ރسلايـل المجـدރ
08-12-2008, 07:32 AM
حركة الاخوان ( نجد ) من البدايه الي النهايه
أنا أعلم جيدا بأن الموضوع قد يكون طويلا ومملا ,,, ولكنه لن يكون كذلك لمن يهتم بتاريخ هذه الحركه أو من يريد أن يكتسب معلومات قيمه عنها.
وأحببت أيضا أن يكون هذا الموضوع مرجعا للأخوه في هذا المنتدى.
ولهذا أحببت أن أنقل اليكم هذا البحث الدقيق جدا لحركة الأخوان.
ــــــــــــــــــــــــ
الإخوان في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود (1328 ـ 1349هـ) = (1910 ـ 1930م)
تمهيد
شغلت حركة الإخوان المؤرخين والمحللين السياسيين، داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها، مدى عقدين من الزمن؛ كما كان للحكومة البريطانية والشريف حسين، كذلك، رؤية خاصة لهذه الحركة وأبعادها السياسية. وقد تناقضت الآراء في الحكم عليها وعلى ما حققته، وهل كان أفضل للملك عبدالعزيز إعداد هذه القوة، التي أفادته عسكرياً، وإن سببت له متاعب سياسية، أو أن الاستغناء عنها كان الأفضل؟ وعلى كل، فإن حركة الإخوان، بما لها وما عليها، تُعدّ جزءاً من تاريخ الملك عبدالعزيز آل سعود، وتأسيس المملكة العربية السعودية.
وقد عرِفت شبه الجزيرة العربية، على مدى عقدين من الزمان، حركة الإخوان، ظاهرة دينية وقوة سياسية عسكرية، كان لها دلالتها وخطرها. وقد وصفها الملك عبدالعزيز، بقوله: "إن حركة الإخوان، هي أنقى حركة دينية معاصرة". ولا شك أن الملك عبدالعزيز، استعان بهذه القوة الدينية العسكرية في حروبه لتوطيد حكمه، وتوحيد قبائل شبه الجزيرة، وبسط الأمن على أرجائها. فأدت الحركة دورها بكفاءة وصدق وإخلاص. ولكن، عندما عجزت حركة الإخوان عن استيعاب متغيرات العصر، ومتطلبات المرحلة الجديدة، التي من أهمها استعانة الملك عبدالعزيز بوسائل الحضارة الحديثة، والاستفادة من تقنيتها، حدث الصِّدام بين الحركة والملك عبدالعزيز، مما أدى إلى المواجهة الحربية، وإلى هزيمة الإخوان، والقضاء على حركتهم، في معركة السّبَلَة، في 19 شوال 1347هـ الموافق 30 مارس 1929م.
ــــــــــــــــــــــــ
حركة الإخوان وتأسيس الهُجَر
1- نشأة الحركة
من طبائع البدو وتركيبتهم النفسية، أنهم متقلبون يصعب الاعتماد عليهم من الناحية السياسية، خاصة في وقت الحروب والمعارك. فطبيعة البدوي تجعله يقدم مصلحته الخاصة قبل كل شيء. لذلك، فأهم ما يعنيه من الحرب، هو ما تحققه له من غنيمة أو نفع ذاتي، قبل المبدأ أو الهدف أو الغاية. لذا، فالبدوي لا يرى منكراً في الانسحاب من المعركة، إذا رأى أنها تسير على غير مصلحته؛ وقد لا يرى غضاضة في الانضمام إلى الخصم، إن كان هذا الانضمام يُحقق له فائدة أكبر. وإلى هذا المعنى، أشار الرّحالة اللبناني "أمين الريحاني"، الذي كان صديقاً للملك عبدالعزيز، وحين وصف البدو في زمنه قائلاً: "البدو سيف في يد الأمير اليوم، وخنجر في ظهره غداً. مجاهدون إذا قيل غنائم، متمارضون إذا قيل الجهاد. وكذلك كانوا عند ظهور عبدالعزيز وفي حروبه الأولى وغزواته. وكانوا يحاربون ما زالوا آمنين على أموالهم وأنفسهم، ويفرون شاردين عند أول خطر يلوح. لذلك كان ابن سعود يقدمهم في القتال ويدعمهم بالحضر، يحمي ظهورهم ليأمن انقلابهم وتقهقرهم. فهم إذ ذاك أشداء ثابتون في النضال. وبكلمة أخرى هم شجعان إذا كان لهم ظهر. وإلاّ فالفالتة لنا والفرار علينا. جاء في أمثال العرب: البدوي إذا رأى الخير تدلى وإذا رأى الشر تعلى. ولكن البدوي وحده يدافع عن نفسه وبعيره (وقبيلته) حتى الموت وإن كان خصمه قبيلة بأسرها. أما البدوي في الجيش فقد كان مشكل ابن سعود الأكبر" ; .
وكان للملك عبدالعزيز في مجريات الأحداث، التي وقعت لأسلافه عظة وعبرة، في كيفية التعامل مع القبائل البدوية. فقد عانى حكام آل سعود، من قبل، من تقلب ولاءات تلك القبائل. وأدرك الملك عبدالعزيز، أنه لن يستطيع أن يستثمر قوة البدو الهائلة، ما لم يحدث تغيراً في طباعهم وسلوكهم، يستفيد منه بتحويل سلبياتهم إلى إيجابيات. فأعمل فكره في تحويلهم من حياة السّلب والنّهب وعدم الاستقرار، إلى لون من الحياة المستقرة. حياة تنقلهم من مسلك البداوة المنفلت الحر، إلى مسلك التّحضر المقيد. ولن يحدث هذا التحول، ما لم يستقر البدو في حياة متوطنة وآمنة.
بدأت الفكرة تأخذ واقع التنفيذ فيما سُمي "الهُجَر"، وهي مستوطنات أُعدت لسكن البدو. واشتق اسمها من الهجرة، التي تعني ترك الوطن، الذي بيد الكفار، والانتقال إلى دار الإسلام. فذلك ما فعله النّبي، عليه الصلاة والسلام، والمسلمون الأوائل، في هجرتهم من مكة إلى المدينة. فاستغل الملك عبدالعزيز فكرة التوطين، بإعطائها عُمقاً دينياً، يستثير من خلاله العاطفة الدينية في نفوس هؤلاء البدو.
