راية كنانة
08-20-2010, 03:55 AM
سيرة الامام الشافعي المطلبي القرشي الكناني المضري رضى الله عنه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وسار على هديه إلى يوم الدين أما بعد: الإمام الشافعي أحد أئمة الدنيا فضلاً وعلمًا ودينًا، انتفع المسلمون بعلمه واجتهاده منذ اثني عشر قرنًا ولا يزالون، وعرفه أئمة الإسلام في زمانه، فشهدوا أنهم ما رأوا له مثيلاً، وما عرفوا – في عصره وما بعده- أعظم منة الإسلام منه، وشهد المحدثون خاصة بفضله، فلقبوه (ناصر السنة) ، كما أن فضائله كثير، وحياته قصيرة من أروع ما سطر التاريخ من سير الرجال، وفي هذا التقرير ذكر الإمام من ولادة حتى الوفاة ، وبعض جانب شخصية الشافعي كعقله ودينه وحكمه وتجاربه ، وسيرة الواضحة، والرائعة.
نسب الإمام الشافعي:
هو الإمام أبو عبدالله بن إدريس بن العباس بن عفان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي الكناني المضري ، يكنى بأبي عبدالله، ولكنه اشتهر باسمه أكثر مما اشتهر بكنيته، خلافا لما اشتهر به الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
وعليه فالإمام الشافعي يلتقي في النسب مع سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في عبد مناف بن قصي، وفيما يلي ترجمة موجزة لأبيه و أجداده إلى عبد مناف:
والده إدريس بن العباس، و لم تنقل عنه كتب ااتراجم شيئا كثيرا، سوى أنه يقيم في المدينة المنورة فظهر فيها بعض ما يكرهه فخرج إلى عسقلان، فأقام بها ومات فيها بعد مولد إمامنا الشافعي بقليل، هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر العسكلاني في توالي التأسيس و لم أجد عند غيره ممن ترجم للإمام الشافعي شيئا أزيد على ذلك.
أما جده العباس بن عثمان فلم أجد شيئا في ترجمته فيما اطلعت عليه.
وأما جده عثمان بن شافع فقد عاش الى خلافة أبي العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين (132هجري-136هجري) وقد قام في وجهه لما أراد إخرج بني المطلب من الخمس الوارد في قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شيئ فأن لله خمسهو للرسول ...) (الأنفاق 41)، وإفراده لبن هاشم، فحمله على إبقائه كما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هذا مانقله الحافظ ابن حجر عن الخطيب البغدادي، والآبري وغيرهما، ولم يورد نقدا أو تضعيفا لهذه الحادثة و هي إن صحت فإنما تدل على قرشية نسب ذرية عثمان بن شافع، وأن هذا النسب كان مشتهراً. أما جد جده شافع بن السائب الذي تنسب إليه بنتسب إمامنا فهو صحابي على مانقله جمهور علماء التراجم والسير.(1)
وأقول هنا لعل من الاسباب التي لأجلها نُسبت ذرية عثمان بن شافع ومنهم إمامنا إلى ضافع وليس الى غيره فلم يقل السائبي أو العثماني أو الادريسي هي كونه أول صحابي من أجداد الشافعي، وأيضا ما أثاره بعض متعصبي الحنفية والمالكية ممن لا علم لهم بالأنساب، وإن كان قولهم متأخرا على عصر الإمام الشافعي بزعمهم أن شافعاً كان مولى لأبي لهب عم النبي _ص_ فطلب من عمر _رضي الله عنه_ أن يجعله من موالي قريش فامتهع فطلب من عثمان بن عفان _رضي الله عنه_ ذلك ففعل، وعليه فذرية شافع بن السائب من الموالي لا من قريش، وقد أطال الفخر الرازي فى الرد على هذا الزعم وتسفيه قائليه بما لايدع محالا للشك فى قريشية شافع بن السائب _رضي الله عنه_
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) د.محمد إبراهيم الفيومي ، الشافعي الامام الأديب، الدار المصرية اللبنانية ، الطبعة الأولى، ص19
