بن بجاد الروقي
10-24-2008, 11:15 AM
ماء الحياة الذي غار في أعماق هموم العمل، والضغوط التي لا تبدو لها معالم، ولا حدود لخارطتها، حتى صار الرضا كسحاب تهامة الربيعي، أو غيوم نجد الصيفية؛ رقيق التكوين، قليل القطر، أو معدومه، وظهرت الصورة التي يرسمها الناس للحياة غائبة الأصول، متداخلة كألوان الزيت على صفحة الماء المترجرجة، وقد تداخلت الحدود فيها كما تداخلت بين حدود المستوطنات وأراضي أهل فلسطين المسجلة رسميّاً..
وغارت عيون الناس، بل جحظت! حتى ضاع بينهم عمرو ابن بحر، وعمَّت معالمه، لكن روحه الباسمة غابت.
وقد استوقفني أستاذ عجوز تعوَّد أن يجمع طلابه الخريجين في لقاءات منظمة مبرمجة، تلُمُّ شملهم، فيقضون وقتاً ممتعاً مع ذكرياتهم التي عاشوا فيها القلق، والأمل، والجِدَّ، والفاقة.. ويتعرفون على أحوال بعضهم بعضاً: من نجح وظيفيّاً؟ ومن تزوج؟ ومن أنجب؟..
وفي أحد هذه اللقاءات، وبعد سنين طويلة من تخرُّج أولئك الطلاب، وبعد أن أنجز الكثيرون منهم نجاحات كبيرة في حياتهم، ونالوا أرفع المناصب، وحققوا الاستقرار المادي والاجتماعي؛ ما لبث الجميع يتبادلون التحيَّات الحارَّة، حتى انقضَّ معظمهم على ضغوط العمل والحياة، ويرسم صورة همومه التي تسبِّب له الكثير من التوتر. والأستاذ العجوز يسمع طرفاً من أحاديث هؤلاء، لينتقل إلى الآخرين فيسمع ما ليس ببعيد.
تركهم قليلاً، ثم عاد إليهم مع خادمه وهو يحمل القهوة العربية، ورائحتها الفواحة تلامس أنوفهم. وما لبث الخادم أن انسحب من ساحة اللقاء، وترك رائحة القهوة تلعب بأذواقهم، وتسيل لعابهم، والأكواب تتراقص مشكَّلةً مُلوّنة؛ منها: الفاخر، والمتواضع. بعضها كان غاية في التصميم والتلوين والثمن الباهظ، وبعضها الآخر تجده في أفقر البيوت.
قال العجوز: تفضَّلوا، كل منكم يأخذ قهوته وحده، ووقف ينظر إليهم، وهم يتهافتون على الفناجين الفاخرة، وأمهلهم حتى ارتوى عطشهم للقهوة، وطلب منهم أن تبقى الأكواب في أيديهم، وقال: هل لاحظتم أن الأكواب الفاخرة الجميلة هي التي استُخدمت في هذه المرة، مع أن هناك أنواعاً أخرى متواضعة؟! وهل لفت نظركم أن كل واحد منكم ينظر إلى يد الآخر، وإلى الكوب الذي اختاره؟! ألا ترون أن كل واحد منكم يتمنَّى لو اختار كوب صاحبه؟!
هل فكر أحدكم بمذاق القهوة، أم بقي اهتمامكم فقط بالأكواب؟ مع أن ما أردت أن أقدِّمه لكم هو القهوة وليس الأكواب. إن الحياة هي القهوة، ومذاقها لم يتغير من كوب إلى كوب، مهما كان ثمنه أو شكله. والوظائف والمناصب والمراتب هي الأكواب. ولو كان الأهم عند الإنسان أن يستمتع بالحياة، ويعيــشها كـما أراد الله - سبحــانه - لَحَمِــد الله كـثــيراً على ما أنعم عليه وفضَّل.
, , , , ,
هـناك أناس لا يتـذكـرون حـمـد الله على نـعـمه التـي لا تُحصى مهما بلغوا من النجاح، ومهما حققوا من النتائج! وعيونهم على ما في أيدي غيرهم. يتزوجون أجمل النساء، ويقتلهم الظن أن غيرهم قد تزوج امرأة أجمل من نسائهم. ويدخلون المطاعم، ويطلبون من المآكل ما يلذُّ ويطيب، لكن عيونهم على ما طلب الآخرون بدلاً من أن يسـتمتع أحـدهـم بما طلب. وقـد يصيب بعضهم الكدر والهمُّ إذا نال أخوه مكافأة أو ترقية في عمله عن جدارة أو استحقاق.
, , , ,
وقد قرأت مَثَلاً إنجليزيّاً يقول: (إن الحشائش أكثر خضرةً في الجانب الآخر من السور) [The grass ia always greener on the other side of the fence]. وكأنهم أخذوه من المثل العربي: (طبخ الجارة فيه نوّارة، وطبخ أهل الدار مرار).
وأمثال هؤلاء لا يعنيهم ما عندهم، بل يحسدون الناس على ما آتاهم ربهم من فضله!
, , , ,
ليس هناك شيء في هذه الحالة أفضل من أدعية علَّمنا إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ كقوله: «اللهم إني أسألك العفو والعافية والعفاف والرضا» أو كما قال؛ عليه أفضل الصلاة والسلام، فعلى الإنسان دائماً أن يردِّدها ويتذكرها.
ومن تعاليم ديننا الحنيف وهدي نبينا محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - أن لا ينظر الإنسان في أمور الدنيا إلى من هو خير منه، بل ينظر إلى من هو أدنى منه؛ لئلا يكفر نعمة الله عليه.