كانت البادية وطناً لهؤلاء البدو، ولكنه وطنٌ يخلو من حياة تعين على التّدين، فضلاً عن الجهل بأمور الدين والشرع، إذ لا تعليم ولا مساجد ولا وعّاظ ولا دعاة. وتغلب على وسائل العيش فيها طرق السلب والنهب. لذلك، فالهجرة من البادية المُعِينة على البُعد من الدين، تُعدُّ هجرة إلى الله والتوحيد. وهي، كذلك، هجرة مدنية. فمن بيوت الشّعر، إلى بيوت من لبن وحجر، ومن الفقر والغزو إلى أرض تعطي صاحبها الخير، إذا أعمل فيها المحراث، ومن الخوف وتوجس الأعداء إلى طمأنينة وسلام، لمن يظل عاملاً مفيداً لنفسه وبلاده.
والداعي إلى الهجرة، إذن، أمران؛ ديني: يهدف إلى تعليم البدو أمر دينهم، ودنيوي:يؤدي إلى نفعهم بأرض يحرثونها فيملكونها. ولكن، لم يكن سهلاً أن يألف البدوي حياة الاستقرار والزراعة.
باشر الملك عبدالعزيز مشروعه الإصلاحي الكبير بالوسائل الدينية، أولاً. فكان يرسل الدعاة والوعاظ (المطاوعة) إلى البادية، ليعلموا أهلها أُسُس الدين الإسلامي، وما فرضه الله عليهم من العبادات والفرائض. ويزيّنوا لهم هجر ما هم فيه إلى إيمان خالص يستشعرونه، وبيت مستقر يأوون إليه، وأرض خَيّرة يحرثونها.
وقد عمد الملك عبدالعزيز، في تنفيذ مشروعه، إلى شيء من القوة المدنية. فكان السيف يتقدم الداعي الديني "المطّوع"، في بعض الأحايين، أو يتبعه كما تقضي الأحوال. فتجاوز التطور في البدو حدّه الديني، "فصاروا يهجرون ما هم فيه ليس إلى الله والتوحيد فقط، بل إلى الشريعة والنظام، وطاعة الحكام، واحترام حياة الأنام" .
ولعل هذا النزوح من البادية إلى "الهُجَر"، كان أقرب ما يكون إلى اتخاذ موقف إيماني جديد؛ فهي هجرة عقلية أساساً. "فالهُجَر" لم تكن مشروعاً زراعياً فحسب، بل بناءً فكرياً نفسياً عسكرياً عقائدياً، وَجَدَ في تلك المستوطنات ما يدعمه ويقويه ويُنمّيه. فمن هذه الهُجَر، ومن رجال البادية هؤلاء، تَشكل ما عُرف بـ "جيش الإخوان"، وكان كل مقاتل يتدبر أمر عتاده وركوبه، فرسه أو بعيره، ويحمل سيفه وخنجره، وقليل منهم من كان يملك بندقية.
فبهؤلاء المقاتلين، ومعهم جيش الجهاد (رجال الحاضرة)، نجح الملك عبدالعزيز في إخضاع كل القبائل، التي استمرت تقاتل بالأسلوب البدوي. وهزم القوات العثمانية النظامية، وكذلك جيش الشريف حسين، على الرغم من مدافعه وطائراته وخبرائه. كما اقتنعت بريطانيا بتجنب قوات الملك عبدالعزيز، التي يشكل الإخوان عمودها. ولذلك، كان الملك عبدالعزيز مزهواً، وهو يقول: "إن ورائي ما لا يقل عن "أربعمائة ألف مقاتل، إن بكيت بكوا، وإن فرحت فرحوا. وإن أمرت نزلوا على إرادتي وأمري. وإن نهيت انتهوا. وهؤلاء هم جنود التوحيد، إخوان من أطاع الله ".
وقد كانت هتافات الإخوان: خيّال التوحيد .. أهل التوحيد .. أخو من أطاع الله.
هبت هبوب الجنة .. وين أنت يا باغيها ..
يا ويل عدو الشريعة منا .. إياك نعبد وإياك نستعين ..
وقد تحدث الريحاني عن تقسيمات الجند أو المجاهدين، في الهُجَر، مبيناً طبيعتها الدينية والعسكرية، "فهناك الجهاد، والجهاد مَثْنَى، والنفير. فالذين يلبون الدعوة للجهاد هم دائماً مسلحون، وعندهم مطايا وشيء من الذخيرة، أي هم القوة الدائمة. والجهاد مَثْنَى، هو أن يجيء كل مجاهد بآخر يردفه على ذلوله (بعيره) أي الاحتياطي المباشر، ويكون عدد قوة المجاهدين ضعف عدد الجهاد غير مَثْنى. أمّا القسم الثالث، النفير، فهم الذين يبقون في أيام الحرب في الهُجَر، ليداوموا أعمال التجارة والزراعة ،غير المقاتلين، ولا يُدْعَون للحرب إلاّ إذا اضطر صاحب البلاد إلى الاستنفار العام" ، أي يمثلون التعبئة العامة.
وكان الهجرة أو المعسكر كله، مهما بلغ حجمه، منضبطاً، إذ يوجد في كل مسجد كشف بأسماء المصلين فيه، أي مجموع الذكور البالغين في المنطقة المحيطة به. وإذا عرفنا أن هذا الكشف يُراجع خمس مرات في اليوم لإثبات الحضور والغياب، أدركنا أيضاً أن الملك عبدالعزيز، اكتشف أسرع وسيلة لاستدعاء الاحتياطي .
وقد أشار الريحاني إلى أن الدعوة إلى الجهاد والجهاد مَثْنى، من حق الإمام وحده. أمّا الاستنفار العام، الذي لا يكون إلاّ للدفاع عن الوطن، فهو حق العلماء، عندما يكتب السلطان إليهم معلناً حاجة البلاد إلى الدفاع، فيبادرون إلى استنفار الناس أجمعين، البدو الحضر والمهاجرين .