وأحسن الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله فى تحقيقه لكتاب الانتقاء فى مناقب الأئمة الثلاثة الفقهاء لما وصف هذا الزعم بقوله: "...... والتعويل عليه من بعض الحنفية والمالكية تعصب بارد، ولهم أن يناقشوه _أي الامام الشافعي _ فى عمله لا فى نسبه. هذا ولشافع أخ اسمه عبدالله بن السائب كان واليا على مكة فى زمنه وهو صحابي أيضا، هذا ما أخرجه الحافظ أبوبكر البيهقي بسنده الى مسلم بي الحجاج صاحب الصحيح بقوله: عبدالله بن السائب والي مكة صحابي، الصحيح حديثه، وهو أخ الشافع بن السائب جد محمد بن إدريس وكذا نقل الفخر الرازي مثله عن الامام البخاري صاحب الصحيح وغيره، وهو مانقله أيضا ابن حجر عن الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك، ولعل ولاية أخيه على مكة المكرمة من القرائن المثبتة لقرشيته، إذ الغالب فى مثل هذه الولاية فى ذاك الزمان أن تكون لقرشي مشهور النسب. ولم يعتبر الحافظ أبوبكر البيهقي زعم بعض المتعصبين من الحنفية والملكية ذاك بشيئ، فقال فى ترجمته للامام الشافعي: فنسب الشافعي فى قريش واشتهاره بالمطلبي عند الخلفاء والعلماء والشعراء أشهر من ضوء النهار عند المبصر، ثم جاء بعده الامام ابو زكريا النووي ولم يعتبر زعمهم بخلاف أصلا، وهو المحقق والمدقق، فقال ترجمته للامام الشافعي: هو قرشي مطلبي باجماع أهل النقل، وأمه أزدية.(2)
زمان ولادة الإمام الشافعي ومكانها:
لقد اتفقت كتب السير والتراجم على أن مولد الامام الشافعي كان فى سنة 150 هجرية ووردت بعض الروايات المتكلفة بأن الامام الشافعي ولد يوم مات الامام أبوحنفية النعمان، وقد ود الحافظ أبو بكر البيهقي على ذلك بقوله: وهذا التقييد باليوم لم أجده فى سائر الروايات، فأما بالعام فإنه عام واحد فيما بين أهل التواريخ.
ولم يرتض الحافظ ابن حجر تضعيف أسانيد تلك الروايات، لكنه حاول التوفيق بينها بقوله ...... لكن هذا اللفظ يقبل التأويل فانهم يطلقون اليوم ويريدون مطلق الزمان.
أما مكان مولده فقد وردت روايات بأنه ولد فى مدينة غزه على ساحل فلسطين على البحر المتوسط، وهو قول الاكثرين، وأخري بأنه ولد فى عسقلان الواقعة شمال غزة، وأخرى بأنه ولد فى اليمن، وهي رواية ضعيفة، أخرج أحد طرقها ابن أبي حاتم فى كتابه آداب الشافعي ومناقبه، وقد نقل الحافظ ابن حجر تخطئه الامام الذهبي لهذه الرواية موافقا له على ذلك فقال:... قال الحافظ شمس الدين الذهبي شيخ شيوخنا: هذا القول غلط الا أن يريد باليمن القبيلة. ويمكن الجمع بين روايات جده وعسقلان بأوجه عدة، أحسن الحافظ ابن حجر فى عرضه بقوله:... عسقلان هي الاصل فى قديم الزمان وهي وغزة متقاربتان، وعسقلان هي المدينة،(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
(2)د.أكرم يوسف عمر القاسمي، مذهب الامام الشافعي، دار النفساء، الأردن،الطبعة الأولى، ص34
(3) د.أكرم يوسف عمر القاسمي، مذهب الامام الشافعي،ص42
فحيث قال الشافعي غزة أراد القرية وحيث قال عسقلان أراد المدينة، وجمع بين الروايات أيضا برواية أخري نقلها عن الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك الذي أخرجها بسنده الامام الشافعي يقول: ولدت بغزه وحملتني أمي الى عسقلان، وهي الرواية التي قدمها الحافظ أبو بكر البيهقي على غيرها، ولا ضير من حصول هذا الاختلاف الذي يبدو انه قديم، لما أخرجه الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده الي تلميذ الشافعي: الربيع بن سليمان المرادي قوله: مولد الشافعي رضي الله عنه بغز ة أو عسقلان لذلك قال الحافظ ابن حجر لما ذكره الرواية: وقد كان الربيع ين سليمان صاحب الشافعي يتردد في ذلك، وقد تعددت الروايات وكثرت
في أن أم الامام الشافعي حملته بعد مولده بسنتين إلى مكة، وكان أبوه إدريس بن العباس قد مات بعد مولده بقليل فى عسقلان كما سبق بيانه فى ترجمته، هذا ما ارتضاه أكثر علماء السير والتراجم. أي أن الامام الشافعي وصل مكة طفلا رضيعا سنة 152 هجرية.
