أقرأ عليك السلام ويأمرك أن تُغَيِّرَ عتبةَ بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقَك؛ الْحَقِي بأهلِ؛ فطلَّقَها وتزوَّجَ منهم6 أخرى، فلبثَ عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعدُ، فلم يَجِدْه فدخل على امرأته؛ فسألها عنه؟ فقالت: خرجَ يبتغي لنا، قال: كيف أنتم وسألها عن عَيشِهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعةٍ، وأثنَتْ على الله، فقال: ما طعامُكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء؛ قال: اللهم بارِكْ لهم في اللحمِ والماء... قال: فإذا جاء زوجُك فاقرئي عليه السلام، ومُرِيه يُثَبِّتْ عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنَتْ عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير؛ قال: فأوصاكِ بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بابِك، قال: ذاك أبي، وأنتِ العَتَبَة؛ أمَرَني أنْ أُمْسِكَك).7
وفي روايةٍ للبخاري: (فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال: وما طعامُكم وما شرابُكم؟ قالت: طعامُنا اللحم وشرابنا الماء؛ قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم! قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بركةٌ بدعوة إبراهيم).8
وفي رواية الطبري: (فجاء إبراهيم فسأل عن إسماعيل؛ حتى دُلَّ عليه، فلم يجده، ووجد امرأةً له فَظةً غليظةً؛ فقال لها: إذا جاء زوجُك، فقولي له: جاء هاهنا شيخٌ من صِفَتِه كذا وكذا، وإنه يقول لك: إني لا أرضى لك عَتبةَ بابك؛ فحَوِّلْها، وانطلقَ. فلما جاء إسماعيل أخبرَته، فقال: ذاك أبي، وأنت عَتَبَةُ بابي؛ فطَلَّقَها وتزوَّجَ امرأةً أخرى منهم. وجاء إبراهيم حتى انتهى إلى إسماعيل فلَم يَجِدْه، ووَجَدَ امرأةً له سَهلةً طَليقةً، فقال لها: أين انطلقَ زوجُك؟ فقالت: انطلقَ إلى الصيدِ، قال: فما طعامُكم؟ قالت: اللحم والماء؛ قال: اللهم بارِكْ لهم في لَحمِهم ومائهم، اللهم بارِكْ لهم في لحمهم ومائهم، ثلاثاً. وقال لها: إذا جاء زوجُك فأخبريه: قولي: جاء هاهنا شيخ من صفته كذا وكذا وإنه يقول لك: قد رضيت لك عتبةَ بابك؛ فأثْبِتْها).9
وفي روايةٍ أخرى للطبري: (فقال لامرأته: أين صاحبُك؟ قالت: ليس هاهنا؛ ذهب يتصيدُ، وكان إسماعيل يخرجُ من الحرمِ؛ فيتصيد، ثم يرجع. فقال إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: ليس عندي وما عندي أحد! فقال إبراهيم: إذا جاء زوجُك فأقرئيه السلام، وقولي له: فلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بابِه. وذهب إبراهيمُ وجاء إسماعيلُ فوَجَدَ رِيحَ أبيه، فقال لامرأته: هل جاءكِ أحدٌ؟ فقالت: جاءني شيخ كذا وكذا كالمُسْتَخِفَّة بشأنِه!10 قال: فما قال لك؟ قالت: قال لي: أقرئي زوجَك السلام، وقولي له: فلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بابِه؛ فطلَّقَها وتزوَّجَ أخرى. فلبث إبراهيمُ ما شاء الله أنْ يَلْبَثَ، ثم استأذن سارةَ أنْ يزُورَ إسماعيل، فأذِنَتْ له وشَرَطتْ عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيمُ حتى انتهى إلى بابِ إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله؛ فانزل يرحمك الله! قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، قال: هل عندك خبز أو بُر أو تمر أو شعير؟ قالت: لا؛ فجاءت باللبنِ واللحمِ؛ فدعا لهما بالبركة؛ فلو جاءت يومئذ بخبز أو بُر أو شَعير أو تَمر لكانت أكثرَ أرضِ الله بُرا وشَعيراً وتَمرا! فقالت له: انزل حتى أغسلَ رأسَك فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضَعَته عن شقِّه الأيمن، فوضع قَدَمَه عليه؛ فبقي أثرُ قَدَمِه عليه فغسَلَت شِقَّ رأسِه الأيمن، ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر فغسلَت شقَّه الأيسر، فقال لها: إذا جاء زوجُك فأقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامَتْ عَتَبَةُ بابِك! فلما جاء إسماعيل وَجَدَ ريحَ أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ فقالت: نعم شيخٌ أحسن الناس وجهاُ وأطيبُه ريحاً؛ فقال لي كذا وكذا وغسلت رأسَه وهذا موضِعُ قَدَمِه على المقام. قال: وما قال لك؟ قالت: قال لي: إذا جاء زوجُك فأقرئيه السلام وقولي له: قد استقامَتْ عَتَبَةُ بابِك؛ قال: ذاك إبراهيم).11
وفي رواية ذَكَرَها ابنُ حجر رحمه الله من حديث أبي جهم: (نحن بخير وسعة)، (نحن في خير عيش بحمد الله، ونحن في لبن كثير ولحم كثير وماء طيب)".12
وتأمَّلْ اختِلافَ زوجتَيْ إسماعيلَ عليه السلام واختِلافَ عاقبةِ أمرِهما باختِلافِ حالِهما شُكْراً وجُحُودا! وانظرْ إلى هذه المرأة الشاكرة كيف أسعدَها الله ورضيَ عنها وأرضَى عنها زوجَها وأهلَه! وإلى تلك الجاحدةِ كيف أبعدَها الله وأقصاها؛ حين تنكرت لفضلِ الله وتكبرت على نبي الله صلى الله عليه وسلم وكفرت بأنعُمِ الله!