وعندما تحدث الملك عبدالعزيز عن الهُجَر وفكرة إنشائها، كان حديثه مركزاً على شرح طبيعتها التطوعية أو الفدائية. فقد وصف الإخوان قائلاً: "يجيئوننا في السلم، فنعطيهم كل ما يحتاجون إليه من كسوة ورزق ومال، ولكنهم في أيام الحرب، لا يطلبون منّا شيئاً. في أيام الحرب يتزنر (أي يتحزّم) الواحد منهم ببيت الخرطوش، ويبادر إلى البندق، ثم يركب الذلول (البعير أو الناقة) إلى الحرب ومعه شيء من المال والتمر" .
2- تأسيس الهُجَر
أُسست في عام 1330هـ/1912م، أول هجرة لعرب مطير، الذين يقودهم فيصل بن سلطان الدّويش، في موقع يُسمى "الأرطاوية"، قرب الزلفي، وهي تُعد أكبر الهُجَر، وأهمها منزلة. ثم تبعت الأرطاوية هُجَر لعدة قبائل تؤسس كل سنة، فهجرة "الغطغط"، بالقرب من الرياض، لقبيلة عتيبة بزعامة سلطان بن بجاد بن حُميْد، وهُجَرة "دخنة" لقبيلة حرب، و"الصَّرَّار" لقبيلة العجمان بقيادة ضيدان بن حثلين. وازداد عدد الهُجَر حتى بلغ أكثر من سبعين هُجَرة، عُرف سُكّانها بالإخوان. وقد نال سبب التسمية اهتماماً كبيراً من المؤرخين والدارسين لحركة الإخوان، خَلُصَ أكثرهم إلى الدلالة الدينية المرتبطة بالمصطلح، في قوله تعالى:وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
لم يخلُ تأسيس الهُجَر من خلق بعض المشاكل للملك عبدالعزيز. فهؤلاء البدو، الذين انسلخوا عن حياة البداوة، وباعوا جمالهم، وتحولوا إلى الإقامة في الهُجَر، لم يكن لهم من عمل يشغلهم أيام السّلم سوى الصلاة والذكر والعبادة. وكانوا يربطون رؤوسهم بالعِصَابة البيضاء التي تميزهم عن غيرهم من الناس، أي من غير الإخوان.
ولكن الملك عبدالعزيز نجح في حلّ هذه المشكلة، حين استعان بالعلماء، الذين بحثوا في التاريخ، وأخبار السلف، فسلّحوا بها الدعاة (المطاوعة) المتوجهين إلى الهُجَر. فمضى المطاوعة هؤلاء يحاربون البطالة والكسل، ويعلِّمون "إخوان الهُجَر" أن الزراعة والتجارة والصناعة لا تنافي الدين، وأن المؤمن الغني القوي خير من المؤمن الفقير الضعيف.
وقد أفلح الدّعاة والوُعّاظ في تحبيب العمل والكسب إلى الإخوان. فشرعوا يزرعون الأرض حول الهُجَر ويتاجرون. فنشأت بعض هذه القرى سريعاً وصارت تباري جاراتها القديمة في الزراعة والتجارة. "على أن الزراعة والتجارة لم تُضْعف في أبناء هذه الهُجَر، من الإخوان، روح القتال، بل علمتهم فوق شجاعتهم شجاعة جديدة لا تعرف الخوف، ولا تهاب الموت. وما الشجاعة هذه إلاّ وليدة الإيمان الجديد الحي القوي. فإن إخوان مطير في الأرطاوية مثلاً، وإخوان حرب في دخنة، وإخوان عتيبة في الغطغط، لأشد جيوش ابن سعود بأساً، وأبسلهم نضالاً وأسبقهم إلى الاستشهاد" .
وأخيراً نجح الملك عبدالعزيز في إعداد جيش قوي من المجاهدين، يُحركهم صدق العقيدة، ورياح الجنة، بعد أن كانت تحركهم الأطماع والرغبة في السّلب والنّهب. وقد وصفهم الملك عبدالعزيز في هذه المرحلة أصدق وصف حين قال: "القليل عندنا يقوم مقام الكثير عند غيرنا ... كنا نمشي ثلاثة أيام من دون طعام. يأخذ الواحد منا تمرة من حين إلى حين يرطب بها فمه ... نعم كانت الحاضرة أثبت قدماً وأشد بأساً من البادية. أمّا الآن، فالبادية المتحضرون أهل الهُجَر هم في القتال أثبت من الحاضرة، وأسبق إلى الاستشهاد" .
ــــــــــــــــــــــــ
الخلاف بين الإخوان والملك عبدالعزيز
1- بداية الخلاف
على الرغم من بسالة الإخوان وشجاعتهم وصبرهم، إلاّ أنهم أورثوا الدولة مُشْكلاً مُعقّداً كاد يُفسد المشروع الإصلاحي العظيم. فقد طغى الإخوان وتجبروا، وأخذوا يحاربون من لم يتحضر من البدو فيكفِّرون، وينهبون، ويقتلون. "أنت يا بدوي مشرك، والمشرك حلال الدم والمال. أنت يا أبا العقال من الكفار، أنا أخو من طاع (أطاع) الله، وأنت أخو من طاع (أطاع) الشيطان".
كما أصبح كل "أخٍ" متعصب بالعصابة البيضاء يستطيع أن يسطو على غيره فيُعيّر، ويشتم، ويسفك الدماء. وقد انتشرت من جراء ذلك الفوضى في البلاد، وكاد يُقْطع حبل الأمن والسلام، وضج الناس منهم.
عقد الملك عبدالعزيز، في سنة 1337هـ/1919م، مؤتمراً، في الرياض، للنظر في هذه الأمور، حضره كبار الرؤساء والعلماء، وقرروا بعد البحث ما يأتي:
أ- الكفر لا يُطلق على بادية المسلمين الثابتين على دينهم.
ب- لا تفاوت بين لابس العقال ولابس العمامة، إذا كان معتقدهما واحداً.
ج- لا فرق بين الحضر الأولين والمهاجرين الآخرين.
د- لا فرق بين ذبيحة البدوي، الذي في ولاية المسلمين، ودربه دربهم، ومعتقده معتقدهم، وبين ذبيحة الحضر الأولين والمهاجرين.
هـ- لا حق للمهاجرين أن يعتدوا على الناس، الذين لم يهاجروا كأن يضربوهم، أو يتهددوهم، أو يلزموهم الهجرة.