(4) تحصيله وطلبه للعلم:
كانت أمه قد وجهته لإتقان القراءة و التلاوة والتفسير على شيوخ المسجد الحرام و لم يكد يبلغ
(13) من عمره حتى أتقن ذلك إتقانًا جيدا ملفتا للنظر. ثم اتجه الشافعي الى علم الحديث فلزم حلقة سفيان بن عيينة و مسلم بن خالد الزنجي في المسجد الحرام. وكان الورق غالي الثمن باهظ التكاليف و الشافعي و أمه في قلة و فقر فكيف يفعل في التدوين؟ يروى أنه يلتقط العظام العريضة فيكتب عليها أو يذهب الى الديوان فيجمع الأوراق المهمله التي يلقى بها فيستوهبها و يكتب على ظهرها. هذه المعانى وفقته الى أن يعتمد على الحفظ فتكونت لديه حافظة قوية ساعدته مستقبلا على حفظ كل ما يسمع و ما يلقى إليه من علم و معرفة.
وبذكائه و ملاحظته أدرك الشافعي أن لغة قريش قد دخلتها ألفاظ غريبة و لم يعد لسانها هو اللسان العربي السليم في فصاحته وبيانه، وعلم أنه لا يستطيع أن يجيد علوم القرآن و الحديث و استخراج الأحكام من النصوص إلا إذا أتقن اللغة العربية الصحيحة. كان يحضر في المسجد الحرام دروس إمام مصر الليث بن سعد حين يأتي حاجاً أو معتمراً و كان يوصي مستمعيه أن يتقنوا اللغة و أسرارها وأن يتعلموا خاصة كلام هذيل وهم قبيلة في البادية،(5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) د.أكرم يوسف عمر القاسمي، مذهب الامام الشافعي،ص42
وأن يحفظوا أشعارهم لأن هذيل أفصح العرب. انطلق الشافعي إلى مضارب هذه القبيلة فأقام في ظهرانيهم ولازمهم عشرة أعوام عكف خلالها على دراسة اللغة و أدابها وحفظ الشعر كما تعلم الرماية والفروسية وبرع فيهما.
وروى الشافعي عن نفسه فقال: "كانت همتي في شيئين، في الرمي والعلم فصرت في الرمي أصيب عشرة من عشرة ". وسكت في موضوع العلم تواضعاً علماً أنه في العلم أكثر من ذلك. علدة إلى مكة يحمل ثروة هائلة من شعر وأدب العرب حتى قال الأصمعي - رواية العرب المشهور- "صححت أشعار الهذليين على فتى من قريش يقال له محمد ابن إدريس". وأصبح الشافعي حجة عصره في اللغة. وعاد إلى مكة ليتعلم من علمائها من أتباع عبدالله بن عباس وجعفر الصادق.
الشخصية الاجتهادية للإمام الشافعي:
المحطات المؤثرة في التكوين العلمي للإمام الشافعي:
لقد كان في حياة الإمام الشافعي خمس محطات ذات أثر واضح في تكوين شخصيته العلمية الكبيرة، كان كل محطة منها تهيئة للمحطة الأخرى و تسلمه لها:
المحطة الأولى:
رعاية أم الإمام الشافعي له، فقد أرضعته حب العلم والحرص على صحبة العلماء، ولم تصرفه عن ذلك لدنيا يصيبها أو حرفة يكتسب منها رغم يتمه وفقره.
المحطة الثانية:
إقامة الإمام الشافعي في صباه في البوادي حول مكة بين قبائل العرب، وهذيل منها خاصة، حيث تلقى اللغة العربية الفصحى من منبعها من أفواه العرب الأقحاح، ليغدو بعد ذلك حجة فيها، عربي اللسان عارفا بالمعاني متقنا للبيانحافظا للشعر و نامظا له، مما مكنه من فقه نصوص القرآن و السنة وسبر أغوار دلالتها على أتم وجه.
المحطة الثالثة:
تلقيه الفقه على يد مفتي مكة و إمامها مسلم بن خالدالزنجي، الذي أرشده الى بذل وسعه في دراسة علوم الشريعة، و أذن له بالإفتاء في سن مبكرة مما عزز ثقة الأمام الشافعي بنفسه.