وتأمَّلْ (غِنَى النفس) وفقرَها.. في موقِفِ المرأتين من عَيشِ إسماعيل عليه السلام وطعامِه وشرابِه.. اللحم والماء! فهذه رضِيَتْ وحمدَتْ ربَّها وقالت: (نحن بخيرٍ وسَعَة)؛ فوسَّعَ الله عليها (نحن في خيرِ عيشٍ بحمدِ الله، ونحن في لبنٍ كثيرٍ ولحمٍ كثيرٍ وماءٍ طيِّب)! فبارك الله لها في معيشتها وطعامِها وشرابِها واستفرارِها مع زوجِها! وقالت الشقيةُ: (نحن بِشَرٍّ! نحن في ضِيقٍ وشِدةٍ)! فأذاقَها الله الضِّيقَ والشِّدة؛ وأبْعَدَها عن بيتِ النبوةِ المبارَك؛ فطلَّقَها إسماعيلُ وحُرِمَتْ دعوةَ خليلِ الله إبراهيم عليه السلام!
وتأمَّلْ عبارةَ الخليل عليه السلام؛ حين رضي عن زوجةِ ولدِه الحامِدة الشاكِرة المبارَكة: (أقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبةُ بابك)! فالمرأةُ الحامدةُ العابدةُ الشاكرةُ أساسُ استقامةِ الأسرةِ المسلمة، وسببُ استقرارِها، ومَظِنةُ السعادةِ الزوجية!
والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. محمد بن عمر بن دولة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فمَن تأمّلَ فقهَ الشكرِ؛ وجدَ أنه لا يَقتصِرُ على كَونِه صِلةً للخلقِ بربِّهم. بل هو مَنهَجٌ للسلامِ الاجتماعي؛ فمَن لم يَشكُر الناسَ لم يَشكُر الله!
وقد بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم خطرَ جُحُودَ المرأةَ حقَّ زوجِها وكُفرانَها فضلَه ونُكرانَها إحْسانَه، وحذَّرَ صلى الله عليه وسلم أشدَّ تحذير من كُفرانِ العشيرِ؛ حيث تقول بعضُ الزوجات لزوجِها إذا غضبت منه: (ما رأيتُ منك خَيْراً قَطَُّ)! فلا خيرَ في الجاحِدات.. اللاتي يكفرن الإحسانَ ويكفرن العشير! فإنَّ جُحُودَ النعمة؛ يؤدي إلى النار، والعياذ بالله!
