راية كنانة
08-22-2010, 03:46 AM
هذه قصة مشوقة تحكي مناظرة أحد أئمة أهل السنة وهو الامام عبد العزيز الكناني المكي الشافعي مع أحد أكبر شيوخ المعتزلة بشر المريسي ..
أسوقها لكم بعبارات سهلة أحاول فيها ذكر القصة كما جاءت على لسان الإمام عبد العزيز الكناني المكي في كتابه الذي سماه " الحيدة " مختصراً أحياناً ومسهباً آحياناً أخرى حسب ما يستدعيه البيان والإيضاح ..
وهذه المناظرة بحق درس عملي لكل مناظر مؤمن وداعية الى الله يريد الحق والوصول إليه ..
مستعيناً أولاً بالله تعالى ثم بما معه من الحق وهو كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ..
ثم ما يلزم من أدلة عقلية لا يمكن لأصحاب العقول السليمة الا للتسليم والاذعان لها ..
وسأورد قصة هذه المناظرة الكبرى في موضوع واحد لكن سأجزأها .. على شكل ردود .. من وقت لآخر .. لتسهل قراءتها ..
فنبدأ على بركة الله تعالى ..
زمن المناظرة ... في زمن الخليفة العباسي المأمون (198-218هـ - 814-833م)
المتناظرين هما ...
- الامام عبد العزيز المكي الكناني صاحب الامام الشافعي.
- بشر بن غياث المريسي المعتزلي صاحب الجهم بن صفوان
بداية القصة
مقدمة
فتنة خلق القرآن :
القصة تدور حول مناظرة في مسألة عقدية وهي في القران الكريم هل هو مخلوق ؟ أم هو كلام الله تعالى قد تكلم به حقيقة . . كما نعلم أن القرآن هو كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على سيد البشر أجمعين وهو كلام الله تعالى تكلم به حقيقة غير مخلوق منه بدأ واليه يعود .. وهذا معتقد أهل السنة والجماعة في القرآن ..
لكن ظهرت فرقة من فرق المبتدعة وأظهرت قولا يخالف معتقد المسلمين وصريح الكتاب والسنة حيث قالوا أن القرآن مخلوق مثله مثل أي مخلوق في الدنيا ، متأثرين بمنهج أهل الكلام في نفي الصفات لله تعالى و من ذلك صفة الكلام .. فهم ينكرون أن القرآن كلام الله وهم ينكرون غيرها من صفات الله تعالي التي جاء بها القران الكريم وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام .. وتسمى هذه الفرقة بالمعتزلة أو الجهمية نسبة الى الجهم بن صفوان الذي أظهر هذه المقولة الكفرية . .
ولكن هذه الفرقة الضالة استطاعت أن تصل لبلاط الخلافة في عهد المأمون وأستطاعوا أن يقنعوا خليفة المسلمين وهو المأمون بهذه العقيدة الباطلة .. بل أشد من ذلك جعلوه يمتحن العلماء المشهورين أي بسؤالهم عن قولهم ومعتقدهم في القرآن الكريم ..
هل القرآن كلام الله ؟ أم مخلوق ؟! ... فإن كان الجواب : القرآن كلام الله .. فالسجن والتعذيب بل القتل سيكون مصير القائل .. وإن كان الجواب : مخلوق .. خلي سبيله وتركوه ..
وحصلت الفتنة .. وبدأ امتحان العلماء ..
فمن قائل بقولهم .. بخلق القرآن .. خوفاً من البطش والتنكيل .. ومنهم من أوهم في جوابه بأن يفهم منه بالقول بخلق القرآن ..
ولكن ثبت الله في هذه المحنة أفراد قلائل من أهل العلم في الوقوف في وجه هذه المقولة الكفرية .. وأن لا يخشون في الله لومة لائم .. وأن يصدعوا بالحق .. بأن القرآن غير مخلوق .. فلا مداهنة ولا مجاملة في دين الله تعالى .. فالقضية تتعلق بذات الله تعالى وصفاته وبكلام الله العظيم ..
من هؤلاء .. الطود الشامخ وصاحب العلم الراسخ .. الورع التقي .. إمام أهل السنة .. أحمد بن حنبل الشيباني .. الذي لم يستطع أن يقول غير الحق .. في أن القرآن كلام الله غير مخلوق .. وحصل له بعد تلك المقولة الشيء الكثير من الحبس والجلد والتنكيل .. والحقيقة المقام يطول في ذكر قصته كاملة ..
ولكن أقول قصة الإمام أحمد رحمه الله أنموذج حي وصادق لكل داعية الى الله تعالى ..
سمع رجل من علماء المسلمين من أصحاب الامام الشافعي بما حصل من فتنة القول بخلق القرآن وامتحان الخليفة المأمون للعلماء عن خلق القرآن ..
اسم هذا الرجل : عبد العزيز الكناني المكي ..من أصحاب الإمام الشافعي ..
ولندع هذا الامام يقص لنا قصته بلسانه ..
يقول الامام عبد العزيز المكي ( بتصرف قليل مني )
قال سمعت بمكة ما حصل من امتحان الناس بهذه المقولة الكفرية ( آي القول بخلق القرآن ) وما حصل للمؤمنين من الرهبة والخوف من أن يردوا عليهم .. بل أحجم الناس عن حضور الجمع والجماعات .. وهروبهم من بلد الى بلد آخر خوفا على أنفسهم ودينهم ..
قال : فأزعجني ذلك واغتممت وعزمت على الرحيل الى بغداد .. ثم دعوت الله ..
يقول في دعائه الله تعالى :
ففزعت إلى ربي أدعوه وأتضرع إليه راغباً وراهباً، واضعا له خدي، وباسطاً إليه يدي، أسأله أرشادي وتسديدي، وتوفيقي ومعونتي،
والأخذ بيدي وأن لا يسلمني ولا يكلني إلى نفسي، وأن يفتح لفهم كتابه قلبي، وأن يطلق لشرح بيانه لساني، وأخلصت لله عز وجل نيتي ووهبت له نفسي، فعجل تبارك وتعالى إجابتي، وثبت عزمي، وشجع وفتح لفهم كتابه قلبي، وأطلق به لساني، وشرح به صدري..
حسناً على ماذا ؟ ...
لأجل مناظرة أصحاب هذه البدعة أمام خليفة المسلمين وايضاح الحق له وللمسلمين عامة واقامة الحجة على هؤلاء ..
( وهنا درس للدعاة الى الله وأصحاب الحق بأن يلجأوا لله تعالى بالدعاء والتضرع له بأن يسدد الله قولهم ويصلح نياتهم .. فالتسديد من الله تعالى والهداية بيده سبحانه )
ولكن الإمام عبد العزيز جعل هذا الأمر سراً ولم يبدها لأحد .. حتى أقرب الناس اليه .. خوفا من افتضاح أمره فقد يسجن أو يقتل قبل بلوغ مراده ..
لكن السؤال : كيف يصل الى الخليفة ويناظر أولئك الضلال ؟
علماً أنه قد مُنع العلماء من التكلم في هذه المسألة الا بشر المريسي و متزعم القول بخلق القرآن الجهم بن صفوان ومن هم على قولهما .. والناس في حذر شديد من أن تظهر منهم ولو كلمة واحدة في ايضاح عقيدة أهل السنة ..
والخوف الآن يسود بغداد فكثير من أهل العلم قد لزم الصمت فلا حول ولا قوة الا بالله خوفاً من السجن والقتل ..
في ظل هذا الوضع .. رأى الامام عبد العزيز أن يقول مقالته في القرآن ويشهرها أمام ملأ من الناس
ويجابه أصحاب تلك المقولة ....
لكن كيف يكون ذلك ؟!
في ظل هذا الوضع ..
رأى الامام عبد العزيز أن يقول مقالته في القرآن ويشهرها أمام ملأ من الناس قبل أن يقبض عليه حتى ان جاءوا لأخذه واقتياده طالب مناظرتهم أمام الناس ..
حتى يصل أمره للخليفة وتقع المناظرة مع من يقول بخلق القرآن ..
( وهنا لا بد للمناظر من أن يناظر الخصوم في مرأى ومشهد من الناس خاصة لمن أظهر بدعته أو كفره حتى يتبين الحق للناس ولا يخفى عليهم .. وقصة الغلام المؤمن .. في قصة أصحاب الأخدود خير شاهد على ذلك)
.. ورأى آن أفضل مكان هو في جامع كبير يصلي فيه أحد الوزراء .. ويكون يوم الجمعة بعد الصلاة ، في جامع الرصافة ببغداد .. وقد أخذ ابنه معه يعينه على هذا الأمر ..
يقول الامام عبد العزيز الكناني :
لما كان في الجمعة التي اعتزمت فيها على إظهار نفسي، وإشهار قولي، واعتقالي ..
صليت الجمعة بالمسجد الجامع بالرصافه من الجانب الشرقي بحيال القبلة والمنبر بأول صف من صفوف العامة . .
فلما سلم الإمام من صلاة الجمعة...
وثبت قائما على رجلي ليراني الناس ويسمعوا كلامي، ولا تخفى عليهم مقالتي، وناديت بأعلى صوتي لأبني . .
وكنت قد أقمت أبني بحيالي عند الأسطوانة الأخرى،
فقلت له بصوت مرتفع : يا أبني ما تقول في القرآن؟
قال: كلام الله غير مخلوق ..
يقول : فلما سمع الناس كلامي، ومسألتي لأبني وجوابه إياه ..
هربوا على وجوههم خارجين من المسجد إلا يسير من الناس خوفاً على أنفسهم ..
يقول : فلم يستتم أبني الجواب حتى أتاني أصحاب السلطان، واحتملوني وأبني فأوقفوني بين يدي عمرو بن مسعدة وهو أحد وزراء المأمون .. وكان قد جاء ليصلي الجمعة ..
.
.
.
يقول الامام عبد العزيز الكناني : فقال لي: عمرو بن مسعدة :
أمجنون أنت؟
قلت: لا.
قال: فموسوس أنت؟
قلت: لا.
قال: أفمعتوه أنت؟
قلت: لا.
أني لصحيح العقل جيد الفهم ثابت المعرفة والحمد الله كثيراً.
قال: فمظلوم أنت؟
قلت: لا.
فقال لأصحابه ورجالته: مروا بهما إلى منزلي .
قال عبد العزيز: فحملنا على أيد الرجال حتى أخرجنا من المسجد ..
ثم جعلوا يتعادون بنا سحباً شديداً وأيدينا في أيد الرجال يمنة ويسرة، وسائر أصحابه خلفنا وقدامنا، حتى صرنا إلى منزل عمرو بن مسعدة على تلك الحال العنيفة الغليظة..
فوقفنا على بابه حتى دخل ، وأمر بنا فأدخلنا عليه وهو جالس في صحن داره على كرسي حديد، ووسادة عليه ..
يقول الامام عبد العزيز الكناني :
فلما صرنا بين يديه، أقبل علي فقال: من أين أنت؟
قلت: من أهل مكة .
فقال: ما حملك على ما فعلت بنفسك؟
قلت: طلب القربة إلى الله عز وجل وطلب الزلفة لديه.