المحطة الرابعة:
صحبته لإمام مالك بن أنس في المدينة المنورة، حيث قرأ عليه الموطأ، وأخذ عنه الفقة والحديث، فكان تلميذا نابغا في حلقته التي اتسعت فيها مداركه العلميه.
المحطة الخامسة:
لقاؤه بمحمد بن الحسن الشيباني في بغداد الذي أكرمه بما يليق بمنزلته العلميه الرفيعة بعد انتهاء محنته، وقد أخذ الإمام الشافعي عن محمد بن الحسن فقه الحنبفة الذي ينتمي الى مدرسة أهل الراي، ثم حاور وناظرفازدادت ملكته الفقهية بذلك تطورا، ومقومات الاجتهاد عنده اكتمالاً.
هذا و لم تذكر الروايات التي تحكي سيرة الإمام الشافعي أنه زار دمشق، رغم كونها من مدائن العلم في ذلك العصر، فهي عاصمة الخلافة الأموية، واستوطنها عدد من فقهاء الصحابه و التابعين كما أن الإمام الشافعي لم يرحل الى بلاد فارس(إيران اليوم)، أو بلاد ما وراء النهر (كازخستان اليوم) أو بلاد المغرب، و الواقع أنه إذا ما استثنينا دمشق فإن البلاد التي ارتحل إليها الإمام الشافعي كانت حواضر العلم في زمانه وبها تحصل الكفاية. (6)
مرضه ووفاته:
كان الشافعي من الأئمة العاملين فرابط فترة في مصر في الثغوروهي المواضع التي يخشى هجوم العدو منها على بلد مسلم. وفي آخر حياتة ظهرت عليه علة البواسير و كان يظن أن هذه العلة إنما نشأت بسبب استعماله اللبان – كان يستعمله للحفظ – وبسبب هذه العلة ما انقطع عنه التريف وربما ركب فسال الدم من عقبيه. وكان لا يبرح الطست تحته وفيه لبدة محشوة، وما لقي أحد من السقم ما لقي.
و العجيب في الأمر بل يكاد أن يكون معجزاً أن تكون هذه حال الشافعي ويترك في مدة أربعة سنوات كلها سقم من اجتهاده الجديد ما يملأ آلاف الورق مع مواصلة الدروس و الأبحاث و المناظرات و المطالعات في الليل و النهار، وكأن هذا الدأب في العلم هو دواؤه الوحيد الشافي!. وألح على الشافعي المرض وأذابه السقم ووقف الموت ببابه ينظر انتهاء الاجل. وفي هذه الحال، عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخره، دخل عليه تلميذه المزني فقال: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلا وللاخوان مفارقا ولكأس المنية شاربا وعلى الله جل ذكره واردا ولا والله روحي تصير الى الجنة فأهنئها أو الى النار فأعزيها ! ثم بكى أنشأ يقول :
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبـي جعلت الرجـا مني لعفوك سلمــا
تعاظني ذنـبـي فــلمـا قرنتـه بعفوك ربي كـان عفوك أعظمــا
وما زالت ذا عفو من الذنب لم تـزل تجـود وتعـفـو مـنة وتكرمـا
ودفن الشافعي رحمة الله تعالى عليه في القاهرة في أول شعبان، يوم الجمعة سنة 204 هجري.
مات وكان له ولدان ذكران وبنت وكان قد تزوج من امرأه واحدة.
من وصاياه وأقواله:
- ما تقرب الى الله عز وجل بعد أداء الفرائض بأفضل من طلب العلم.
- طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
- من ضحك منه في مسألة لم ينساها أبدا.
- من حضر مجلس العلم بلا محبرة وورق كان من حضر الطاحونة بغير قمح.
- ما ناظرت أحدا قط الا أحببت أن يوفق او يسدد أو يكون له رعاية من الله تعالى وحفظه , وما ناظرت احدا الا ولم أبالي بين الله تعالى الحق على لساني أو لسانه.