وقد وردَ في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُرِيتَ النارَ؛ فإذا أكثرُ أهلِها النساء؛ يكفرن! قيل: أيَكْفُرْنَ بالله؟ قال: يَكْفُرْن العَشِير ويَكْفُرْن الإحْسان؛ لو أحْسَنْتَ إلى إحْداهُنَّ الدهرَ، ثم رأت منك شيئاً؛ قالت ما رأيتُ منك خيراً قط)!1
فلْتَعْلَم المستَهِيناتُ بحقوقِ أزواجِهنَّ أنَّ العلماءَ قد اعتبَرُوا استجابةَ المرأةِ لِدَواعي غَضَبِها ونُكرانَها فَضلَ زَوجِها كبيرةً من الكبائرِ والعياذ بالله؛ لِحَدِيثِ جابر رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (أتَى النِّساءَ فوَعَظَهنَّ وذَكَّرَهُنَّ فقال: تَصَدَّقْن؛ فإنَّ أكْثَرَكنَّ حَطبُ جهنم... لأنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكاةَ وتَكْفُرْن العَشِير).2 قال النووي: "فيه أنَّ كُفْرانَ العشيرِ والإحسانِ: مِن الكبائر؛ فإنَّ التوعُّدَ بالنارِ مِن علامةِ كَوْنِ المعصيةِ كبيرةً".3
وإنَّ في قصة الخليلِ إبراهيم عليه السلام مع زوجتَي ابنِه إسماعيل عليه السلام لعبرةً للنساءِ وعِظةً بليغةً ودليلاً على أنه لا خيرَ في المرأةِ التي تجحَدُ نِعَمَ ربِّها وتكفُرُ فَضلَ عَشِيرِها!
فقد روى البخاري رحمه الله قال: (جاء إبراهيم بعد ما تزوَّجَ إسماعيلُ يُطالِعُ تَرِكَتَه؛ فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشِهم وهيئتِهم فقالت: نحن بِشَرٍّ! نحن في ضِيقٍ وشِدةٍ؛ فشكَتْ إليه، قال: فإذا جاء زوجُك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يُغَيِّر عَتَبَةَ بابه؛4 فلما جاء إسماعيلُ كأنه آنسَ شيئاً،5 فقال: هل جاءكم مِن أحدٍ؟ قالت: نعم جاءنا شيخٌ كذا وكذا فسألَنا عنك فأخبرتُه، وسألنِي: كيفَ عَيشُنا؛ فأخبرتُه أنَّا في جَهدٍ وشِدة! قال: فهل أوصاك بشيءٍ، قالت: نعَم أمَرَنِي أنْ أقرأ عليك السلام ويأمرك أن تُغَيِّرَ عتبةَ بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقَك؛ الْحَقِي بأهلِ؛ فطلَّقَها وتزوَّجَ منهم6 أخرى، فلبثَ عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعدُ، فلم يَجِدْه فدخل على امرأته؛ فسألها عنه؟ فقالت: خرجَ يبتغي لنا، قال: كيف أنتم وسألها عن عَيشِهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعةٍ، وأثنَتْ على الله، فقال: ما طعامُكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء؛ قال: اللهم بارِكْ لهم في اللحمِ والماء... قال: فإذا جاء زوجُك فاقرئي عليه السلام، ومُرِيه يُثَبِّتْ عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنَتْ عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير؛ قال: فأوصاكِ بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بابِك، قال: ذاك أبي، وأنتِ العَتَبَة؛ أمَرَني أنْ أُمْسِكَك).7
وفي روايةٍ للبخاري: (فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال: وما طعامُكم وما شرابُكم؟ قالت: طعامُنا اللحم وشرابنا الماء؛ قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم! قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بركةٌ بدعوة إبراهيم).8
وفي رواية الطبري: (فجاء إبراهيم فسأل عن إسماعيل؛ حتى دُلَّ عليه، فلم يجده، ووجد امرأةً له فَظةً غليظةً؛ فقال لها: إذا جاء زوجُك، فقولي له: جاء هاهنا شيخٌ من صِفَتِه كذا وكذا، وإنه يقول لك: إني لا أرضى لك عَتبةَ بابك؛ فحَوِّلْها، وانطلقَ. فلما جاء إسماعيل أخبرَته، فقال: ذاك أبي، وأنت عَتَبَةُ بابي؛ فطَلَّقَها وتزوَّجَ امرأةً أخرى منهم. وجاء إبراهيم حتى انتهى إلى إسماعيل فلَم يَجِدْه، ووَجَدَ امرأةً له سَهلةً طَليقةً، فقال لها: أين انطلقَ زوجُك؟ فقالت: انطلقَ إلى الصيدِ، قال: فما طعامُكم؟ قالت: اللحم والماء؛ قال: اللهم بارِكْ لهم في لَحمِهم ومائهم، اللهم بارِكْ لهم في لحمهم ومائهم، ثلاثاً. وقال لها: إذا جاء زوجُك فأخبريه: قولي: جاء هاهنا شيخ من صفته كذا وكذا وإنه يقول لك: قد رضيت لك عتبةَ بابك؛ فأثْبِتْها).9