قال: فهلا فعلت ذلك سرا من غير نداء ولا إظهار لمخالفة أمير المؤمنين.. أطال الله بقاءه.
ولكنك أردت الشهرة والرياء والتسوق لتأخذ أموال الناس.
فقلت: ما أردت من هذا شيئا، ولا أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين والمناظرة بين يديه لا غير ذلك .
فقال : أو تفعل ذلك؟
قلت : نعم.
ولذلك قصدت وبلغت بنفسي ما ترى بعد خروجي من بلدي وتغريري بنفسي مع سلوكي البراري أنا وولدي..
رجاء تأدية حق الله عز وجل فيما استودعني من الفهم والعلم وما أخذ علي وعلى العلماء من البيان.
فقال: إن كنت إنما جعلت هذا سببا لغيره إذا وصلت إلى أمير المؤمنين فقد حل دمك بمخالفتك أمير المؤمنين.
فقلت له: إن تكلمت في شيء غير هذا، أو جعلت هذا ذريعة إلى غيره فدمي حلال لأمير المؤمنين.
قال عبد العزيز: فوثب عمرو قائما على رجليه، وقال:
أخرجوه بين يدي إلى أمير المؤمنين.
( ثم ذهب الوزير لقصر الخليفة لاخباره عن أمر المناظرة )
قال: فأخرجت، وركب من الجانب الغربي _ يقصد الوزير _ وأنا بين يديه وولدي .. يُعدي بنا على وجوهنا . .
وأيدينا في أيدي الرجال حتى صار إلى أمير المؤمنين من الجانب الشرقي . .
فدخل وأنا في الدهليز قائم على رجلي . . فأطال عند أمير المؤمنين . .
ثم خرج فقعد في حجرة له، وأمر بي فأدخلت عليه..
فقال لي: قد أخبرت أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بخبرك وما فعلت، وما قلت وما سألت من الجمع بينك وبين مخالفيك من المناظرة بين يديه،
وقد أمر أطال الله بقاءه، بإجابتك إلى ما سألت وجمع المناظرين عن هذه المقالة إلى مجلسة أعلاه الله في يوم الاثنين الأتي وتحضر معهم ليناظروا بين يديه أيده الله.. ويكون هو الحاكم بينكم ..
( موعد المناظرة يوم الاثنين القادم )
ماسيكون حال الشيخ الامام عبد العزيز الكناني بعد ذلك ؟
. بعدما أخبر الوزير الامام عبد العزيز عن موافقة خليفة المسلمين على المناظرة وأعطاهم موعدا وهو يوم الأثنين ويكون الخليفة هو الحكم فيما بينهم ...
يقول الامام عبد العزيز الكناني :
فأكثرت حمد الله على ذلك وشكرته وأظهرت الشكر والدعاء لأمير المؤمنين،
فقال لي عمرو بن مسعدة: أعطنا كفيلا بنفسك حتى تحضر معهم يوم الاثنين وليس بنا حاجة إلى حبسك. .
قلت له : أعزك الله أنا رجل غريب ولست أعرف في هذا البلد أحدا ولا يعرفني من أهله أحد، فمن أين لي من يكفلني..؟!
وخاصة مع إظهار مقالتي.. ولو كان الخلق يعرفوني لتبرؤا مني، وهربوا من قربي وأنكروا معرفتي ..!
قال الوزير : اذن .. نوكل بك من يكون معك حتى يحضرك في ذلك اليوم . . وتنصرف فتصلح من شأنك وتفكر في أمرك فلعلك أن ترجع عن غيك وتتوب من فعلك أن ترجع عن غيك وتتوب من فعلك ..
فيصفح أمير المؤمنين عن جرمك.
فقلت ذلك إليك أعزك الله فأفعل ما رأيت.
قال عبد العزيز: فوكل بي من يكون معي في منزلي وانصرفت.
قال عبد العزيز: فلما كان يوم الاثنين، صليت الغداة في مسجدي الذي كان على باب منزلي.. فلما فرغت من الصلاة إذ بخليفة عمرو بن مسعدة قد جاء ومعه خلق كثير من الفرسان والرجال ..
(محاولة الوزير ثني الامام عبد العزيز المكي عن المناظرة )
يقول : فحملوني مكرما على دابة حتى صاروا بي على باب أمير المؤمنين فأوقفوني حتى جاء عمرو بن مسعدة ..
فدخل فجلس في حجرته التي كان يجلس فيها، ثم أذن لي بالدخول عليه فدخلت.
فلما صرت بين يديه أجلسني ثم قال لي :
أنت مقيم على ما كنت عليه، أو قد رجعت عنه ؟
فقلت: بل مقيم على ما كنت وقد ازددت بتوفيق الله إياي بصيرة في أمري.
فقال لي عمرو:
أيها الرجل قد حملت نفسك على أمر عظيم وبلغت الغآية في مكروهها وتعرضت لما لا قوام لك به، من مخالفة أمير المؤمنين أطال الله بقاه..
وادعيت ما لا يثبت لك به حجة على مخالفيك ولا لأحد غيرك، وليس وراءك بعد الحجة عليك إلا السيف..
فأنظر نفسك وبادر أمرك قبل أن تقع المناظرة، وتظهر عليك الحجة، فلا تنفعك الندامة، ولا تقبل لك معذرة، ولا تقال لك عثرة، فقد رحمتك وأشفقت عليك مما هو نازل بك،
وأنا استقبل أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وأساله الصفح عن جرمك وعظيم ما كان منك، إن أظهرت الرجوع عنه، والندم على ما كان منك، وآخذ لك الأمان منه أيده الله والجائزة..
وإن كانت لك ظلامة أزلتها عنك، وإن كانت لك حاجة قضيتها لك، فإنما جلست رحمة لك مما هو نازل بك بعد ساعة إن أقمت على ما أنت عليه..
ورجوت أن يخلصك الله على يدي من عظيم ما أوقعت بنفسك فيه..
فقلت له :
ما ندمت أعزك الله ولا رجعت، ولا خرجت عن بلدي، وغررت بنفسي إلا في طلب هذا اليوم، وهذا المجلس رجاء أن يبلغني الله ما أؤمل من إقامة الحق فيه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل .
فقام عمرو بن مسعدة على رجليه ،
وقال : قد حرصت في كلامك جهدي، وأنت حريص مجتهد في سفك دمك وقتل نفسك ،،
فقلت له:
معونة الله أعظم، والله عز وجل ألطف من أن يسلمني ويكلني إلى نفسي، وعدل أمير المؤمنين أطال الله بقاه أوسع من أن يقصر عني، وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
الساعات الرهيبة قبل المناظرة
ثم أُمر بعبد العزيز بالدخول للقصر .. ولكن سيكون دخوله عبر مراحل ..
حيث سيدخل عدة دهاليز .. أو صالات فيها من الجمع من وجهاء وأمراء وحرس العدد الكبير وذلك لإدخال الرعب والخوف في قلبه ..
يقول الاما عبد العزيز : وأمر بي فأخرجت إلى الدهليز الأول، ومعي جماعة موكلون بي، وكان قد تقدم إلى سائر بني هاشم ممن يحضر مجلس أمير المؤمنين أطال الله بقاه، أن يركبوا ووجه إلى الفقهاء والقضاة والموافقين لهم على مذهبهم.
وسائر المتكلمين، والمناظرين أن يحضروا دار أمير المؤمنين، فأمر القواد والأمراء أن يركبوا في السلاح كل ذلك ليرهبوني بهم..
ومنع الناس من الانصراف إلى أن ينقضي المجلس، فلما اجتمع الناس وتأهبوا ولم يتخلف منهم أحد ممن يعرفون بالكلام والجدال، أذن لي في الدخول ..
فلم أزل أنقل من دهليز إلى دهليز حتى صرت إلى الحاجب (صاحب) الستر الذي على باب الصحن.. ( وهي قاعة المناظرة الكبرى ومكان جلوس الخليفة )
فلما رآني أمر بي فأدخلت إلى حجرته، ودخل معي فقال لي:
إن احتجت إلى أن تجدد طهرا فافعل..
فقلت: لا حاجة لي بذلك..
فقال: صل ركعتين قبل دخولك، فصليت أربع ركعات ودعوت الله وتضرعت إليه..
من أسباب التثبيت للامام عبد العزيز
يقول : فلما فرغت..من الصلاة ..
أمر (أي الحاجب وهوبمثابة رئيس الحرس الخاص ) من كان بحجرته فخرج من الحجرة ثم تقدم إلي ..
فقال لي وهو يسارني : يا هذا إن أمير المؤمنين بشر مثلك رجل من ولد آدم ، وكذلك كل من يناظرك بحضرته فهو بشر مثلك، فلا تتهيبهم ،
واجمع فهمك وعقلك لمناظرتهم، وإياك والجزع، واعلم علما يقينا أنه إن ظهرت حجتك عليهم انكسروا وانقطع كلامهم عنك، وأذللتهم وغلبتهم ولم يقدروا على ضر ولا مكروه ..
وصار أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وسائر الأولياء والرعية معك عليهم..
وإن ظهرت حجتهم عليك أذلوك وقتلوك وأشهروك وجعلوك للخلق عبرة..
فأجمع همتك ومعرفتك ولا تدع شيئا مما تحسنه وتحتاج إليه أن تتكلم به خوفا من أمير المؤمنين أو من أحد غيره وتوكل على الله واستخر الله ، وقم فادخل.
فقلت له: جزاك الله خيرا فقد أديت النصيحة وسكنت الروعة وآنست الوحشة، وخرج، وخرجت معه إلى باب الصحن.
قال عبد العزيز:
فشال الستر، وأخذ الرجال بيدي وعضدي وجعل أقوام يتعادون بي، وأيديهم في ظهري وعلى عنقي..
فجعلت أسمع أمير المؤمنين وهو يقول: خلو عنه خلو عنه..
وكثر الضجيج من الحجاب والأولياء بمثل ذلك، فخلي عني وقد كاد عقلي أن يتغير من شدة الجزع وعظيم ما رأيت من ذلك الصحن ...
( تخيل الموقف رجل وحيد وغريب يدخل الى مناظرة مع سادة القوم وكبراءهم ..ومع من ؟ من معه السلطة والقوة المادية .. وقد توافدوا بالمئات وبحضرة خليفة المسلمين فإن انهزم أمامهم سيكون السيف والتنكيل له ولأهل السنة ،، وأعظم من ذلك ضياع الحق واندراسه .. فكيف سيكون حاله ؟! )
.
.
. يقول الامام عبد العزيز :
وكثر الضجيج من الحجاب والأولياء بمثل ذلك، فخلي عني وقد كاد عقلي أن يتغير من شدة الجزع وعظيم ما رأيت من ذلك الصحن ..
من السلاح والرجال، وقد انبسطت الشمس عليهم، وملأ الصحن صفوفا، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين، ما رأيتها قبل ذلك ولا دخلتها..
فلما صرت على باب الإيوان..
وقفت هناك فسمعته يقول (أي الخليفة ) : قربوه قربوه ،
فلما دخلت من باب الإيوان وقعت عيني عليه..