نحن كلما رأينا سيرة امام قلنا والله هذا أحق بالاتباع وكلما سمعنا دليله قلنا والله هذا لهو الدليل المقنع! نعم كلهم أحق بالاتباع وكلهم عندهم الأدلة المقنعة فلذلك ورحمة من الله تعالى بنا جاز لنا أن نتبع من شئنا منهم والحمد لله رب العالمين .(7)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
(5) د.أكرم يوسف عمر القاسمي، مذهب الامام الشافعي،ص117
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وسار على هديه إلى يوم الدين أما بعد: الإمام الشافعي أحد أئمة الدنيا فضلاً وعلمًا ودينًا، انتفع المسلمون بعلمه واجتهاده منذ اثني عشر قرنًا ولا يزالون، وعرفه أئمة الإسلام في زمانه، فشهدوا أنهم ما رأوا له مثيلاً، وما عرفوا – في عصره وما بعده- أعظم منة الإسلام منه، وشهد المحدثون خاصة بفضله، فلقبوه (ناصر السنة) ، كما أن فضائله كثير، وحياته قصيرة من أروع ما سطر التاريخ من سير الرجال، وفي هذا التقرير ذكر الإمام من ولادة حتى الوفاة ، وبعض جانب شخصية الشافعي كعقله ودينه وحكمه وتجاربه ، وسيرة الواضحة، والرائعة.
نسب الإمام الشافعي:
هو الإمام أبو عبدالله بن إدريس بن العباس بن عفان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي الكناني المضري ، يكنى بأبي عبدالله، ولكنه اشتهر باسمه أكثر مما اشتهر بكنيته، خلافا لما اشتهر به الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
وعليه فالإمام الشافعي يلتقي في النسب مع سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في عبد مناف بن قصي، وفيما يلي ترجمة موجزة لأبيه و أجداده إلى عبد مناف:
والده إدريس بن العباس، و لم تنقل عنه كتب ااتراجم شيئا كثيرا، سوى أنه يقيم في المدينة المنورة فظهر فيها بعض ما يكرهه فخرج إلى عسقلان، فأقام بها ومات فيها بعد مولد إمامنا الشافعي بقليل، هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر العسكلاني في توالي التأسيس و لم أجد عند غيره ممن ترجم للإمام الشافعي شيئا أزيد على ذلك.
أما جده العباس بن عثمان فلم أجد شيئا في ترجمته فيما اطلعت عليه.
وأما جده عثمان بن شافع فقد عاش الى خلافة أبي العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين (132هجري-136هجري) وقد قام في وجهه لما أراد إخرج بني المطلب من الخمس الوارد في قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شيئ فأن لله خمسهو للرسول ...) (الأنفاق 41)، وإفراده لبن هاشم، فحمله على إبقائه كما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هذا مانقله الحافظ ابن حجر عن الخطيب البغدادي، والآبري وغيرهما، ولم يورد نقدا أو تضعيفا لهذه الحادثة و هي إن صحت فإنما تدل على قرشية نسب ذرية عثمان بن شافع، وأن هذا النسب كان مشتهراً. أما جد جده شافع بن السائب الذي تنسب إليه بنتسب إمامنا فهو صحابي على مانقله جمهور علماء التراجم والسير.(1)
وأقول هنا لعل من الاسباب التي لأجلها نُسبت ذرية عثمان بن شافع ومنهم إمامنا إلى ضافع وليس الى غيره فلم يقل السائبي أو العثماني أو الادريسي هي كونه أول صحابي من أجداد الشافعي، وأيضا ما أثاره بعض متعصبي الحنفية والمالكية ممن لا علم لهم بالأنساب، وإن كان قولهم متأخرا على عصر الإمام الشافعي بزعمهم أن شافعاً كان مولى لأبي لهب عم النبي _ص_ فطلب من عمر _رضي الله عنه_ أن يجعله من موالي قريش فامتهع فطلب من عثمان بن عفان _رضي الله عنه_ ذلك ففعل، وعليه فذرية شافع بن السائب من الموالي لا من قريش، وقد أطال الفخر الرازي فى الرد على هذا الزعم وتسفيه قائليه بما لايدع محالا للشك فى قريشية شافع بن السائب _رضي الله عنه_
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) د.محمد إبراهيم الفيومي ، الشافعي الامام الأديب، الدار المصرية اللبنانية ، الطبعة الأولى، ص19