و- لا حق لأحد أن يهجر أحداً، بدوياً كان أو حضرياً، بغير أمر واضح، وكفر صريح، ومن دون أذن من ولي الأمر أو الحاكم الشرعي.
وقد ضُمِنّت هذه القرارات منشوراً صدر عن الملك عبدالعزيز والعلماء، في شأن مخالفة الإخوان للشرع .
2- المواجهة
عقب انتصار الإخوان على جيش الشريف حسين، في معركة تربة ، في 25 شعبان 1337هـ/ 25 مايو 1919م، وجد الإخوان أنفسهم محط الأنظار وفي دائرة الضوء. فالظروف السياسية التي أدّت إلى تلك الأحداث، والمواجهة العسكرية التي أسفرت عنها، دفعت بحركة الإخوان إلى الساحة الدّولية. فقد كان البريطانيون ينظرون إلى حركة الإخوان، أول أمرها، على أنها ظاهرة دينية داخلية، لا تهدد المجتمع الدولي أو المصالح البريطانية، على الرغم من سمعتها المرعبة في النفوس. ولكن عقب انتصار الإخوان العسكري على قوات الشريف حسين النظامية، واجه العالم الخارجي خطراً عسكرياً وعقائدياً حقيقياً .
وبينما الملك عبدالعزيز يسعى جاهداً للإبقاء على خياراته السياسية والعسكرية مفتوحة، في مختلف المجالات والأصعدة، كان الإخوان يدفعون بالأحداث إلى مجاري الأزمات والتصعيد. فوقفوا موقفاً معادياً من حاكم الكويت، انتهى بمنع الإخوان جميع المسلمين من التعامل بالبيع والشراء مع الكويت أو حتى زيارتها إلى أن تثوب إلى رشدها، وتتخلى عن تراخيها في الأمور الدينية والأخلاقية، وترجع إلى المسار الإسلامي الصحيح .
وبعد معركة تربة، ضد شريف مكة، في 25 شعبان 1337هـ/ 25 مايو 1919م، ومعركة الجهراء ، ضد سالم بن مبارك الصباح، في 26 محرم 1339هـ/10 أكتوبر 1920م، خاض الإخوان معركتهم الأخيرة ضد ابن رشيد، في حائل، في 1340هـ/ 1921م، وأصبح لهم شأن عسكري، ووزن سياسي.
وبدأ الإخوان في الثورة العسكرية، فقادوا حملات، عقب سقوط حائل، 1340هـ/1921م، أدّت إلى فتح كل من الجوف ووادي السّرحان، في الشمال. وبعد أن سيطر الإخوان على الأطراف الشمالية لشبه الجزيرة، بدأوا يتطلعون إلى السيطرة على فلسطين وسورية. وكذلك، لم يترك الإخوان حدود شرق الأردن تنعم بالهدوء، فأغاروا على المدن القريبة من عمّان، وقتلوا من قاومهم، بلا هوادة أو رحمة، وطاردهم البريطانيون بالطائرات، وقتلوا عدداً كبيراً منهم.
وقد أدّت الهجمات، التي قادها الإخوان على جيرانهم في الشمال، إلى اتفاق إنجليزي ـ نجدي، في شـأن الحدود بين نجـد والعراق، عُقد في مؤتمر "العُقير"، في 12 ربيع الثاني 1341هـ/ 2 ديسمبر 1922م. وكان هذا الاتفاق مُقيداً لحركة الإخوان، وعلى حساب طموحاتهم.
بدأ التوتر يزداد بين الإخوان والملك عبدالعزيز، عندما غاب عن الإخوان البُعد السياسي، الذي كان يرمي إليه الملك، من اتفاقية العُقير مع البريطانيين. فقد رأى الإخوان فيها ضرباً من موالاة الكفار، على حين كان الملك عبدالعزيز يسعى، من طريقها، إلى تحييد الإنجليز، في صراعه مع الشريف حسين، في الحجاز. فكان أن ترأس الملك عبدالعزيز، في أواخر عام 1342هـ/ يونيه 1924، مؤتمراً، في الرياض، حضره علماء نجد، ورؤساء القبائل والقرى، وزعماء الإخوان. وكان محور المؤتمر شكوى الإخوان، من أن الشريف حسين منعهم من أداء فريضة الحج.
وفي هذا المؤتمر، تحدث زعماء الأخوان، وفي مقدمتهم سلطان بن بجاد المُلقب بسلطان الدين، وقالوا: إنهم كانوا على استعداد للذهاب إلى مكة، لأداء الفريضة، بالقوة إن استدعى الأمر ذلك. وطالب الإخوان الملك عبدالعزيز بقيادتهم، لمواجهة الشريف حسين وجهاده. وبذلك حصل الملك عبدالعزيز على فتوى شرعية، لشن الحرب على الشريف حسين، لضمان حرية أداء فريضة الحج. وهكذا، صدر، عن مؤتمر الرياض، قرار بغزو الحجاز.
فصدرت الأوامر إلى قوات الإخوان، المتمركزة، بالفعل، في تربة والخرمة بالاستعداد. كما صدرت الأوامر إلى قائديها الشريف خالد بن منصور بن لؤي، وسلطان بن بجاد، بالتحرك نحو الطائف. وزُوِّدت القوات بأمر الهجوم على الطائف، عقب انتهاء موسم حج عام 1342هـ.
وفي صفر 1343هـ/ سبتمبر من عام 1924م، هاجمت قوات الإخوان، بقيادة الشريف خالد بن لؤي، بعض القرى الصغيرة، حول مدينة الطائف . وقُدِّر عدد المقاتلين بنحو ثلاثة آلاف مقاتل. فدمروا القوات الهاشمية، التي كانت تفوقهم عدداً وعتاداً وتدريباً، وهرب قادتها تَارِكين المدينة وسُكانها، لمواجهة مصيرهم.
وعلى كل، فقد استولى الإخوان على الطائف، وفعلوا ما يفعله، عادة، الجند المنتصرون، حين يستبيحون البلدة، فيقتلون وينهبون. فاضطر أهلها إلى الفرار منها. وقد بلغت أنباء مذبحة الطائف أسماع الملك عبدالعزيز، وهو ما يزال في الرياض، فأصدر أوامره، من الفور، بإيقاف أعمال العنف.