وفي روايةٍ أخرى للطبري: (فقال لامرأته: أين صاحبُك؟ قالت: ليس هاهنا؛ ذهب يتصيدُ، وكان إسماعيل يخرجُ من الحرمِ؛ فيتصيد، ثم يرجع. فقال إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: ليس عندي وما عندي أحد! فقال إبراهيم: إذا جاء زوجُك فأقرئيه السلام، وقولي له: فلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بابِه. وذهب إبراهيمُ وجاء إسماعيلُ فوَجَدَ رِيحَ أبيه، فقال لامرأته: هل جاءكِ أحدٌ؟ فقالت: جاءني شيخ كذا وكذا كالمُسْتَخِفَّة بشأنِه!10 قال: فما قال لك؟ قالت: قال لي: أقرئي زوجَك السلام، وقولي له: فلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بابِه؛ فطلَّقَها وتزوَّجَ أخرى. فلبث إبراهيمُ ما شاء الله أنْ يَلْبَثَ، ثم استأذن سارةَ أنْ يزُورَ إسماعيل، فأذِنَتْ له وشَرَطتْ عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيمُ حتى انتهى إلى بابِ إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله؛ فانزل يرحمك الله! قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، قال: هل عندك خبز أو بُر أو تمر أو شعير؟ قالت: لا؛ فجاءت باللبنِ واللحمِ؛ فدعا لهما بالبركة؛ فلو جاءت يومئذ بخبز أو بُر أو شَعير أو تَمر لكانت أكثرَ أرضِ الله بُرا وشَعيراً وتَمرا! فقالت له: انزل حتى أغسلَ رأسَك فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضَعَته عن شقِّه الأيمن، فوضع قَدَمَه عليه؛ فبقي أثرُ قَدَمِه عليه فغسَلَت شِقَّ رأسِه الأيمن، ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر فغسلَت شقَّه الأيسر، فقال لها: إذا جاء زوجُك فأقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامَتْ عَتَبَةُ بابِك! فلما جاء إسماعيل وَجَدَ ريحَ أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ فقالت: نعم شيخٌ أحسن الناس وجهاُ وأطيبُه ريحاً؛ فقال لي كذا وكذا وغسلت رأسَه وهذا موضِعُ قَدَمِه على المقام. قال: وما قال لك؟ قالت: قال لي: إذا جاء زوجُك فأقرئيه السلام وقولي له: قد استقامَتْ عَتَبَةُ بابِك؛ قال: ذاك إبراهيم).11
وفي رواية ذَكَرَها ابنُ حجر رحمه الله من حديث أبي جهم: (نحن بخير وسعة)، (نحن في خير عيش بحمد الله، ونحن في لبن كثير ولحم كثير وماء طيب)".12
وتأمَّلْ اختِلافَ زوجتَيْ إسماعيلَ عليه السلام واختِلافَ عاقبةِ أمرِهما باختِلافِ حالِهما شُكْراً وجُحُودا! وانظرْ إلى هذه المرأة الشاكرة كيف أسعدَها الله ورضيَ عنها وأرضَى عنها زوجَها وأهلَه! وإلى تلك الجاحدةِ كيف أبعدَها الله وأقصاها؛ حين تنكرت لفضلِ الله وتكبرت على نبي الله صلى الله عليه وسلم وكفرت بأنعُمِ الله!
وتأمَّلْ (غِنَى النفس) وفقرَها.. في موقِفِ المرأتين من عَيشِ إسماعيل عليه السلام وطعامِه وشرابِه.. اللحم والماء! فهذه رضِيَتْ وحمدَتْ ربَّها وقالت: (نحن بخيرٍ وسَعَة)؛ فوسَّعَ الله عليها (نحن في خيرِ عيشٍ بحمدِ الله، ونحن في لبنٍ كثيرٍ ولحمٍ كثيرٍ وماءٍ طيِّب)! فبارك الله لها في معيشتها وطعامِها وشرابِها واستفرارِها مع زوجِها! وقالت الشقيةُ: (نحن بِشَرٍّ! نحن في ضِيقٍ وشِدةٍ)! فأذاقَها الله الضِّيقَ والشِّدة؛ وأبْعَدَها عن بيتِ النبوةِ المبارَك؛ فطلَّقَها إسماعيلُ وحُرِمَتْ دعوةَ خليلِ الله إبراهيم عليه السلام!
وتأمَّلْ عبارةَ الخليل عليه السلام؛ حين رضي عن زوجةِ ولدِه الحامِدة الشاكِرة المبارَكة: (أقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبةُ بابك)! فالمرأةُ الحامدةُ العابدةُ الشاكرةُ أساسُ استقامةِ الأسرةِ المسلمة، وسببُ استقرارِها، ومَظِنةُ السعادةِ الزوجية!
والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.