وأحسن الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله فى تحقيقه لكتاب الانتقاء فى مناقب الأئمة الثلاثة الفقهاء لما وصف هذا الزعم بقوله: "...... والتعويل عليه من بعض الحنفية والمالكية تعصب بارد، ولهم أن يناقشوه _أي الامام الشافعي _ فى عمله لا فى نسبه. هذا ولشافع أخ اسمه عبدالله بن السائب كان واليا على مكة فى زمنه وهو صحابي أيضا، هذا ما أخرجه الحافظ أبوبكر البيهقي بسنده الى مسلم بي الحجاج صاحب الصحيح بقوله: عبدالله بن السائب والي مكة صحابي، الصحيح حديثه، وهو أخ الشافع بن السائب جد محمد بن إدريس وكذا نقل الفخر الرازي مثله عن الامام البخاري صاحب الصحيح وغيره، وهو مانقله أيضا ابن حجر عن الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك، ولعل ولاية أخيه على مكة المكرمة من القرائن المثبتة لقرشيته، إذ الغالب فى مثل هذه الولاية فى ذاك الزمان أن تكون لقرشي مشهور النسب. ولم يعتبر الحافظ أبوبكر البيهقي زعم بعض المتعصبين من الحنفية والملكية ذاك بشيئ، فقال فى ترجمته للامام الشافعي: فنسب الشافعي فى قريش واشتهاره بالمطلبي عند الخلفاء والعلماء والشعراء أشهر من ضوء النهار عند المبصر، ثم جاء بعده الامام ابو زكريا النووي ولم يعتبر زعمهم بخلاف أصلا، وهو المحقق والمدقق، فقال ترجمته للامام الشافعي: هو قرشي مطلبي باجماع أهل النقل، وأمه أزدية.(2)
زمان ولادة الإمام الشافعي ومكانها:
لقد اتفقت كتب السير والتراجم على أن مولد الامام الشافعي كان فى سنة 150 هجرية ووردت بعض الروايات المتكلفة بأن الامام الشافعي ولد يوم مات الامام أبوحنفية النعمان، وقد ود الحافظ أبو بكر البيهقي على ذلك بقوله: وهذا التقييد باليوم لم أجده فى سائر الروايات، فأما بالعام فإنه عام واحد فيما بين أهل التواريخ.
ولم يرتض الحافظ ابن حجر تضعيف أسانيد تلك الروايات، لكنه حاول التوفيق بينها بقوله ...... لكن هذا اللفظ يقبل التأويل فانهم يطلقون اليوم ويريدون مطلق الزمان.
أما مكان مولده فقد وردت روايات بأنه ولد فى مدينة غزه على ساحل فلسطين على البحر المتوسط، وهو قول الاكثرين، وأخري بأنه ولد فى عسقلان الواقعة شمال غزة، وأخرى بأنه ولد فى اليمن، وهي رواية ضعيفة، أخرج أحد طرقها ابن أبي حاتم فى كتابه آداب الشافعي ومناقبه، وقد نقل الحافظ ابن حجر تخطئه الامام الذهبي لهذه الرواية موافقا له على ذلك فقال:... قال الحافظ شمس الدين الذهبي شيخ شيوخنا: هذا القول غلط الا أن يريد باليمن القبيلة. ويمكن الجمع بين روايات جده وعسقلان بأوجه عدة، أحسن الحافظ ابن حجر فى عرضه بقوله:... عسقلان هي الاصل فى قديم الزمان وهي وغزة متقاربتان، وعسقلان هي المدينة،(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
(2)د.أكرم يوسف عمر القاسمي، مذهب الامام الشافعي، دار النفساء، الأردن،الطبعة الأولى، ص34
(3) د.أكرم يوسف عمر القاسمي، مذهب الامام الشافعي،ص42
فحيث قال الشافعي غزة أراد القرية وحيث قال عسقلان أراد المدينة، وجمع بين الروايات أيضا برواية أخري نقلها عن الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك الذي أخرجها بسنده الامام الشافعي يقول: ولدت بغزه وحملتني أمي الى عسقلان، وهي الرواية التي قدمها الحافظ أبو بكر البيهقي على غيرها، ولا ضير من حصول هذا الاختلاف الذي يبدو انه قديم، لما أخرجه الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده الي تلميذ الشافعي: الربيع بن سليمان المرادي قوله: مولد الشافعي رضي الله عنه بغز ة أو عسقلان لذلك قال الحافظ ابن حجر لما ذكره الرواية: وقد كان الربيع ين سليمان صاحب الشافعي يتردد في ذلك، وقد تعددت الروايات وكثرت
في أن أم الامام الشافعي حملته بعد مولده بسنتين إلى مكة، وكان أبوه إدريس بن العباس قد مات بعد مولده بقليل فى عسقلان كما سبق بيانه فى ترجمته، هذا ما ارتضاه أكثر علماء السير والتراجم. أي أن الامام الشافعي وصل مكة طفلا رضيعا سنة 152 هجرية.