وإن كان الإخوان قد ارتكبوا أعمالاً من العنف في الطائف، إلاّ أنها كانت كافية لسقوط مكة والمدينة، بعد شهر من ذلك، من دون إراقة للدماء. فقد سبقت صور العنف والبطش الإخواني، المبالغ في روايتها، إلى أهل الحجاز، الذين باتوا يأملون في التسليم، حفاظاً على أرواحهم. وبعد أن أذن الملك عبدالعزيز لقائديه بالتقدم نحو مكة، التي خرج منها الشريف حسين وأخلاها، دخل أربعة آلاف من الإخوان مكة، محرمين خاشعين، ولكنهم يحملون السلاح، في 18 من ربيع الأول عام 1343هـ/ 18 أكتوبر 1924م. ولم يواجهوا أي مقاومة، ولم يطلقوا رصاصة واحدة، ولم يسلبوا أو ينهبوا، ولكنهم هدموا القِباب.
وهكذا، أدّى سقوط الطائف ومكة ـ بجهد الإخوان ـ إلى تحديد مصير الحجاز، وإنهاء حكم الأسرة الهاشمية، في شبه الجزيرة العربية .
وعندما أحكم الإخوان سيطرتهم على مكة، كان الملك عبدالعزيز وقوّاته في طريقهم من الرياض إلى الحجاز، لم يبلغوا بعد منتصف الطريق.
وخلال هذه الفترة، كان القائدان، الشريف خالد بن لؤي وسلطان بن بجاد، قد حسما الأمر، في مكة، مع القناصل الأجانب في جدة، ومع أعيان الحجاز وممثلي الدول الكبرى، قبل وصول الملك عبدالعزيز إلى الحجاز.
استسلمت المدينة المنورة، في 19 جمادى الأولى 1344هـ/ 5 ديسمبر 1925م، بعد حصار دام عشرة أشهر. واستسلمت جدة، بعد ذلك بشهر، عقب حصار دام عاماً كاملاً. ولكن، لم يكن للإخوان دور عسكري في استسلام هاتين المدينتين، بل منعوا من دخولهما. وعندما بدأ الإخوان يسببون حرجاً للملك عبدالعزيز، كان أفضل قرار يتخذه هو أن يعيدهم إلى نجد، معززين مُكَرّمين، معهم غنائم الحرب.
ــــــــــــــــــــــــ
3- تصاعد الأحداث
كان الإخوان يريدون مواصلة المسيرة الدينية الظافرة، وقد أحسوا أنهم عنصرٌ غير مرغوب وجوده في الحجاز، وأنهم عمليا منعوا من دخول المدينة المنورة وجدة، وأن علماء نجد الوهابيين أخذوا مكانهم، وأنهم ـ أي الإخوان ـ لم يعد لهم مكان في مجتمع الحجاز المتحضر.
وفي عام 1343هـ/ 1925م، أعلن فيصل الدّويش ومجموعة من الإخوان، الخطوط العريضة لخلافهم مع الملك عبدالعزيز. كان ذلك خلال أول احتفال لهم بأواخر شهر رمضان في مكة المكرمة، وقد حضر الاجتماع الشريف خالد بن لؤي، وبعض كبار قادة الإخوان البارزين.
وبدأ تطرفهم الديني يُسَببُ حرجاً للملك عبدالعزيز. مثال ذلك، أنهم عارضوا أبواق المحمل المصري، لأن عزف الموسيقى في المشاعر المقدسة، في أيام الحج، حرام. فهجموا على المحمل، مما حدا بحراس المحمل أن يدافعوا عن أنفسهم، ويفتحوا عليهم النار، وذلك في موسم حج عام 1344هـ/1926م. وأدّى الحادث إلى توتر في العلاقات بين مصر والملك عبدالعزيز، قطعت على أثره، العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مدة عشر سنوات.
وهكذا، أُعيد الإخوان إلى نجد مُستائين من الملك عبدالعزيز، ومن البريطانيين الكفار، ومن أهل الحجاز (الكفار) أيضاً، ومن (كفار) العراق والأردن. رجعوا إلى قواعدهم، في نجد، يحملون في أنفسهم قنابل موقوته تستعد للانفجار. فقد شعروا أنهم، تحت قيادة فيصل الدّويش وسلطان بن بجاد، حققوا للملك عبدالعزيز حلمه في فتح الحجاز، وأنه بسيوفهم وصل إلى ما هو فيه، من مجد واستقرار.
وأحس قادة الإخوان الثلاثة: فيصل الدّويش، وسلطان بن بجاد، وضيدان بن حثلين، أن ظلماً وحيفاً حاقا بهم. وكان الدّويش قد تحول إلى أسطورة، بين الإخوان والقبائل الرعوية، الرحل والمستقرة. وكذلك، كان ابن بجاد، يٌعد بطلاً يخشاه الناس، كما يخشون أتباعه من الإخوان. وقد عُرف ابن بجاد بين اتباعه مسلماً مخلصاً، وأميناً لمبادئ الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب. وبالمثل، كان ابن حثلين لا يُخفي عدم ارتياحه من الملك عبدالعزيز، الذي قمع قبيلته العجمان، في الأحساء.
كانوا ثلاثتهم يعارضون الملك عبدالعزيز، ويتخذون لتلك المعارضة سبباً ظاهراً، هو أنه أدخل الاختراعات الحديثة والبدع إلى البلاد، وأنه حرّم الغزو، الداخلي والخارجي.
وفي نهاية عام 1344هـ/ 1926م أصبحت مطالب الإخوان أكثر تحديداً. ففي المؤتمر، الذي عُقِد في الأرطاوية، وحضره زعماء الإخوان، من مطير وعتيبة والعجمان، حصروا خلافهم مع الملك عبدالعزيز في الآتي :
أ- عدم قبولهم إرسال الملك عبدالعزيز ولده الأمير سعود إلى مصر، التي يحتلها الإنجليز النصارى، ويسكنها مسلمون كفار. وكان قد سافر إليها لتطبيب عينيه، ولتحسين العلاقات المتوترة معها.
ب- عدم قبولهم إرسال الملك عبدالعزيز ولده الأمير فيصل، إلى لندن، في مهمة سياسية، بلد الشِّرك.