وقبل ذلك لم أتبينه ( أي لم ير صورة الخليفة بوضوح عند دخوله ) لما كان على باب الإيوان من الحجاب والقواد..
فقلت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال : أدن مني ، فدنوت منه ،
ثم قال: أدن مني زاده تكرارا، وأنا أدنو منه خطوة .. خطوة ..
حتى صرت في الموضع الذي يجلس فيه المناظرون، ويسمع كلامهم، والحاجب معي يقدمني..
فلما انتهيت إلى الموضع..
قال لي المأمون: أجلس فجلست.
قال الامام عبد العزيز:
فسمعت رجلا من جلسائه يقول وقد دخلت من الإيوان : يا أمير المؤمنين يكفيك من كلام هذا قبح وجهه.. لا والله ما أريت خلق الله قط أقبح وجها منه..
فسمعته يقول هذا وفهمت كلامه كله ورأيت شخصه على ما بي من الروعة والجزع والخوف..
وجعل ينظر إلي ( يقصد الخليفة ) وأنا ارتعد وانتفض.. فأحب أن يؤنسني وأن يسكن عني ما قد لحقني وأن ينشطني..
فجعل يكثر كلام جلسائه ويكلم خليفته عمرو بن مسعدة، ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج أن يتكلم بها يريد بذلك كله إيناسي..
وجعل يطيل النظر إلى الإيوان، ويدير طرفه فيه، فوقعت عينه على موضع من نقش الجص قد انتفخ..
فقال : يا عمرو أما ترى هذا الذي قد انتفخ من هذا النقش..؟ وسيقع فبادره في يومنا هذا.. (أي قم بإصلاحه)
فقال عمرو : قطع الله يد صانعه، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا.
قال عبد العزيز: ثم أقبل علي المأمون فقال لي :
الاسم ؟
فقلت: عبد العزيز.
فقال لي : ابن من ؟
فقلت: ابن يحيى
قال: ابن من؟
قلت: ابن ميمون الكناني.
قال: وأنت من كنانه ؟
قلت: نعم، يا أمير المؤمنين.. فتركني ولم يكلمني هنيهة، ثم أقبل علي
فقال : من أين الرجل ؟
قلت: من الحجاز.
قال: من أي الحجاز ؟
قلت: من مكة.
قال: ومن تعرف من أهلها ؟
قلت: يا أمير المؤمنين كل من بها من أهلها أعرفه إلا رجلا ضوى إليها وجاور بها من الغرباء فإني لا أعرفه..
قال: فهل تعرف فلانا، هل تعرف فلانا ؟
حتى عد جماعة من بني هاشم كلهم أعرفهم حق معرفتهم ..
فجعلت أقول: نعم أعرفه.. وسألني عن أولادهم وأنسابهم فأخبره..
من غير حاجة به إلى شي من ذلك، ولا مما تقدم من مسألتي وإنما يريد به إيناسي وبسطي للكلام.. وتسكين روعتي وجزعي..
فقوى بها ظهري، واشتد بها قلبي، واجتمع بها فهمي، وعلا بها جدي، وانشرح بها صدري، وانطلق بها لساني ..
ورجوت بها النصر على عدوي.
قال عبد العزيز :
فأقبل علي المأمون فقال : يا عبد العزيز ..
إنه اتصل بي ما كان منك في قيامك في المسجد الجامع،
وقولك إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبحضرة الخلق على رؤوس الأشهاد، ومسألتك بعد ذلك الجمع بينك وبين مناظريك على هذه المقالة بحضرتي وفي مجلسي، والاستماع منك ومنهم، وقد جمعتك والمخالفين لك لتتناظروا بين يدي..
وأكون أنا الحكم فيما بينكم فإن تكن لك الحجة والحق معك تبعناك، وإن تكن لهم الحجة عليك والحق معهم عاقبناك . .
. بدأ المناظرة بين الامام عبدالعزيز المكي وبشر المريسي
ثم أقبل المأمون على بشر المريسي فقال :
يا بشر قم إلى عبد العزيز فناظره وأنصفه.
قال عبد العزيز: فوثب إلي بشر من موضعه الذي كان فيه كالأسد يثب إلى فريسته..
فجاء فانحط علي، فوضع فخذه الأيسر على فخذي الأيمن، فكاد أن يحطمها..
واعتمد علي بقوته كلها. فقلت له: مهلا فإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه لم يأمرك بقتلي ولا بظلمي..!
وإنما أمرك بمناظرتي وإنصافي..
فصاح به المأمون تنح عنه، وكرر ذلك عليه حتى باعده مني.
( وهذا ليخيفوا الامام عبد العزيز ويرجع عن المناظرة .. ولتعلم كيف هؤلاء تجرأوا في مجلس الخليفة )
قال عبد العزيز: ثم أقبل علي المأمون
فقال: يا عبد العزيز ناظره على ما تريد واحتج عليه ، ويحتج عليك، وسله ويسألك، وتناصفا في كلامكما ، وتحفظا ألفاظكما ، فإني مستمع ..لكما ومتحفظ ألفاظكما.
قال عبد العزيز: فقلت السمع والطاعة يا أمير المؤمنين..
ولكني أقول شيئا فإن رأى أمير المؤمنين أبقاه الله أن يأذن لي في ذلك فعلت. ( يريد أن يقول كلاما قبل بدأ المناظرة )
فقال: قل ما تريد.
فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إني رجل عربي، وفي كلامي دقة، ولم يسمع أمير المؤمنين أطال الله بقاءه من كلامي شيئا قبل هذا الوقت،
فجليل كلامي في سمع أمير المؤمنين دقيق ، ( أي أن صوته خافت وهو يريد اعلام الخليفة بذلك حتى ينتبه الخليفة لكلامه ولا يغيب عنه شيء )
وبشر يا أمير المؤمنين كثير سماع أمير المؤمنين دقيق كلامه، فصار في سمع أمير المؤمنين جليلا ( أي آن كلامه يعرفه الخليفة ولا يحتاج الى أن يصغي اليه )،
فإن رأى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه أن يأذن لي فأقدّم شيئا من كلامي هذا المجلس..
ليقيس ما يدق بعده من كلامي على ما تقدم، ويعرف مذهبي في كلامي، ثم يجمعني ومن أحب لمناظرتي بعد هذا في أي وقت شاء.
قال المأمون: أنا مشغول عن هذا بما يلزمني من أمر المسلمين، وإنما جمعتك ومخالفيك لما أظهرت من مخالفتك إياهم وذمك لمذهبهم، وادعائك الرد عليهم. ومسألتك الجمع (بينك) وبينهم ..
ولست أجمعك وإياهم بعد هذا المجلس إلا عن مناظرة تجري بينك وبينهم فتحتاجون إلى عودة لاستتمام ما بقي عليكما من المناظرة فأجمعكما لذلك..
"وهنا كأن الخوف والهلع دب في قلب الامام عبدالعزيز وأراد الرجوع لكن .. حاسب نفسه وعاتبها على ذلك فقال :"
فقلت في نفسي، هذا الذي سألت الله عز وجل أن يبلغنيه وعاهدته لأن بلغنيه لأقومن بحقه ولأذبن عن دينه بما يلهمني بتوفيقه صابرا محتسبا وإن عرضت على السيف والقتل ..
حتى إذا بلغني الله ما أملته وأعطاني ما سألته، وأيدني بالمعونة، وكفاني المؤونة وعطف قلوب عباده علي، وصرف عني ما كنت أحاذر من سوء بادرة تكون قبل قيامي بحق الله تعالى، أأنقض عهده ؟ وأخلف وعده، وأكفر نعمه، فيسخط علي ويخذلني ويكلني إلى نفسي..
والله والله لا فعلت ولو تلفت نفسي..
.
. قبل بدأ المناظرة كلام جميل من الامام عبدالعزيز على من استهزأ بخلقته وسخر منه ..
قال الامام عبد العزيز:
فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم بشي قد شغل قلبي قبل مناظرتي لبشر.
فقال لي : تكلم بما شئت فقد أذنت لك.
فقلت: أسألك بالله يا أمير المؤمنين من بلغك إنه كان أجمل ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -. فأطرق مليا..
ثم رفع رأسه فقال: يوسف عليه السلام.
فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين- فوالله ما أعطي يوسف على حسن وجهه بعرتين ..
ولقد سجن وضيق عليه من أجل حسن وجهه بعد أن وقف على براءته بالشاهد الذي أنطقه الله عز ول بتصديقه وبيان قوله وبعد إقرار امرأة العزيز إنها هي راودته عن نفسه فاستعصم فحبس بعد ذلك كله لحسن وجهه، قال الله تعالى : { ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى
حِينٍ}..
فدل بقوله عز وجل أنه سجن بغير ذنب لعله حسن وجهه وليغيبوه عنها وعن غيرها،
فطال في السجن حبسه حتى إذا عبر الرؤيا ووقف الملك على علمه ومعرفته اشتاق إليه ، ورغب في صحبته فقال عز وجل: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} ..
فكان هذا القول من الملك عندما وقف عليه من علم يوسف ومعرفته قبل أني يسمع كلامه، فلما دخل عليه وسمع كلامه وحسن عبارته صيره على خافي خزائن الأرض..
وفوض إليه الأمور كلها وتبرأ منها وصار كأنه من تحت يده، فكان هذا الذي بلغه يوسف عليه السلام بكلامه وعلمه لا بجماله، قال عز وجل :
{فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ولم يقل أني حسن جميل، قال الله عز وجل:
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}
فوالله يا أمير المؤمنين ما أبالي إن وجهي أقبح مما هو، وإني أحسن من الفهم والعلم أكثر مما أحسن.
قال عبد العزيز:
فقال لي المأمون وأي شي أردت بهذا القول، وما الذي دعاك إلى ذكر هذا؟
فقلت سمعت بعض من هاهنا يقول لأمير المؤمنين:
يكفيك من كلامه قبح وجهه.. فما يضرني قبح وجهي مع ما رزقني الله عز وجل من فهم كتابه، والعلم بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه..
( والقصد من ذلك أن العلم والنبوة هو ما رفع يوسف عليه السلام وليس حسن الوجه والجمال.. )
ثم قلت: يا أمير المؤمنين ..
أطال الله بقاءه فقد رأيتك تنظر إلى هذا النفش وانتفاخ الجص وتذكره، وسمعت عمرا ( يقصد وزيرالخليفة) يعيب ذلك ويدعو على صانعه، ولا يعيب الجص .. ولا يدعو عليه..
فقال المأمون: العيب لا يقع على الشيء المصنوع، وإنما يقع العيب على الصانع.
قال: قلت: صدقت يا أمير المؤمنين، ولكن هذا يعيب ربي لم خلقني قبيحا ؟!
فازداد الخليفة تبسما حتى ظهرت (ثناياه).
قال عبد العزيز:
فأقبل علي المأمون وقال: يا عبد العزيز: ناظر صاحبك فقد طال المجلس بغير مناظرة..
.
.
وهنا لاحظ الجميع ومنهم الخليفة .. أن من يناظرون ليس رجلاً عادياً .. وأنه قد أوتي علماً وجدلاً ..