(4) تحصيله وطلبه للعلم:
كانت أمه قد وجهته لإتقان القراءة و التلاوة والتفسير على شيوخ المسجد الحرام و لم يكد يبلغ
(13) من عمره حتى أتقن ذلك إتقانًا جيدا ملفتا للنظر. ثم اتجه الشافعي الى علم الحديث فلزم حلقة سفيان بن عيينة و مسلم بن خالد الزنجي في المسجد الحرام. وكان الورق غالي الثمن باهظ التكاليف و الشافعي و أمه في قلة و فقر فكيف يفعل في التدوين؟ يروى أنه يلتقط العظام العريضة فيكتب عليها أو يذهب الى الديوان فيجمع الأوراق المهمله التي يلقى بها فيستوهبها و يكتب على ظهرها. هذه المعانى وفقته الى أن يعتمد على الحفظ فتكونت لديه حافظة قوية ساعدته مستقبلا على حفظ كل ما يسمع و ما يلقى إليه من علم و معرفة.
وبذكائه و ملاحظته أدرك الشافعي أن لغة قريش قد دخلتها ألفاظ غريبة و لم يعد لسانها هو اللسان العربي السليم في فصاحته وبيانه، وعلم أنه لا يستطيع أن يجيد علوم القرآن و الحديث و استخراج الأحكام من النصوص إلا إذا أتقن اللغة العربية الصحيحة. كان يحضر في المسجد الحرام دروس إمام مصر الليث بن سعد حين يأتي حاجاً أو معتمراً و كان يوصي مستمعيه أن يتقنوا اللغة و أسرارها وأن يتعلموا خاصة كلام هذيل وهم قبيلة في البادية،(5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) د.أكرم يوسف عمر القاسمي، مذهب الامام الشافعي،ص42
وأن يحفظوا أشعارهم لأن هذيل أفصح العرب. انطلق الشافعي إلى مضارب هذه القبيلة فأقام في ظهرانيهم ولازمهم عشرة أعوام عكف خلالها على دراسة اللغة و أدابها وحفظ الشعر كما تعلم الرماية والفروسية وبرع فيهما.
وروى الشافعي عن نفسه فقال: "كانت همتي في شيئين، في الرمي والعلم فصرت في الرمي أصيب عشرة من عشرة ". وسكت في موضوع العلم تواضعاً علماً أنه في العلم أكثر من ذلك. علدة إلى مكة يحمل ثروة هائلة من شعر وأدب العرب حتى قال الأصمعي - رواية العرب المشهور- "صححت أشعار الهذليين على فتى من قريش يقال له محمد ابن إدريس". وأصبح الشافعي حجة عصره في اللغة. وعاد إلى مكة ليتعلم من علمائها من أتباع عبدالله بن عباس وجعفر الصادق.
الشخصية الاجتهادية للإمام الشافعي:
المحطات المؤثرة في التكوين العلمي للإمام الشافعي:
لقد كان في حياة الإمام الشافعي خمس محطات ذات أثر واضح في تكوين شخصيته العلمية الكبيرة، كان كل محطة منها تهيئة للمحطة الأخرى و تسلمه لها:
المحطة الأولى:
رعاية أم الإمام الشافعي له، فقد أرضعته حب العلم والحرص على صحبة العلماء، ولم تصرفه عن ذلك لدنيا يصيبها أو حرفة يكتسب منها رغم يتمه وفقره.
المحطة الثانية:
إقامة الإمام الشافعي في صباه في البوادي حول مكة بين قبائل العرب، وهذيل منها خاصة، حيث تلقى اللغة العربية الفصحى من منبعها من أفواه العرب الأقحاح، ليغدو بعد ذلك حجة فيها، عربي اللسان عارفا بالمعاني متقنا للبيانحافظا للشعر و نامظا له، مما مكنه من فقه نصوص القرآن و السنة وسبر أغوار دلالتها على أتم وجه.
المحطة الثالثة:
تلقيه الفقه على يد مفتي مكة و إمامها مسلم بن خالدالزنجي، الذي أرشده الى بذل وسعه في دراسة علوم الشريعة، و أذن له بالإفتاء في سن مبكرة مما عزز ثقة الأمام الشافعي بنفسه.