ج- رفضهم استخدام السّيارات والبرق (التلغرافات) والهواتف (التليفونات). ورأوا أنها بدع نصرانية، من عمل الشيطان.
د- رفض مبدأ المكوس (الضرائب)، التي يأخذها الملك عبدالعزيز من التجار والجمارك، في الحجاز ونجد.
هـ- الاحتجاج على سماح الملك عبدالعزيز لعشائر شرق الأردن، بالرعي في أراضي المسلمين (شبه الجزيرة العربية).
و- الاحتجاج على منع المتاجرة مع الكويت؛ لأن أهل الكويت إن كانوا كفاراً حوربوا، وإن كانوا مسلمين فلماذا المقاطعة ؟
وكان المخاطب بإظهار هذه المخالفات هُمْ السُّذج من أتباعهم، يوغرون بها صدورهم على الملك. وتعاهد الزعماء على أن يكونوا يداً واحدة في محاربة الكفر. فانتشروا يبثون دعاويهم بين الناس.
ورداً على انتقادات الإخوان ومطالبهم، التي طرحوها، عاد الملك عبدالعزيز من الحجاز إلى نجد، ليعقد اجتماعاً، في الرياض، مع زعماء الإخوان ورؤساء القبائل. وقد حضر هذا المؤتمر نحو ثلاثة آلاف شخص ، وفي ذلك الاجتماع، الذي جرى في 25 رجب 1345هـ/ آخر يناير عام 1927، أكد الملك عبدالعزيز من جديد ولاءه للشريعة، وأنه لم ينحرف عن مبادئها، وكرر أنه لا يزال قائدهم، الذي يعرفونه. وانتهى الاجتماع بإصدار فتوى من علماء نجد، ردّوا فيها على اعتراضات الإخوان، التي أثاروها، وكانت ترمي، في حقيقة الأمر، إلى إثارة الرأي العام، باسم الدين، ضد الملك عبدالعزيز.
وفيما يلي بعض ما جاء في الفتوى، التي أصدرها خمسة عشر من العلماء:
"أمّا مسألة البرق (التلغراف اللاسلكي)، فهو أمر حادث في آخر هذا الزمان. ولا نعلم حقيقته، ولا رأينا فيه كلاماً لأحد من أهل العلم، فتوقفنا في مسألته، ولا نقول على الله ورسوله بغير علم، والجزم بالإباحة والتحريم يحتاج إلى الوقوف على حقيقته. وأمّا مسجد حمزة وأبي رشيد، فأفتينا الإمام ـ وفقه الله ـ بهدمهما من الفور. وأمّا القوانين، فإن كان موجوداً منها شيء، في الحجاز، فيزال فوراً. ولا يُحْكم إلاّ بالشرع المُطَهَّر. وأمّا دخول الحاج المصري بالسلاح والقوة في بلد الله الحرام، فأفتينا الإمام بمنعهم من الدخول، بالسلاح، بالقوة، ومن إظهارهم الشِّرك وجميع المنكرات. وأمّا المحمل، فأفْتَيْنا بمنعه من دخول المسجد الحرام، ومن تمكين أحد أن يتمسح به أو يُقَبّله ...." .
نفّذ الملك عبدالعزيز التوصيات، التي أصدرها العلماء في الفتوى. فحرّم استعمال الراديو والتلغراف، في أجزاء محددة، في المملكة، مع أن العلماء لم يحرّموا استعمالها، بصورة قاطعة.
وكان الملك عبدالعزيز يأمل إزالة توتر الإخوان واعتراضهم على سياسته، أو على الأقل، تأجيل المواجهة معهم حتى حين.
وعقب انتهاء الاجتماع، تعاهد الإخوان، مرة أخرى، على نصرة الملك عبدالعزيز، وبايعوه قائداً وإماماً.
ولكن الأحداث عادت إلى سيرتها الأولى. فَعَقِبَ انفضاض المؤتمر، رجع الإخوان إلى مسلكهم الأول، وواصلوا غزو القبائل على حدود العراق. وكانت قبائل من شمر قد هربت بعد غزو حائل، من نجد إلى العراق، ثم انضمت إليها جماعات من الإخوان النجديين، وأُطلق على هذه المجموعة "الإخوان اللاجئون". وكانت هذه المجموعة شوكة في ظهر الملك عبدالعزيز، نتيجة لغزواتهم المتصلة ضد القبائل على الحدود العراقية.
ولمّا وجد الإخوان أنفسهم في فراغ من الجهاد والحرب، بدأوا يتطلعون إلى العراق كأقرب الأهداف المشروعة، التي تستحق الغزو. وسبب ذلك، أنّ قبائل العراق، في نظرهم، "كافرة"، والإخوان المساعدون لها (اللاجئون) خونة. وعندما بدأت غزوات الإخوان تأخذ طابع العنف، قررت حكومة العراق إنشاء مركز للشرطة، عند آبار "بُصَيّه" ،على حدودها مع نجد، لمنع الغزو على جانبيّ الحدود. ولكن الملك عبدالعزيز رأى أن إقامة هذا المركز وأمثاله، مخالف للمادة الثالثة من بروتوكول العقير، التي تنص على أن: "تتعهد الحكومتان النجدية والعراقية، كل من قبلها، ألاّ تستخدم الآبار الموجودة على أطراف الحدود لأي غرض حربي، كوضع قلاع عليها، وألاّ تعبيء جنداً في أطرافها". وسعى الملك للتفاوض مع البريطانيين، أصحاب الانتداب على العراق، حول إزالة هذه المخافر. ورأى الإخوان في إقامة تلك المخافر عملاً استفزازياً جديداً، من قِبل البريطانيين. وكان ذلك مبرراً كافياً للهجوم عليها. وقرر البريطانيون مطاردة المُعتدين، داخل أراضي نجد، فاحتج الملك عبدالعزيز على ذلك، كما أنه عاتب الإخوان على قيامهم بالغزو من دون إذن منه، وإن كان منطق الأحداث يجعل هذا الغزو، يُحقق للملك عبدالعزيز المعادلة المتوازنة في تجنب المواجهة المباشرة مع البريطانيين ، الذين كانوا يأملون في كفه أذى الإخوان عنهم.