فكــيـف لمـن افـتـقـد هـذه الجـوهـرة أن يسـتعـيــدهــا، أو تستعيده، ولعل في ذلك باب من أبواب النصر لهذه الأمة إن شاء الله تعالى.
د. أمين سليمان الستيتي
وغارت عيون الناس، بل جحظت! حتى ضاع بينهم عمرو ابن بحر، وعمَّت معالمه، لكن روحه الباسمة غابت.
وقد استوقفني أستاذ عجوز تعوَّد أن يجمع طلابه الخريجين في لقاءات منظمة مبرمجة، تلُمُّ شملهم، فيقضون وقتاً ممتعاً مع ذكرياتهم التي عاشوا فيها القلق، والأمل، والجِدَّ، والفاقة.. ويتعرفون على أحوال بعضهم بعضاً: من نجح وظيفيّاً؟ ومن تزوج؟ ومن أنجب؟..
وفي أحد هذه اللقاءات، وبعد سنين طويلة من تخرُّج أولئك الطلاب، وبعد أن أنجز الكثيرون منهم نجاحات كبيرة في حياتهم، ونالوا أرفع المناصب، وحققوا الاستقرار المادي والاجتماعي؛ ما لبث الجميع يتبادلون التحيَّات الحارَّة، حتى انقضَّ معظمهم على ضغوط العمل والحياة، ويرسم صورة همومه التي تسبِّب له الكثير من التوتر. والأستاذ العجوز يسمع طرفاً من أحاديث هؤلاء، لينتقل إلى الآخرين فيسمع ما ليس ببعيد.
تركهم قليلاً، ثم عاد إليهم مع خادمه وهو يحمل القهوة العربية، ورائحتها الفواحة تلامس أنوفهم. وما لبث الخادم أن انسحب من ساحة اللقاء، وترك رائحة القهوة تلعب بأذواقهم، وتسيل لعابهم، والأكواب تتراقص مشكَّلةً مُلوّنة؛ منها: الفاخر، والمتواضع. بعضها كان غاية في التصميم والتلوين والثمن الباهظ، وبعضها الآخر تجده في أفقر البيوت.
قال العجوز: تفضَّلوا، كل منكم يأخذ قهوته وحده، ووقف ينظر إليهم، وهم يتهافتون على الفناجين الفاخرة، وأمهلهم حتى ارتوى عطشهم للقهوة، وطلب منهم أن تبقى الأكواب في أيديهم، وقال: هل لاحظتم أن الأكواب الفاخرة الجميلة هي التي استُخدمت في هذه المرة، مع أن هناك أنواعاً أخرى متواضعة؟! وهل لفت نظركم أن كل واحد منكم ينظر إلى يد الآخر، وإلى الكوب الذي اختاره؟! ألا ترون أن كل واحد منكم يتمنَّى لو اختار كوب صاحبه؟!
هل فكر أحدكم بمذاق القهوة، أم بقي اهتمامكم فقط بالأكواب؟ مع أن ما أردت أن أقدِّمه لكم هو القهوة وليس الأكواب. إن الحياة هي القهوة، ومذاقها لم يتغير من كوب إلى كوب، مهما كان ثمنه أو شكله. والوظائف والمناصب والمراتب هي الأكواب. ولو كان الأهم عند الإنسان أن يستمتع بالحياة، ويعيــشها كـما أراد الله - سبحــانه - لَحَمِــد الله كـثــيراً على ما أنعم عليه وفضَّل.
, , , , ,
هـناك أناس لا يتـذكـرون حـمـد الله على نـعـمه التـي لا تُحصى مهما بلغوا من النجاح، ومهما حققوا من النتائج! وعيونهم على ما في أيدي غيرهم. يتزوجون أجمل النساء، ويقتلهم الظن أن غيرهم قد تزوج امرأة أجمل من نسائهم. ويدخلون المطاعم، ويطلبون من المآكل ما يلذُّ ويطيب، لكن عيونهم على ما طلب الآخرون بدلاً من أن يسـتمتع أحـدهـم بما طلب. وقـد يصيب بعضهم الكدر والهمُّ إذا نال أخوه مكافأة أو ترقية في عمله عن جدارة أو استحقاق.
, , , ,
وقد قرأت مَثَلاً إنجليزيّاً يقول: (إن الحشائش أكثر خضرةً في الجانب الآخر من السور) [The grass ia always greener on the other side of the fence]. وكأنهم أخذوه من المثل العربي: (طبخ الجارة فيه نوّارة، وطبخ أهل الدار مرار).
وأمثال هؤلاء لا يعنيهم ما عندهم، بل يحسدون الناس على ما آتاهم ربهم من فضله!
, , , ,
ليس هناك شيء في هذه الحالة أفضل من أدعية علَّمنا إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ كقوله: «اللهم إني أسألك العفو والعافية والعفاف والرضا» أو كما قال؛ عليه أفضل الصلاة والسلام، فعلى الإنسان دائماً أن يردِّدها ويتذكرها.
ومن تعاليم ديننا الحنيف وهدي نبينا محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - أن لا ينظر الإنسان في أمور الدنيا إلى من هو خير منه، بل ينظر إلى من هو أدنى منه؛ لئلا يكفر نعمة الله عليه.
فكــيـف لمـن افـتـقـد هـذه الجـوهـرة أن يسـتعـيــدهــا، أو تستعيده، ولعل في ذلك باب من أبواب النصر لهذه الأمة إن شاء الله تعالى.
د. أمين سليمان الستيتي