المحطة الرابعة:
صحبته لإمام مالك بن أنس في المدينة المنورة، حيث قرأ عليه الموطأ، وأخذ عنه الفقة والحديث، فكان تلميذا نابغا في حلقته التي اتسعت فيها مداركه العلميه.
المحطة الخامسة:
لقاؤه بمحمد بن الحسن الشيباني في بغداد الذي أكرمه بما يليق بمنزلته العلميه الرفيعة بعد انتهاء محنته، وقد أخذ الإمام الشافعي عن محمد بن الحسن فقه الحنبفة الذي ينتمي الى مدرسة أهل الراي، ثم حاور وناظرفازدادت ملكته الفقهية بذلك تطورا، ومقومات الاجتهاد عنده اكتمالاً.
هذا و لم تذكر الروايات التي تحكي سيرة الإمام الشافعي أنه زار دمشق، رغم كونها من مدائن العلم في ذلك العصر، فهي عاصمة الخلافة الأموية، واستوطنها عدد من فقهاء الصحابه و التابعين كما أن الإمام الشافعي لم يرحل الى بلاد فارس(إيران اليوم)، أو بلاد ما وراء النهر (كازخستان اليوم) أو بلاد المغرب، و الواقع أنه إذا ما استثنينا دمشق فإن البلاد التي ارتحل إليها الإمام الشافعي كانت حواضر العلم في زمانه وبها تحصل الكفاية. (6)
مرضه ووفاته:
كان الشافعي من الأئمة العاملين فرابط فترة في مصر في الثغوروهي المواضع التي يخشى هجوم العدو منها على بلد مسلم. وفي آخر حياتة ظهرت عليه علة البواسير و كان يظن أن هذه العلة إنما نشأت بسبب استعماله اللبان – كان يستعمله للحفظ – وبسبب هذه العلة ما انقطع عنه التريف وربما ركب فسال الدم من عقبيه. وكان لا يبرح الطست تحته وفيه لبدة محشوة، وما لقي أحد من السقم ما لقي.
و العجيب في الأمر بل يكاد أن يكون معجزاً أن تكون هذه حال الشافعي ويترك في مدة أربعة سنوات كلها سقم من اجتهاده الجديد ما يملأ آلاف الورق مع مواصلة الدروس و الأبحاث و المناظرات و المطالعات في الليل و النهار، وكأن هذا الدأب في العلم هو دواؤه الوحيد الشافي!. وألح على الشافعي المرض وأذابه السقم ووقف الموت ببابه ينظر انتهاء الاجل. وفي هذه الحال، عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخره، دخل عليه تلميذه المزني فقال: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلا وللاخوان مفارقا ولكأس المنية شاربا وعلى الله جل ذكره واردا ولا والله روحي تصير الى الجنة فأهنئها أو الى النار فأعزيها ! ثم بكى أنشأ يقول :
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبـي جعلت الرجـا مني لعفوك سلمــا
تعاظني ذنـبـي فــلمـا قرنتـه بعفوك ربي كـان عفوك أعظمــا
وما زالت ذا عفو من الذنب لم تـزل تجـود وتعـفـو مـنة وتكرمـا
ودفن الشافعي رحمة الله تعالى عليه في القاهرة في أول شعبان، يوم الجمعة سنة 204 هجري.
مات وكان له ولدان ذكران وبنت وكان قد تزوج من امرأه واحدة.
من وصاياه وأقواله:
- ما تقرب الى الله عز وجل بعد أداء الفرائض بأفضل من طلب العلم.
- طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
- من ضحك منه في مسألة لم ينساها أبدا.
- من حضر مجلس العلم بلا محبرة وورق كان من حضر الطاحونة بغير قمح.
- ما ناظرت أحدا قط الا أحببت أن يوفق او يسدد أو يكون له رعاية من الله تعالى وحفظه , وما ناظرت احدا الا ولم أبالي بين الله تعالى الحق على لساني أو لسانه.
نحن كلما رأينا سيرة امام قلنا والله هذا أحق بالاتباع وكلما سمعنا دليله قلنا والله هذا لهو الدليل المقنع! نعم كلهم أحق بالاتباع وكلهم عندهم الأدلة المقنعة فلذلك ورحمة من الله تعالى بنا جاز لنا أن نتبع من شئنا منهم والحمد لله رب العالمين .(7)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
(5) د.أكرم يوسف عمر القاسمي، مذهب الامام الشافعي،ص117