وبينما الإخوان يركزون هجومهم، بصفة أساسية، على "الكفار"، كانوا يتهمون الملك عبدالعزيز بأنه باع نفسه للنصارى الإنجليز، وأنه تحالف معهم، ضد التزامه مع الأخوان على نشر الإسلام ومحاربة الكافرين. وحتى يتجنب الملك عبدالعزيز تصعيد الأحداث، وافق على الاجتماع إلى رؤساء الإخوان الثلاثة، في مدينة بريدة. ولكن عندما حان موعد اللقاء، تخوّف الطرفان من لقاء بعضهم بعضاً؛ فقد كان كل جانب يتشكك في الآخر. وتم الاتفاق على تأجيل الاجتماع، حتى يتمكن الملك عبدالعزيز من التباحث مع البريطانيين، في شأن خلافاتهم مع الإخوان. وبعد فشل المفاوضات، التي جرت بين الملك عبدالعزيز والسير جلبرت كلايتون، في جدة، تزايد تهديد الإخوان، بما أحرج موقف الملك عبدالعزيز. وأصبح مقتنعاً أن الدافع الرئيسي وراء تصرفات قادة الإخوان الثلاثة لم يكن غيرتهم على الدين، وإنما تطلعاتهم الشخصية إلى السلطة، وإرضاء شهوتهم للغزو. وكان يُقدر أنهم قد اتفقوا، فيما بينهم، على اقتسام الأسلاب بعد التخلص منه: يصبح فيصل الدّويش حاكماً لنجد، ويتولى سلطان بن بجاد حكم الحجاز، ويصبح ضيدان بن حثلين حاكماً للأحساء. وهذا التوزيع كان متوافقاً مع توزيع القبائل، ونفوذ كل شيخ من الشيوخ في المنطقة التي تخصه. ومع ذلك، وعلى الرغم من ازدياد الموقف حرجاً في نجد، لم يعد إليها الملك عبدالعزيز، من الحجاز، إلاّ في شهر جمادى الأولى من عام 1347هـ/ نوفمبر 1928م. وفي ذلك التاريخ، ساد التمرد العام بين الإخوان. فقد بدأوا يمارسون الغزو على هواهم، مما أدّى إلى شل حركة الملك عبدالعزيز في اتخاذ أي إجراء، داخلي أو خارجي. ولم يكن بوسعه الاعتراف أنّ الإخوان إنما يغزون من دون إذن أو تصريح منه، لأن ذلك سيكون اعترافاً صريحاً منه بعدم قدرته على السيطرة عليهم. ومع ذلك، لم يستكن الملك عبدالعزيز للهجمات الشرسة القاسية، التي كان الإخوان يشنونها على القبائل، تلك القبائل التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها. ولم يرض عن الانتهاكات الصارخة، التي قام بها الإخوان، للاتفاقات التي أبرمها مع الحكومة البريطانية .
وكان منطقياً أن ينفد صبر الملك عبدالعزيز عند هذا الحد من تصرفات الإخوان، خاصة بعد أن استجاب لمطلبهم، وحرّم استعمال الراديو، واللاسلكي والسيارات، واختراعات أخرى حديثه، في الرياض. ومن الواضح أن أياً من تلك الاستجابات لم تكن لتُرضي الإخوان. كما أدرك الملك عبدالعزيز أن قادة الإخوان يتمتعون بشعبية بين كثير من رعاياه، نظراً لنجاح كل من فيصل الدّويش وابن بجاد في الحملة التي قاما بها بين القبائل. فأذاعا أنهما يمثلان مصالح الإسلام الشرعية، وأنهما يدافعان عن قضية الدين، في حين أن الملك عبدالعزيز بعد أن استولى، بفضل شجاعتهم، على الحجاز، باع نفسه للإنجليز وللنصارى.
ومما لا شك فيه، أن مواجهة الإخوان أصبحت أمراً لا مفر منه. ومع ذلك، كان الملك عبدالعزيز يأمل، عندما يحين موعد هذه المواجهة، أن يحظى بمساندة أكبر عدد من رعاياه، وأن تكون قضيته واضحة لهم، تماماً.
ــــــــــــــــــــــــ
مؤتمر أعيان الرياض (الجمعية العمومية)
كان رد الملك عبدالعزيز على اتهامات الإخوان ومطالبهم، الدعوة إلى عقد اجتماع يحضره العلماء وزعماء القبائل، رؤساء القرى والحواضر . وأُطلق على هذا الاجتماع اسم "الجمعية العمومية"، كما يُشار إليه، كذلك، باسم "مؤتمر أعيان الرياض". وقد بدأ المؤتمر، في 22 من جمادى الأولى عام 1347هـ/ 5 نوفمبر عام 1928م ، في الرياض، وسط جو من الشكِّ وعدم الطمأنينة. وانتهى بعد ذلك بعدة أيام، بتقوية قبضة الملك عبدالعزيز على زمام الأمور، إلى حدٍّ كبير.
1- وقائع المؤتمر
تلبية لنداء الاجتماع، وصل إلى الرياض آلاف من أهل القرى والحضر، والعلماء ومشايخ القبائل، والإخوان من الهُجَر. وتخلف عن الحضور زعيما الإخوان، سلطان بن بجاد وضيدان بن حثلين، أمّا فيصل الدّويش فأناب عنه ابنه عزيز(عبدالعزيز).