. (تحديد مرجع وأصل يرجع له المتناظران عند الخلاف)
فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك ،
كل متناظرين على غير أصل يكون بينهما يرجعان إليه إذا اختلفا في شي من الفروع، فهما كالسائر على غير الطريق، لا يعرف الحجة فيتبعها ويسلكها وهو لا يعرف الموضع الذي يريد فيقصده..
ولا يدري من أين جاء فيرجع يطلب الطريق فهو على ضلال أبدا..
ولكننا نؤصل بيننا أصلا، فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه فيه وإلا رمينا به ولم نلتفت إليه.
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون:
نعمَ ما قلت، فاذكر الأصل الذي تريد أن يكون بينكما.. ويذكر أيضا هو مثله حتى تتفقا على الأصل فتؤصلاه بينكما.
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك،
أو أصل بيني وبينه ما أمرنا الله به واختاره لنا وأدبنا به وعلمنا ودلنا عليه عند التنازع والاختلاف، ولم يكلنا إلى أنفسنا ولا إلى اختيارنا ؟
فقال المأمون: وذلك موجود عن الله عز وجل ؟!
قلت: نعم يا أمير المؤمنين قال الله تعالى : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
( يقصد القرآن الكريم وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام )
وهذا تعليم الله عز وجل وتأديبه واختياره لعباده المؤمنين وهو خير وأحسن ما أصله المتنازعون بينهم،
وقد تنازعت أنا وبشر يا أمير المؤمنين فنحن نؤصل بيننا كتاب الله عز وجل وسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما أمرنا فإن اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى كتاب الله عز وجل، فإن وجدناه فيه وإلا رددناه إلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن وجدناه فيها وإلا ضربنا به الحائط ولم نلتفت إليه.
فقال بشر: وأين أمرنا الله أن نرد ما اختلفنا فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم ؟!
قلت: كأنك لم تسمع ما جرى وما ابتدأت به، قال الله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
قال بشر: فإنما أمر الله أن يرد إليه وإلى الرسول، ولم يأمرنا أن نرده إلى كتابه العزيز وإلى سنة نبيه عليه السلام.
قال عبد العزيز:
هذا مالا خلاف فيه بين المؤمنين وأهل العلم إن رددناه إلى الله فهو إلى كتاب الله، وإن رددناه إلى رسوله بعد وفاته رددناه إلى سنته، وإنما يشك في هذا الملحدون، وقد روى هذا بهذا اللفظ عن ابن عباس وعن جماعة من الأئمة الذين أخذ العلم عنهم رحمة الله عليهم.
قال عبد العزيز:
فقال لي المأمون: فافعلا وأصلا بينكما يا عبد العزيز أصلا واتفقا عليه وأنا الشاهد بينكما إن شاء الله تعالى.
قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين: إنه من ألحد في كتاب الله عز وجل جاحدا أو زائدا لم يناظر بالتأويل، ولا بالتفسير، ولا بالحديث.
تنبيه :
(يقصد الامام عبد العزيز آن بشرا قد ألحد في كتاب الله أي بقوله أن القرآن مخلوق .. فلا يناظر بالتفسير ولا بالحديث ..)
فقال المأمون: وبأي شي تناظره ؟
قلت: بنص التنزيل كما قال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}
وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}
وقال حين أدعت اليهود تحريم أشياء لم تحرم عليهم:
{قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام:
{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}.
فإنما أمر الله نبيه بالتلاوة، ولم يأمره بالتأويل، وإنما يكون التأويل لمن أقر بالتنزيل، وإما من الحد في التنزيل فكيف يناظر بتأويله.
فقال لي المأمون: أويخالفك في التنزيل ؟
قلت: نعم ليخالفني، أو ليدع قوله ومذهبه ويوافقني.
قال عبد العزيز: ثم أقبلت على بشر فقلت:
يا بشر ما حجتك أن القرآن مخلوق؟
وانظر إلى أحد سهم في كنانتك فارمني به، ولا تحتاج إلى معاودتي بغيره.
فقال بشر : تقول القرآن شيء أم غير شيء؟
فإن قلت إنه شيء أقررت إنه مخلوق إذ كانت الأشياء مخلوقة بنص التنزيل ( يقصد في قوله تعالى { والله خالق كل شيء}) ..
وإن قلت إنه ليس بشيء فقد كفرت لأنك تزعم أنه ( أي القرآن ) حجة الله على خلقه وإن حجة الله ليس بشيء.
قال عبد العزيز:
فقلت لبشر ما رأيت أعجب من هذا تسألني وتجيب نفسك عني وتكفرني ولم تسمع كلامي ولا قولي فإن كنت سألت لأجيبنك، فاسمع مني فأني أحسن أن أجيب عن نفسي واحتج عن مقالتي ومذهبي، وأن كنت إنما تريد أن تخطئني وتتكلم لتدهشني وتنسيني حجتي فلن أزداد بتوفيق الله إياي إلا بصيرة وفهما، وما أحسبك إلا وقد تعلمت شيئا أو سمعت قائلا يقول هذه المقالة التي قلتها أو قرأتها في كتاب فأنت تكره أن تقطعها حتى تأتي على آخرها...
قال عبد العزيز: فأقبل المأمون ( على بشر) فقال:
صدق عبد العزيز، اسمع منه جوابه ورد عليه بعد ذلك بما شئت من الكلام..
ثم قال لي: تكلم يا عبد العزيز وأجب عما سألك عنه.
قال عبد العزيز: سألت عن القرآن أهو شيء أم غير شيء، فإن كنت تريد هو شيء إثباتا للوجود ونفيا للعدم.. فهو شيء..
وإن كنت تريد أن الشيء اسم له و أنه كالأشياء فلا . ( يقصد أنه موجود ليس عدماً ولكنه ليس كالأشياء )
فقال بشر: ما أدري ما تقول ولا أفهمه ولا أعقله ولا أسمعه، ولا بد من جواب يفهم ويعقل أنه شيء يعقل أو غير شيء.؟
( وهنا بشر المريسي يريد من الامام عبد العزيز جواباً هو يريده حتى يحجه به ، فسؤاله يحتمل اجابات متعددة وليس جواباً واحداً لذلك غضب بشر المريسي من جواب الامام عبد العزيز فهو يريد آن يقول الامام عبد العزيز أن القرآن شيء ويقف بدون تفصيل حتى يحجه بقول الله تعالى { والله خالق كل شيء } ولكن عبد العزيز يعرف ما يريده بشر من جوابه)
قال عبد العزيز: صدقت إنك لا تفهم ولا تعقل ولا تسمع ما أقول ولقد وصفت نفسك بأقبح الصفات، واخترت لها أذم الاختيارات،
ولقد ذم الله عز وجل في كتابه من قال مثل ما قلت: أو كان بمثل ما وصفت به نفسك، فقال الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}
وقال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أ وْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}..
ولقد امتدح الله عز وجل في كتابه بحسن الاستماع وأثنى عليهم أحسن الثناء فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ}
وقال عز وجل: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}
تنبيه :
وهذا مأخذ على بشر المريسي في جوابه على الامام عبد العزيز في قوله : لا أفهم .. لا أعقل .. لا أسمع .. أي أنه معرض عن جواب الامام عبد العزيز الكناني .. فاستغل الفرصة الامام و استدل بالقرآن على ذم ما قاله بشر عن نفسه .. وهذا الفرق بين أهل السنة وغيرهم في أنهم أكثر الناس تعلقاً بالقرآن وهم أفضل من يستشهد بالقرآن في مواطن النزاع والخصام .. فالقرآن حجة الله على خلقه .. ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
...
قال عبد العزيز:
قال المأمون: دع هذا يا عبد العزيز وارجع إلى ما كنت فيه، وبين ما كنت فيه، واشرحه، واحتج لنفسك
فقلت: يا أمير المؤمنين:
إن الله عز وجل أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه إذ كان كلامه من صفاته فلم يتسمَ بالشيء ..
ولم يجعل الشيء من أسمائه ولكنه دل على نفسه أنه شيء وأكبر الأشياء إثباتا للوجود ونفيا للعدم
( وهذا رد على بشر المريسي ... في اطلاقه على القرآن أنه شيء وهو بالتالي يكون مخلوق ...
فالله سبحانه وتعالى شيء .. فلو أنكر بشر أنه شيئ لكفر .. ولكنه شيء ليس كالأشياء سبحانه وتعالى .. والله هو الخالق وليس بمخلوق)
فقال تعالى عن نفسه
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فدل على نفسه أنه شيء ليست كالأشياء
و قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ َهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}
فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة بهذا الخبر تكذيبا لمن ألحد في كتابه، وافترى عليه، وشبهه بخلقه..
ولم يسمي الله تعالى نفسه شيئاً فقد تعددت أسماء الله تعالي في كتابه ولم يذكر منها أنه شيئ . .
( ويقصد بأن القول في كلام الله تعالى وهو القرآن الكريم كالقول في ذات الله تعالى بأنه شيء ومع ذلك لا بقال أن الله مخلوق لأنه شيء .. تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً ..)
فالاحتجاج بالآية باطل لايصح .. وقد ذكر الامام عبد العزيز شواهد كثيرة من القرآن بأن الشيئ تطلق في القرآن ويقصد به الموجود وليس المخلوق ..
ثم ذكر الامام عبد العزيز آية من كتاب الله نسفت احتجاج بشر الفاسد بآية {والله خالق كل شيء }..أي القرآن يدخل في العموم فهو اذن مخلوق ..
قال عبد العزيز :
قال الله تعالي { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} يعني الريح التي أرسلت على عاد،
فهل أبقت الريح يا بشر شيئا لم تدمره ؟
قال: لا لم يبق شيء إلا دمرته ..
وقد دمرت كل شيء كما أخبر الله تعالى لأنه لم يبق شيء إلا وقد دخل في هذه اللفظة.
قال الامام وقلت: قد أكذب الله من قال هذا
بقوله: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاّ مَسَاكِنُهُمْ} فأخبر عنهم أن مساكنهم كانت باقية بعد تدميرهم، ومساكنهم أشياء كثيرة.
أي لماذا لم تدخل في العموم { تدمر كل شيء }؟!
وقال عز وجل: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} وقد أتت الريح على الأرض والجبال والمساكن والشجر وغير ذلك فلم يصر شيئا منها كالرميم..
واحتج الامام أيضاً بقوله تعالى عن ملكة سبأ بلقيس" :
قال عز وجل: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} يعني بلقيس،
ثم قال ... فكأن بقولك يا بشر يجب أن لا يبقى شيء يقع عليه اسم الشيء إلا دخل في هذه اللفظة قد أوتيته بلقيس!
ولكن قد بقي ملك سليمان وهو مائة ألف ضعف مما أوتيته بلقيس ..
فملكة سبأ "لم تؤتى من كل شيء بمعنى العموم المطلق .. فالله سبحانه وتعالى قال لعباده :
{ وما أوتيتم من العلم الا قليلاً } فبلقيس لم تؤتى الا شيئاً قليلاً .. وقليل جداً مما هو عند الله تعالى ..
هنا اتقطع بشر عن الاجابة واضطرب وحاد عن الجواب .. واندحضت حجته ..
منقول للفائدة العامة
أسوقها لكم بعبارات سهلة أحاول فيها ذكر القصة كما جاءت على لسان الإمام عبد العزيز الكناني المكي في كتابه الذي سماه " الحيدة " مختصراً أحياناً ومسهباً آحياناً أخرى حسب ما يستدعيه البيان والإيضاح ..
وهذه المناظرة بحق درس عملي لكل مناظر مؤمن وداعية الى الله يريد الحق والوصول إليه ..
مستعيناً أولاً بالله تعالى ثم بما معه من الحق وهو كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ..
ثم ما يلزم من أدلة عقلية لا يمكن لأصحاب العقول السليمة الا للتسليم والاذعان لها ..
وسأورد قصة هذه المناظرة الكبرى في موضوع واحد لكن سأجزأها .. على شكل ردود .. من وقت لآخر .. لتسهل قراءتها ..
فنبدأ على بركة الله تعالى ..
زمن المناظرة ... في زمن الخليفة العباسي المأمون (198-218هـ - 814-833م)
المتناظرين هما ...
- الامام عبد العزيز المكي الكناني صاحب الامام الشافعي.
- بشر بن غياث المريسي المعتزلي صاحب الجهم بن صفوان
بداية القصة
مقدمة
فتنة خلق القرآن :
القصة تدور حول مناظرة في مسألة عقدية وهي في القران الكريم هل هو مخلوق ؟ أم هو كلام الله تعالى قد تكلم به حقيقة . . كما نعلم أن القرآن هو كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على سيد البشر أجمعين وهو كلام الله تعالى تكلم به حقيقة غير مخلوق منه بدأ واليه يعود .. وهذا معتقد أهل السنة والجماعة في القرآن ..
لكن ظهرت فرقة من فرق المبتدعة وأظهرت قولا يخالف معتقد المسلمين وصريح الكتاب والسنة حيث قالوا أن القرآن مخلوق مثله مثل أي مخلوق في الدنيا ، متأثرين بمنهج أهل الكلام في نفي الصفات لله تعالى و من ذلك صفة الكلام .. فهم ينكرون أن القرآن كلام الله وهم ينكرون غيرها من صفات الله تعالي التي جاء بها القران الكريم وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام .. وتسمى هذه الفرقة بالمعتزلة أو الجهمية نسبة الى الجهم بن صفوان الذي أظهر هذه المقولة الكفرية . .
ولكن هذه الفرقة الضالة استطاعت أن تصل لبلاط الخلافة في عهد المأمون وأستطاعوا أن يقنعوا خليفة المسلمين وهو المأمون بهذه العقيدة الباطلة .. بل أشد من ذلك جعلوه يمتحن العلماء المشهورين أي بسؤالهم عن قولهم ومعتقدهم في القرآن الكريم ..
هل القرآن كلام الله ؟ أم مخلوق ؟! ... فإن كان الجواب : القرآن كلام الله .. فالسجن والتعذيب بل القتل سيكون مصير القائل .. وإن كان الجواب : مخلوق .. خلي سبيله وتركوه ..
وحصلت الفتنة .. وبدأ امتحان العلماء ..
فمن قائل بقولهم .. بخلق القرآن .. خوفاً من البطش والتنكيل .. ومنهم من أوهم في جوابه بأن يفهم منه بالقول بخلق القرآن ..
ولكن ثبت الله في هذه المحنة أفراد قلائل من أهل العلم في الوقوف في وجه هذه المقولة الكفرية .. وأن لا يخشون في الله لومة لائم .. وأن يصدعوا بالحق .. بأن القرآن غير مخلوق .. فلا مداهنة ولا مجاملة في دين الله تعالى .. فالقضية تتعلق بذات الله تعالى وصفاته وبكلام الله العظيم ..
من هؤلاء .. الطود الشامخ وصاحب العلم الراسخ .. الورع التقي .. إمام أهل السنة .. أحمد بن حنبل الشيباني .. الذي لم يستطع أن يقول غير الحق .. في أن القرآن كلام الله غير مخلوق .. وحصل له بعد تلك المقولة الشيء الكثير من الحبس والجلد والتنكيل .. والحقيقة المقام يطول في ذكر قصته كاملة ..
ولكن أقول قصة الإمام أحمد رحمه الله أنموذج حي وصادق لكل داعية الى الله تعالى ..
سمع رجل من علماء المسلمين من أصحاب الامام الشافعي بما حصل من فتنة القول بخلق القرآن وامتحان الخليفة المأمون للعلماء عن خلق القرآن ..
اسم هذا الرجل : عبد العزيز الكناني المكي ..من أصحاب الإمام الشافعي ..
ولندع هذا الامام يقص لنا قصته بلسانه ..
يقول الامام عبد العزيز المكي ( بتصرف قليل مني )
قال سمعت بمكة ما حصل من امتحان الناس بهذه المقولة الكفرية ( آي القول بخلق القرآن ) وما حصل للمؤمنين من الرهبة والخوف من أن يردوا عليهم .. بل أحجم الناس عن حضور الجمع والجماعات .. وهروبهم من بلد الى بلد آخر خوفا على أنفسهم ودينهم ..
قال : فأزعجني ذلك واغتممت وعزمت على الرحيل الى بغداد .. ثم دعوت الله ..
يقول في دعائه الله تعالى :
ففزعت إلى ربي أدعوه وأتضرع إليه راغباً وراهباً، واضعا له خدي، وباسطاً إليه يدي، أسأله أرشادي وتسديدي، وتوفيقي ومعونتي،
والأخذ بيدي وأن لا يسلمني ولا يكلني إلى نفسي، وأن يفتح لفهم كتابه قلبي، وأن يطلق لشرح بيانه لساني، وأخلصت لله عز وجل نيتي ووهبت له نفسي، فعجل تبارك وتعالى إجابتي، وثبت عزمي، وشجع وفتح لفهم كتابه قلبي، وأطلق به لساني، وشرح به صدري..
حسناً على ماذا ؟ ...
لأجل مناظرة أصحاب هذه البدعة أمام خليفة المسلمين وايضاح الحق له وللمسلمين عامة واقامة الحجة على هؤلاء ..
( وهنا درس للدعاة الى الله وأصحاب الحق بأن يلجأوا لله تعالى بالدعاء والتضرع له بأن يسدد الله قولهم ويصلح نياتهم .. فالتسديد من الله تعالى والهداية بيده سبحانه )
ولكن الإمام عبد العزيز جعل هذا الأمر سراً ولم يبدها لأحد .. حتى أقرب الناس اليه .. خوفا من افتضاح أمره فقد يسجن أو يقتل قبل بلوغ مراده ..
لكن السؤال : كيف يصل الى الخليفة ويناظر أولئك الضلال ؟
علماً أنه قد مُنع العلماء من التكلم في هذه المسألة الا بشر المريسي و متزعم القول بخلق القرآن الجهم بن صفوان ومن هم على قولهما .. والناس في حذر شديد من أن تظهر منهم ولو كلمة واحدة في ايضاح عقيدة أهل السنة ..
والخوف الآن يسود بغداد فكثير من أهل العلم قد لزم الصمت فلا حول ولا قوة الا بالله خوفاً من السجن والقتل ..
في ظل هذا الوضع .. رأى الامام عبد العزيز أن يقول مقالته في القرآن ويشهرها أمام ملأ من الناس
ويجابه أصحاب تلك المقولة ....
لكن كيف يكون ذلك ؟!
في ظل هذا الوضع ..
رأى الامام عبد العزيز أن يقول مقالته في القرآن ويشهرها أمام ملأ من الناس قبل أن يقبض عليه حتى ان جاءوا لأخذه واقتياده طالب مناظرتهم أمام الناس ..
حتى يصل أمره للخليفة وتقع المناظرة مع من يقول بخلق القرآن ..
( وهنا لا بد للمناظر من أن يناظر الخصوم في مرأى ومشهد من الناس خاصة لمن أظهر بدعته أو كفره حتى يتبين الحق للناس ولا يخفى عليهم .. وقصة الغلام المؤمن .. في قصة أصحاب الأخدود خير شاهد على ذلك)
.. ورأى آن أفضل مكان هو في جامع كبير يصلي فيه أحد الوزراء .. ويكون يوم الجمعة بعد الصلاة ، في جامع الرصافة ببغداد .. وقد أخذ ابنه معه يعينه على هذا الأمر ..
يقول الامام عبد العزيز الكناني :
لما كان في الجمعة التي اعتزمت فيها على إظهار نفسي، وإشهار قولي، واعتقالي ..
صليت الجمعة بالمسجد الجامع بالرصافه من الجانب الشرقي بحيال القبلة والمنبر بأول صف من صفوف العامة . .
فلما سلم الإمام من صلاة الجمعة...
وثبت قائما على رجلي ليراني الناس ويسمعوا كلامي، ولا تخفى عليهم مقالتي، وناديت بأعلى صوتي لأبني . .
وكنت قد أقمت أبني بحيالي عند الأسطوانة الأخرى،
فقلت له بصوت مرتفع : يا أبني ما تقول في القرآن؟
قال: كلام الله غير مخلوق ..
يقول : فلما سمع الناس كلامي، ومسألتي لأبني وجوابه إياه ..
هربوا على وجوههم خارجين من المسجد إلا يسير من الناس خوفاً على أنفسهم ..
يقول : فلم يستتم أبني الجواب حتى أتاني أصحاب السلطان، واحتملوني وأبني فأوقفوني بين يدي عمرو بن مسعدة وهو أحد وزراء المأمون .. وكان قد جاء ليصلي الجمعة ..
.
.
.
يقول الامام عبد العزيز الكناني : فقال لي: عمرو بن مسعدة :
أمجنون أنت؟
قلت: لا.
قال: فموسوس أنت؟
قلت: لا.
قال: أفمعتوه أنت؟
قلت: لا.
أني لصحيح العقل جيد الفهم ثابت المعرفة والحمد الله كثيراً.
قال: فمظلوم أنت؟
قلت: لا.
فقال لأصحابه ورجالته: مروا بهما إلى منزلي .
قال عبد العزيز: فحملنا على أيد الرجال حتى أخرجنا من المسجد ..
ثم جعلوا يتعادون بنا سحباً شديداً وأيدينا في أيد الرجال يمنة ويسرة، وسائر أصحابه خلفنا وقدامنا، حتى صرنا إلى منزل عمرو بن مسعدة على تلك الحال العنيفة الغليظة..
فوقفنا على بابه حتى دخل ، وأمر بنا فأدخلنا عليه وهو جالس في صحن داره على كرسي حديد، ووسادة عليه ..
يقول الامام عبد العزيز الكناني :
فلما صرنا بين يديه، أقبل علي فقال: من أين أنت؟
قلت: من أهل مكة .
فقال: ما حملك على ما فعلت بنفسك؟
قلت: طلب القربة إلى الله عز وجل وطلب الزلفة لديه.
قال: فهلا فعلت ذلك سرا من غير نداء ولا إظهار لمخالفة أمير المؤمنين.. أطال الله بقاءه.
ولكنك أردت الشهرة والرياء والتسوق لتأخذ أموال الناس.
فقلت: ما أردت من هذا شيئا، ولا أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين والمناظرة بين يديه لا غير ذلك .
فقال : أو تفعل ذلك؟
قلت : نعم.
ولذلك قصدت وبلغت بنفسي ما ترى بعد خروجي من بلدي وتغريري بنفسي مع سلوكي البراري أنا وولدي..
رجاء تأدية حق الله عز وجل فيما استودعني من الفهم والعلم وما أخذ علي وعلى العلماء من البيان.
فقال: إن كنت إنما جعلت هذا سببا لغيره إذا وصلت إلى أمير المؤمنين فقد حل دمك بمخالفتك أمير المؤمنين.
فقلت له: إن تكلمت في شيء غير هذا، أو جعلت هذا ذريعة إلى غيره فدمي حلال لأمير المؤمنين.
قال عبد العزيز: فوثب عمرو قائما على رجليه، وقال:
أخرجوه بين يدي إلى أمير المؤمنين.
( ثم ذهب الوزير لقصر الخليفة لاخباره عن أمر المناظرة )
قال: فأخرجت، وركب من الجانب الغربي _ يقصد الوزير _ وأنا بين يديه وولدي .. يُعدي بنا على وجوهنا . .
وأيدينا في أيدي الرجال حتى صار إلى أمير المؤمنين من الجانب الشرقي . .
فدخل وأنا في الدهليز قائم على رجلي . . فأطال عند أمير المؤمنين . .
ثم خرج فقعد في حجرة له، وأمر بي فأدخلت عليه..
فقال لي: قد أخبرت أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بخبرك وما فعلت، وما قلت وما سألت من الجمع بينك وبين مخالفيك من المناظرة بين يديه،
وقد أمر أطال الله بقاءه، بإجابتك إلى ما سألت وجمع المناظرين عن هذه المقالة إلى مجلسة أعلاه الله في يوم الاثنين الأتي وتحضر معهم ليناظروا بين يديه أيده الله.. ويكون هو الحاكم بينكم ..
( موعد المناظرة يوم الاثنين القادم )
ماسيكون حال الشيخ الامام عبد العزيز الكناني بعد ذلك ؟
. بعدما أخبر الوزير الامام عبد العزيز عن موافقة خليفة المسلمين على المناظرة وأعطاهم موعدا وهو يوم الأثنين ويكون الخليفة هو الحكم فيما بينهم ...
يقول الامام عبد العزيز الكناني :
فأكثرت حمد الله على ذلك وشكرته وأظهرت الشكر والدعاء لأمير المؤمنين،
فقال لي عمرو بن مسعدة: أعطنا كفيلا بنفسك حتى تحضر معهم يوم الاثنين وليس بنا حاجة إلى حبسك. .
قلت له : أعزك الله أنا رجل غريب ولست أعرف في هذا البلد أحدا ولا يعرفني من أهله أحد، فمن أين لي من يكفلني..؟!
وخاصة مع إظهار مقالتي.. ولو كان الخلق يعرفوني لتبرؤا مني، وهربوا من قربي وأنكروا معرفتي ..!
قال الوزير : اذن .. نوكل بك من يكون معك حتى يحضرك في ذلك اليوم . . وتنصرف فتصلح من شأنك وتفكر في أمرك فلعلك أن ترجع عن غيك وتتوب من فعلك أن ترجع عن غيك وتتوب من فعلك ..
فيصفح أمير المؤمنين عن جرمك.
فقلت ذلك إليك أعزك الله فأفعل ما رأيت.
قال عبد العزيز: فوكل بي من يكون معي في منزلي وانصرفت.
قال عبد العزيز: فلما كان يوم الاثنين، صليت الغداة في مسجدي الذي كان على باب منزلي.. فلما فرغت من الصلاة إذ بخليفة عمرو بن مسعدة قد جاء ومعه خلق كثير من الفرسان والرجال ..
(محاولة الوزير ثني الامام عبد العزيز المكي عن المناظرة )
يقول : فحملوني مكرما على دابة حتى صاروا بي على باب أمير المؤمنين فأوقفوني حتى جاء عمرو بن مسعدة ..
فدخل فجلس في حجرته التي كان يجلس فيها، ثم أذن لي بالدخول عليه فدخلت.
فلما صرت بين يديه أجلسني ثم قال لي :
أنت مقيم على ما كنت عليه، أو قد رجعت عنه ؟
فقلت: بل مقيم على ما كنت وقد ازددت بتوفيق الله إياي بصيرة في أمري.
فقال لي عمرو:
أيها الرجل قد حملت نفسك على أمر عظيم وبلغت الغآية في مكروهها وتعرضت لما لا قوام لك به، من مخالفة أمير المؤمنين أطال الله بقاه..
وادعيت ما لا يثبت لك به حجة على مخالفيك ولا لأحد غيرك، وليس وراءك بعد الحجة عليك إلا السيف..
فأنظر نفسك وبادر أمرك قبل أن تقع المناظرة، وتظهر عليك الحجة، فلا تنفعك الندامة، ولا تقبل لك معذرة، ولا تقال لك عثرة، فقد رحمتك وأشفقت عليك مما هو نازل بك،
وأنا استقبل أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وأساله الصفح عن جرمك وعظيم ما كان منك، إن أظهرت الرجوع عنه، والندم على ما كان منك، وآخذ لك الأمان منه أيده الله والجائزة..
وإن كانت لك ظلامة أزلتها عنك، وإن كانت لك حاجة قضيتها لك، فإنما جلست رحمة لك مما هو نازل بك بعد ساعة إن أقمت على ما أنت عليه..
ورجوت أن يخلصك الله على يدي من عظيم ما أوقعت بنفسك فيه..
فقلت له :
ما ندمت أعزك الله ولا رجعت، ولا خرجت عن بلدي، وغررت بنفسي إلا في طلب هذا اليوم، وهذا المجلس رجاء أن يبلغني الله ما أؤمل من إقامة الحق فيه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل .
فقام عمرو بن مسعدة على رجليه ،
وقال : قد حرصت في كلامك جهدي، وأنت حريص مجتهد في سفك دمك وقتل نفسك ،،
فقلت له:
معونة الله أعظم، والله عز وجل ألطف من أن يسلمني ويكلني إلى نفسي، وعدل أمير المؤمنين أطال الله بقاه أوسع من أن يقصر عني، وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
الساعات الرهيبة قبل المناظرة
ثم أُمر بعبد العزيز بالدخول للقصر .. ولكن سيكون دخوله عبر مراحل ..
حيث سيدخل عدة دهاليز .. أو صالات فيها من الجمع من وجهاء وأمراء وحرس العدد الكبير وذلك لإدخال الرعب والخوف في قلبه ..
يقول الاما عبد العزيز : وأمر بي فأخرجت إلى الدهليز الأول، ومعي جماعة موكلون بي، وكان قد تقدم إلى سائر بني هاشم ممن يحضر مجلس أمير المؤمنين أطال الله بقاه، أن يركبوا ووجه إلى الفقهاء والقضاة والموافقين لهم على مذهبهم.
وسائر المتكلمين، والمناظرين أن يحضروا دار أمير المؤمنين، فأمر القواد والأمراء أن يركبوا في السلاح كل ذلك ليرهبوني بهم..
ومنع الناس من الانصراف إلى أن ينقضي المجلس، فلما اجتمع الناس وتأهبوا ولم يتخلف منهم أحد ممن يعرفون بالكلام والجدال، أذن لي في الدخول ..
فلم أزل أنقل من دهليز إلى دهليز حتى صرت إلى الحاجب (صاحب) الستر الذي على باب الصحن.. ( وهي قاعة المناظرة الكبرى ومكان جلوس الخليفة )
فلما رآني أمر بي فأدخلت إلى حجرته، ودخل معي فقال لي:
إن احتجت إلى أن تجدد طهرا فافعل..
فقلت: لا حاجة لي بذلك..
فقال: صل ركعتين قبل دخولك، فصليت أربع ركعات ودعوت الله وتضرعت إليه..
من أسباب التثبيت للامام عبد العزيز
يقول : فلما فرغت..من الصلاة ..
أمر (أي الحاجب وهوبمثابة رئيس الحرس الخاص ) من كان بحجرته فخرج من الحجرة ثم تقدم إلي ..
فقال لي وهو يسارني : يا هذا إن أمير المؤمنين بشر مثلك رجل من ولد آدم ، وكذلك كل من يناظرك بحضرته فهو بشر مثلك، فلا تتهيبهم ،
واجمع فهمك وعقلك لمناظرتهم، وإياك والجزع، واعلم علما يقينا أنه إن ظهرت حجتك عليهم انكسروا وانقطع كلامهم عنك، وأذللتهم وغلبتهم ولم يقدروا على ضر ولا مكروه ..
وصار أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وسائر الأولياء والرعية معك عليهم..
وإن ظهرت حجتهم عليك أذلوك وقتلوك وأشهروك وجعلوك للخلق عبرة..
فأجمع همتك ومعرفتك ولا تدع شيئا مما تحسنه وتحتاج إليه أن تتكلم به خوفا من أمير المؤمنين أو من أحد غيره وتوكل على الله واستخر الله ، وقم فادخل.
فقلت له: جزاك الله خيرا فقد أديت النصيحة وسكنت الروعة وآنست الوحشة، وخرج، وخرجت معه إلى باب الصحن.
قال عبد العزيز:
فشال الستر، وأخذ الرجال بيدي وعضدي وجعل أقوام يتعادون بي، وأيديهم في ظهري وعلى عنقي..
فجعلت أسمع أمير المؤمنين وهو يقول: خلو عنه خلو عنه..
وكثر الضجيج من الحجاب والأولياء بمثل ذلك، فخلي عني وقد كاد عقلي أن يتغير من شدة الجزع وعظيم ما رأيت من ذلك الصحن ...
( تخيل الموقف رجل وحيد وغريب يدخل الى مناظرة مع سادة القوم وكبراءهم ..ومع من ؟ من معه السلطة والقوة المادية .. وقد توافدوا بالمئات وبحضرة خليفة المسلمين فإن انهزم أمامهم سيكون السيف والتنكيل له ولأهل السنة ،، وأعظم من ذلك ضياع الحق واندراسه .. فكيف سيكون حاله ؟! )
.
.
. يقول الامام عبد العزيز :
وكثر الضجيج من الحجاب والأولياء بمثل ذلك، فخلي عني وقد كاد عقلي أن يتغير من شدة الجزع وعظيم ما رأيت من ذلك الصحن ..
من السلاح والرجال، وقد انبسطت الشمس عليهم، وملأ الصحن صفوفا، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين، ما رأيتها قبل ذلك ولا دخلتها..
فلما صرت على باب الإيوان..
وقفت هناك فسمعته يقول (أي الخليفة ) : قربوه قربوه ،
فلما دخلت من باب الإيوان وقعت عيني عليه..
وقبل ذلك لم أتبينه ( أي لم ير صورة الخليفة بوضوح عند دخوله ) لما كان على باب الإيوان من الحجاب والقواد..
فقلت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال : أدن مني ، فدنوت منه ،
ثم قال: أدن مني زاده تكرارا، وأنا أدنو منه خطوة .. خطوة ..
حتى صرت في الموضع الذي يجلس فيه المناظرون، ويسمع كلامهم، والحاجب معي يقدمني..
فلما انتهيت إلى الموضع..
قال لي المأمون: أجلس فجلست.
قال الامام عبد العزيز:
فسمعت رجلا من جلسائه يقول وقد دخلت من الإيوان : يا أمير المؤمنين يكفيك من كلام هذا قبح وجهه.. لا والله ما أريت خلق الله قط أقبح وجها منه..
فسمعته يقول هذا وفهمت كلامه كله ورأيت شخصه على ما بي من الروعة والجزع والخوف..
وجعل ينظر إلي ( يقصد الخليفة ) وأنا ارتعد وانتفض.. فأحب أن يؤنسني وأن يسكن عني ما قد لحقني وأن ينشطني..
فجعل يكثر كلام جلسائه ويكلم خليفته عمرو بن مسعدة، ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج أن يتكلم بها يريد بذلك كله إيناسي..
وجعل يطيل النظر إلى الإيوان، ويدير طرفه فيه، فوقعت عينه على موضع من نقش الجص قد انتفخ..
فقال : يا عمرو أما ترى هذا الذي قد انتفخ من هذا النقش..؟ وسيقع فبادره في يومنا هذا.. (أي قم بإصلاحه)
فقال عمرو : قطع الله يد صانعه، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا.
قال عبد العزيز: ثم أقبل علي المأمون فقال لي :
الاسم ؟
فقلت: عبد العزيز.
فقال لي : ابن من ؟
فقلت: ابن يحيى
قال: ابن من؟
قلت: ابن ميمون الكناني.
قال: وأنت من كنانه ؟
قلت: نعم، يا أمير المؤمنين.. فتركني ولم يكلمني هنيهة، ثم أقبل علي
فقال : من أين الرجل ؟
قلت: من الحجاز.
قال: من أي الحجاز ؟
قلت: من مكة.
قال: ومن تعرف من أهلها ؟
قلت: يا أمير المؤمنين كل من بها من أهلها أعرفه إلا رجلا ضوى إليها وجاور بها من الغرباء فإني لا أعرفه..
قال: فهل تعرف فلانا، هل تعرف فلانا ؟
حتى عد جماعة من بني هاشم كلهم أعرفهم حق معرفتهم ..
فجعلت أقول: نعم أعرفه.. وسألني عن أولادهم وأنسابهم فأخبره..
من غير حاجة به إلى شي من ذلك، ولا مما تقدم من مسألتي وإنما يريد به إيناسي وبسطي للكلام.. وتسكين روعتي وجزعي..
فقوى بها ظهري، واشتد بها قلبي، واجتمع بها فهمي، وعلا بها جدي، وانشرح بها صدري، وانطلق بها لساني ..
ورجوت بها النصر على عدوي.
قال عبد العزيز :
فأقبل علي المأمون فقال : يا عبد العزيز ..
إنه اتصل بي ما كان منك في قيامك في المسجد الجامع،
وقولك إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبحضرة الخلق على رؤوس الأشهاد، ومسألتك بعد ذلك الجمع بينك وبين مناظريك على هذه المقالة بحضرتي وفي مجلسي، والاستماع منك ومنهم، وقد جمعتك والمخالفين لك لتتناظروا بين يدي..
وأكون أنا الحكم فيما بينكم فإن تكن لك الحجة والحق معك تبعناك، وإن تكن لهم الحجة عليك والحق معهم عاقبناك . .
. بدأ المناظرة بين الامام عبدالعزيز المكي وبشر المريسي
ثم أقبل المأمون على بشر المريسي فقال :
يا بشر قم إلى عبد العزيز فناظره وأنصفه.
قال عبد العزيز: فوثب إلي بشر من موضعه الذي كان فيه كالأسد يثب إلى فريسته..
فجاء فانحط علي، فوضع فخذه الأيسر على فخذي الأيمن، فكاد أن يحطمها..
واعتمد علي بقوته كلها. فقلت له: مهلا فإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه لم يأمرك بقتلي ولا بظلمي..!
وإنما أمرك بمناظرتي وإنصافي..
فصاح به المأمون تنح عنه، وكرر ذلك عليه حتى باعده مني.
( وهذا ليخيفوا الامام عبد العزيز ويرجع عن المناظرة .. ولتعلم كيف هؤلاء تجرأوا في مجلس الخليفة )
قال عبد العزيز: ثم أقبل علي المأمون
فقال: يا عبد العزيز ناظره على ما تريد واحتج عليه ، ويحتج عليك، وسله ويسألك، وتناصفا في كلامكما ، وتحفظا ألفاظكما ، فإني مستمع ..لكما ومتحفظ ألفاظكما.
قال عبد العزيز: فقلت السمع والطاعة يا أمير المؤمنين..
ولكني أقول شيئا فإن رأى أمير المؤمنين أبقاه الله أن يأذن لي في ذلك فعلت. ( يريد أن يقول كلاما قبل بدأ المناظرة )
فقال: قل ما تريد.
فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إني رجل عربي، وفي كلامي دقة، ولم يسمع أمير المؤمنين أطال الله بقاءه من كلامي شيئا قبل هذا الوقت،
فجليل كلامي في سمع أمير المؤمنين دقيق ، ( أي أن صوته خافت وهو يريد اعلام الخليفة بذلك حتى ينتبه الخليفة لكلامه ولا يغيب عنه شيء )
وبشر يا أمير المؤمنين كثير سماع أمير المؤمنين دقيق كلامه، فصار في سمع أمير المؤمنين جليلا ( أي آن كلامه يعرفه الخليفة ولا يحتاج الى أن يصغي اليه )،
فإن رأى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه أن يأذن لي فأقدّم شيئا من كلامي هذا المجلس..
ليقيس ما يدق بعده من كلامي على ما تقدم، ويعرف مذهبي في كلامي، ثم يجمعني ومن أحب لمناظرتي بعد هذا في أي وقت شاء.
قال المأمون: أنا مشغول عن هذا بما يلزمني من أمر المسلمين، وإنما جمعتك ومخالفيك لما أظهرت من مخالفتك إياهم وذمك لمذهبهم، وادعائك الرد عليهم. ومسألتك الجمع (بينك) وبينهم ..
ولست أجمعك وإياهم بعد هذا المجلس إلا عن مناظرة تجري بينك وبينهم فتحتاجون إلى عودة لاستتمام ما بقي عليكما من المناظرة فأجمعكما لذلك..
"وهنا كأن الخوف والهلع دب في قلب الامام عبدالعزيز وأراد الرجوع لكن .. حاسب نفسه وعاتبها على ذلك فقال :"
فقلت في نفسي، هذا الذي سألت الله عز وجل أن يبلغنيه وعاهدته لأن بلغنيه لأقومن بحقه ولأذبن عن دينه بما يلهمني بتوفيقه صابرا محتسبا وإن عرضت على السيف والقتل ..
حتى إذا بلغني الله ما أملته وأعطاني ما سألته، وأيدني بالمعونة، وكفاني المؤونة وعطف قلوب عباده علي، وصرف عني ما كنت أحاذر من سوء بادرة تكون قبل قيامي بحق الله تعالى، أأنقض عهده ؟ وأخلف وعده، وأكفر نعمه، فيسخط علي ويخذلني ويكلني إلى نفسي..
والله والله لا فعلت ولو تلفت نفسي..
.
. قبل بدأ المناظرة كلام جميل من الامام عبدالعزيز على من استهزأ بخلقته وسخر منه ..
قال الامام عبد العزيز:
فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم بشي قد شغل قلبي قبل مناظرتي لبشر.
فقال لي : تكلم بما شئت فقد أذنت لك.
فقلت: أسألك بالله يا أمير المؤمنين من بلغك إنه كان أجمل ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -. فأطرق مليا..
ثم رفع رأسه فقال: يوسف عليه السلام.
فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين- فوالله ما أعطي يوسف على حسن وجهه بعرتين ..
ولقد سجن وضيق عليه من أجل حسن وجهه بعد أن وقف على براءته بالشاهد الذي أنطقه الله عز ول بتصديقه وبيان قوله وبعد إقرار امرأة العزيز إنها هي راودته عن نفسه فاستعصم فحبس بعد ذلك كله لحسن وجهه، قال الله تعالى : { ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى
حِينٍ}..
فدل بقوله عز وجل أنه سجن بغير ذنب لعله حسن وجهه وليغيبوه عنها وعن غيرها،
فطال في السجن حبسه حتى إذا عبر الرؤيا ووقف الملك على علمه ومعرفته اشتاق إليه ، ورغب في صحبته فقال عز وجل: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} ..
فكان هذا القول من الملك عندما وقف عليه من علم يوسف ومعرفته قبل أني يسمع كلامه، فلما دخل عليه وسمع كلامه وحسن عبارته صيره على خافي خزائن الأرض..
وفوض إليه الأمور كلها وتبرأ منها وصار كأنه من تحت يده، فكان هذا الذي بلغه يوسف عليه السلام بكلامه وعلمه لا بجماله، قال عز وجل :
{فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ولم يقل أني حسن جميل، قال الله عز وجل:
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}
فوالله يا أمير المؤمنين ما أبالي إن وجهي أقبح مما هو، وإني أحسن من الفهم والعلم أكثر مما أحسن.
قال عبد العزيز:
فقال لي المأمون وأي شي أردت بهذا القول، وما الذي دعاك إلى ذكر هذا؟
فقلت سمعت بعض من هاهنا يقول لأمير المؤمنين:
يكفيك من كلامه قبح وجهه.. فما يضرني قبح وجهي مع ما رزقني الله عز وجل من فهم كتابه، والعلم بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه..
( والقصد من ذلك أن العلم والنبوة هو ما رفع يوسف عليه السلام وليس حسن الوجه والجمال.. )
ثم قلت: يا أمير المؤمنين ..
أطال الله بقاءه فقد رأيتك تنظر إلى هذا النفش وانتفاخ الجص وتذكره، وسمعت عمرا ( يقصد وزيرالخليفة) يعيب ذلك ويدعو على صانعه، ولا يعيب الجص .. ولا يدعو عليه..
فقال المأمون: العيب لا يقع على الشيء المصنوع، وإنما يقع العيب على الصانع.
قال: قلت: صدقت يا أمير المؤمنين، ولكن هذا يعيب ربي لم خلقني قبيحا ؟!
فازداد الخليفة تبسما حتى ظهرت (ثناياه).
قال عبد العزيز:
فأقبل علي المأمون وقال: يا عبد العزيز: ناظر صاحبك فقد طال المجلس بغير مناظرة..
.
.
وهنا لاحظ الجميع ومنهم الخليفة .. أن من يناظرون ليس رجلاً عادياً .. وأنه قد أوتي علماً وجدلاً ..
. (تحديد مرجع وأصل يرجع له المتناظران عند الخلاف)
فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك ،
كل متناظرين على غير أصل يكون بينهما يرجعان إليه إذا اختلفا في شي من الفروع، فهما كالسائر على غير الطريق، لا يعرف الحجة فيتبعها ويسلكها وهو لا يعرف الموضع الذي يريد فيقصده..
ولا يدري من أين جاء فيرجع يطلب الطريق فهو على ضلال أبدا..
ولكننا نؤصل بيننا أصلا، فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه فيه وإلا رمينا به ولم نلتفت إليه.
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون:
نعمَ ما قلت، فاذكر الأصل الذي تريد أن يكون بينكما.. ويذكر أيضا هو مثله حتى تتفقا على الأصل فتؤصلاه بينكما.
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك،
أو أصل بيني وبينه ما أمرنا الله به واختاره لنا وأدبنا به وعلمنا ودلنا عليه عند التنازع والاختلاف، ولم يكلنا إلى أنفسنا ولا إلى اختيارنا ؟
فقال المأمون: وذلك موجود عن الله عز وجل ؟!
قلت: نعم يا أمير المؤمنين قال الله تعالى : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
( يقصد القرآن الكريم وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام )
وهذا تعليم الله عز وجل وتأديبه واختياره لعباده المؤمنين وهو خير وأحسن ما أصله المتنازعون بينهم،
وقد تنازعت أنا وبشر يا أمير المؤمنين فنحن نؤصل بيننا كتاب الله عز وجل وسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما أمرنا فإن اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى كتاب الله عز وجل، فإن وجدناه فيه وإلا رددناه إلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن وجدناه فيها وإلا ضربنا به الحائط ولم نلتفت إليه.
فقال بشر: وأين أمرنا الله أن نرد ما اختلفنا فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم ؟!
قلت: كأنك لم تسمع ما جرى وما ابتدأت به، قال الله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
قال بشر: فإنما أمر الله أن يرد إليه وإلى الرسول، ولم يأمرنا أن نرده إلى كتابه العزيز وإلى سنة نبيه عليه السلام.
قال عبد العزيز:
هذا مالا خلاف فيه بين المؤمنين وأهل العلم إن رددناه إلى الله فهو إلى كتاب الله، وإن رددناه إلى رسوله بعد وفاته رددناه إلى سنته، وإنما يشك في هذا الملحدون، وقد روى هذا بهذا اللفظ عن ابن عباس وعن جماعة من الأئمة الذين أخذ العلم عنهم رحمة الله عليهم.
قال عبد العزيز:
فقال لي المأمون: فافعلا وأصلا بينكما يا عبد العزيز أصلا واتفقا عليه وأنا الشاهد بينكما إن شاء الله تعالى.
قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين: إنه من ألحد في كتاب الله عز وجل جاحدا أو زائدا لم يناظر بالتأويل، ولا بالتفسير، ولا بالحديث.
تنبيه :
(يقصد الامام عبد العزيز آن بشرا قد ألحد في كتاب الله أي بقوله أن القرآن مخلوق .. فلا يناظر بالتفسير ولا بالحديث ..)
فقال المأمون: وبأي شي تناظره ؟
قلت: بنص التنزيل كما قال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}
وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}
وقال حين أدعت اليهود تحريم أشياء لم تحرم عليهم:
{قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام:
{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}.
فإنما أمر الله نبيه بالتلاوة، ولم يأمره بالتأويل، وإنما يكون التأويل لمن أقر بالتنزيل، وإما من الحد في التنزيل فكيف يناظر بتأويله.
فقال لي المأمون: أويخالفك في التنزيل ؟
قلت: نعم ليخالفني، أو ليدع قوله ومذهبه ويوافقني.
قال عبد العزيز: ثم أقبلت على بشر فقلت:
يا بشر ما حجتك أن القرآن مخلوق؟
وانظر إلى أحد سهم في كنانتك فارمني به، ولا تحتاج إلى معاودتي بغيره.
فقال بشر : تقول القرآن شيء أم غير شيء؟
فإن قلت إنه شيء أقررت إنه مخلوق إذ كانت الأشياء مخلوقة بنص التنزيل ( يقصد في قوله تعالى { والله خالق كل شيء}) ..
وإن قلت إنه ليس بشيء فقد كفرت لأنك تزعم أنه ( أي القرآن ) حجة الله على خلقه وإن حجة الله ليس بشيء.
قال عبد العزيز:
فقلت لبشر ما رأيت أعجب من هذا تسألني وتجيب نفسك عني وتكفرني ولم تسمع كلامي ولا قولي فإن كنت سألت لأجيبنك، فاسمع مني فأني أحسن أن أجيب عن نفسي واحتج عن مقالتي ومذهبي، وأن كنت إنما تريد أن تخطئني وتتكلم لتدهشني وتنسيني حجتي فلن أزداد بتوفيق الله إياي إلا بصيرة وفهما، وما أحسبك إلا وقد تعلمت شيئا أو سمعت قائلا يقول هذه المقالة التي قلتها أو قرأتها في كتاب فأنت تكره أن تقطعها حتى تأتي على آخرها...
قال عبد العزيز: فأقبل المأمون ( على بشر) فقال:
صدق عبد العزيز، اسمع منه جوابه ورد عليه بعد ذلك بما شئت من الكلام..
ثم قال لي: تكلم يا عبد العزيز وأجب عما سألك عنه.
قال عبد العزيز: سألت عن القرآن أهو شيء أم غير شيء، فإن كنت تريد هو شيء إثباتا للوجود ونفيا للعدم.. فهو شيء..
وإن كنت تريد أن الشيء اسم له و أنه كالأشياء فلا . ( يقصد أنه موجود ليس عدماً ولكنه ليس كالأشياء )
فقال بشر: ما أدري ما تقول ولا أفهمه ولا أعقله ولا أسمعه، ولا بد من جواب يفهم ويعقل أنه شيء يعقل أو غير شيء.؟
( وهنا بشر المريسي يريد من الامام عبد العزيز جواباً هو يريده حتى يحجه به ، فسؤاله يحتمل اجابات متعددة وليس جواباً واحداً لذلك غضب بشر المريسي من جواب الامام عبد العزيز فهو يريد آن يقول الامام عبد العزيز أن القرآن شيء ويقف بدون تفصيل حتى يحجه بقول الله تعالى { والله خالق كل شيء } ولكن عبد العزيز يعرف ما يريده بشر من جوابه)
قال عبد العزيز: صدقت إنك لا تفهم ولا تعقل ولا تسمع ما أقول ولقد وصفت نفسك بأقبح الصفات، واخترت لها أذم الاختيارات،
ولقد ذم الله عز وجل في كتابه من قال مثل ما قلت: أو كان بمثل ما وصفت به نفسك، فقال الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}
وقال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أ وْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}..
ولقد امتدح الله عز وجل في كتابه بحسن الاستماع وأثنى عليهم أحسن الثناء فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ}
وقال عز وجل: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}
تنبيه :
وهذا مأخذ على بشر المريسي في جوابه على الامام عبد العزيز في قوله : لا أفهم .. لا أعقل .. لا أسمع .. أي أنه معرض عن جواب الامام عبد العزيز الكناني .. فاستغل الفرصة الامام و استدل بالقرآن على ذم ما قاله بشر عن نفسه .. وهذا الفرق بين أهل السنة وغيرهم في أنهم أكثر الناس تعلقاً بالقرآن وهم أفضل من يستشهد بالقرآن في مواطن النزاع والخصام .. فالقرآن حجة الله على خلقه .. ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
...
قال عبد العزيز:
قال المأمون: دع هذا يا عبد العزيز وارجع إلى ما كنت فيه، وبين ما كنت فيه، واشرحه، واحتج لنفسك
فقلت: يا أمير المؤمنين:
إن الله عز وجل أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه إذ كان كلامه من صفاته فلم يتسمَ بالشيء ..
ولم يجعل الشيء من أسمائه ولكنه دل على نفسه أنه شيء وأكبر الأشياء إثباتا للوجود ونفيا للعدم
( وهذا رد على بشر المريسي ... في اطلاقه على القرآن أنه شيء وهو بالتالي يكون مخلوق ...
فالله سبحانه وتعالى شيء .. فلو أنكر بشر أنه شيئ لكفر .. ولكنه شيء ليس كالأشياء سبحانه وتعالى .. والله هو الخالق وليس بمخلوق)
فقال تعالى عن نفسه
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فدل على نفسه أنه شيء ليست كالأشياء
و قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ َهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}
فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة بهذا الخبر تكذيبا لمن ألحد في كتابه، وافترى عليه، وشبهه بخلقه..
ولم يسمي الله تعالى نفسه شيئاً فقد تعددت أسماء الله تعالي في كتابه ولم يذكر منها أنه شيئ . .
( ويقصد بأن القول في كلام الله تعالى وهو القرآن الكريم كالقول في ذات الله تعالى بأنه شيء ومع ذلك لا بقال أن الله مخلوق لأنه شيء .. تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً ..)
فالاحتجاج بالآية باطل لايصح .. وقد ذكر الامام عبد العزيز شواهد كثيرة من القرآن بأن الشيئ تطلق في القرآن ويقصد به الموجود وليس المخلوق ..
ثم ذكر الامام عبد العزيز آية من كتاب الله نسفت احتجاج بشر الفاسد بآية {والله خالق كل شيء }..أي القرآن يدخل في العموم فهو اذن مخلوق ..
قال عبد العزيز :
قال الله تعالي { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} يعني الريح التي أرسلت على عاد،
فهل أبقت الريح يا بشر شيئا لم تدمره ؟
قال: لا لم يبق شيء إلا دمرته ..
وقد دمرت كل شيء كما أخبر الله تعالى لأنه لم يبق شيء إلا وقد دخل في هذه اللفظة.
قال الامام وقلت: قد أكذب الله من قال هذا
بقوله: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاّ مَسَاكِنُهُمْ} فأخبر عنهم أن مساكنهم كانت باقية بعد تدميرهم، ومساكنهم أشياء كثيرة.
أي لماذا لم تدخل في العموم { تدمر كل شيء }؟!
وقال عز وجل: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} وقد أتت الريح على الأرض والجبال والمساكن والشجر وغير ذلك فلم يصر شيئا منها كالرميم..
واحتج الامام أيضاً بقوله تعالى عن ملكة سبأ بلقيس" :
قال عز وجل: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} يعني بلقيس،
ثم قال ... فكأن بقولك يا بشر يجب أن لا يبقى شيء يقع عليه اسم الشيء إلا دخل في هذه اللفظة قد أوتيته بلقيس!
ولكن قد بقي ملك سليمان وهو مائة ألف ضعف مما أوتيته بلقيس ..
فملكة سبأ "لم تؤتى من كل شيء بمعنى العموم المطلق .. فالله سبحانه وتعالى قال لعباده :
{ وما أوتيتم من العلم الا قليلاً } فبلقيس لم تؤتى الا شيئاً قليلاً .. وقليل جداً مما هو عند الله تعالى ..
هنا اتقطع بشر عن الاجابة واضطرب وحاد عن الجواب .. واندحضت حجته ..
منقول للفائدة العامة