ولم تكن إتاحة الفرصة لكل من وصلوا إلى الرياض، لحضور المؤتمر أو التحدث فيه، أمراً ميسوراً، نظراً لكثرة عددهم. لذلك، أعدَّ القائمون على أمر المؤتمر قائمة تضم حوالي ثمانمائة مندوب، عُرضت على الملك، للموافقة عليها. وفي ضوء وصف تجهيزات المؤتمر ومحاضر الاجتماعات، التي نشرتها جريدة "أم القرى" ، يتضح أن وقتاً طويلاً، وجهداً كبيراً، أنفقا في التخطيط للمؤتمر. وحُددت شرفة كبيرة من شرفات القصر لتكون مكاناً للاجتماعات. وبعد أن وافق الملك عبدالعزيز على القائمة، التي قُدمت إليه، أمر بتوجيه الدعوة إلى كل عضو على حده. وتحدد موعد الاجتماع الساعة السابعة من صباح 22 جمادى الأولى عام 1347هـ/ 5 نوفمبر 1928م. وقد خُصِّصت غرف انتظار خاصة لكل جماعة من الجماعات. وروعي، في ذلك، وضع الحضر في قاعة واحدة، والزعماء الدينيين في قاعة أخرى، والإخوان في قاعة ثالثة. وقبل نصف ساعة فقط من بدء أعمال المؤتمر، جلس الملك عبدالعزيز في المكان المخصص له، يحيط به أفراد عائلته. ثم استدعى بعد ذلك المندوبين، طبقاً لمنازلهم. وبدأ العلماء، أولاً، بشغل الصف الأمامي من ناحيتي اليسار واليمين . وبعد أن جلس العلماء في أماكنهم، أُمر بإدخال الحضر والقرويين، الذين جلس بعضهم خلف العلماء، وبعض آخر في الخلف وعلى جانبي الشرفة. ثم أُمر بعد ذلك بإدخال الإخوان ورجال القبائل. وجلس الإخوان ورجال القبائل حسب الهجرة والقبيلة، صفاً بعد صف في مواجهة الملك. وقد استغرقت عملية الجلوس نحو خمس عشرة دقيقة تقريباً.
نهض الملك عبدالعزيز، بعد تقديم القهوة، وخاطب المؤتمر، مستعرضاً كفاحه، وكيف نصره الله بعون منه، ومعه أربعون من أصدقائه المقربين. ثم عرض على الاجتماع، أن يتنازل عن الحكم؛ لمن يختارونه من آل سعود. ولكنه أوضح للمؤتمر أنه لا يفعل ذلك خوفاً من أحدٍ منهم، أو جماعة، وإنما لأنه لا يريد أن يحكم أناساً لا يريدونه حاكماً لهم. وأشار إلى أفراد الأسرة المالكة الذين يحضرون الاجتماع، وطلب إلى المجتمعين أن يختاروا واحداً منهم لتولي الحكم، وأنه سوف يوافق على قرارهم . ولكن المندوبين رفضوا العرض رفضاً قاطعاً، وهم يصيحون "لن نرضى بغيرك بديلاً يحكمنا". وبعد ذلك مباشرة، وفيما يشبه الأداء المنظم، طلب الملك عبدالعزيز من الحاضرين أن يقولوا ما يريدون. ووعد بألا يُعاقب أحداً على ما سيقوله .
وعلى الرغم من أن المؤتمر كان قد عُقد من الناحية الشكلية، لمناقشة الأخطار، التي ترتبت على انتهاك البريطانيين لبروتوكولات العقير، وانتهاكهم لسيادة نجد من طريق الغارات الجوية، التي قاموا بها على القبائل، فإن كل من شهد المؤتمر كان يعرف أن موضوعه هو حسم الصراع بين الإخوان والملك عبدالعزيز.
وتحدث ممثلو العلماء في البداية . وأقسموا أنهم لم يكتشفوا قط أي فتور في غَيْرة الملك عبدالعزيز على الدين، أو إخلاصه لنشر الإسلام. وأردف العلماء قائلين: إن كان الملك قد ارتكب بعض الأخطاء، فذاك شيء طبيعي، لأن محمداً ـ هو الوحيد المعصوم من الخطأ. إن الأخطاء، التي ربما يكون الملك عبدالعزيز قد ارتكبها، لا تتيح لشعبه أن يدير له ظهره، أو أن يدير هو ظهره لشعبه. واختتم العلماء حديثهم قائلين: إنهم لم يشهدوا بما قالوه خوفاً من الملك، بل إحقاقاً للحق، لأنهم بوصفهم علماء يتعين عليهم إرشاد الناس وتوجيههم.
ثم تكلم بعد ذلك أعضاء من الإخوان . وكان المتكلمون الرئيسيون يمثلون نواباً عن فيصل الدّويش نيابة عن قبيلة مطير، وتكلم عن مشايخ قبيلة حرب كل من البحيماح، وعبد المحسن الِفرْم والطويي وابن بخيت. كما تحدث ابن ربيعان ممثلاً لقبيلة عتيبة، وابن عمار وابن حشر ممثلين لقبيلة قحطان. وأقروا كلهم بمساعدة الملك عبدالعزيز لهم، واعترفوا بقيادته واحترامه لضعافهم ومُسِنِّيهم، كما نسبوا إليه فضل بناء مساجد لهم في الهُجَر، وإرسال الدعاة لتعليمهم الدين الصحيح. لم يشكّوا أبداً في ذلك كله، ولكن، على الملك عبدالعزيز ألاّ ينسى أنهم تخلوا عن حياتهم الرعوية الترحالية، وهَجَروا قبائلهم، وثرواتهم، في بعض الأحيان، تلبية لندائه لهم باتباع الدين الصحيح، وأن يجاهدوا في سبيل الله، وأن سيوفهم ودماءهم هي التي جلبت له النصر . وكان من أهم المواجهات، التي دارت في المؤتمر، ما أوضحه قادة الإخوان من أنهم يريدون أن يستوضحوا بعض النقاط، قبل أن يتبعوا الملك عبدالعزيز، مرة أخرى، دون قيد أو شرط. والسبب في ذلك، أنهم يخشون غضب الله، أكثر من خشيتهم للملك عبدالعزيز.
وأثار الإخوان بعض الأسئلة، التي طرحوها على العلماء من قبل فردوا عليها؛ واقتنع بعض الإخوان بتلك الردود، ولكن بعضاً منهم لم يقتنع. وأصرّوا على طرح الأسئلة التالية على الملك عبدالعزيز، وعلى العلماء مجتمعين.
وأقسموا على أن يتبعوا ما يُفْتي به العلماء:
أ- مسألة البرق (التلغراف أوالأتيال). فهي من وجهة نظرهم نوع من الشعوذة والسِّحر. ولمّا كان الإسلام يحرِّم السحر، فهل يمكن للمسلم الحقيقي أن يستعمل التلغراف من دون أن يضر بالدين؟
ب- مسألة حض القرآن على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هل كان الملك عبدالعزيز يوفد الدعاة الدينيين إلى المناطق، التي كانوا يفتحونها لهداية أهلها، الذين كانوا يزعمون أنهم مسلمون، إلى الدين الصحيح؟لقد كانوا يخشون أن الملك عبدالعزيز قد بات متساهلاً في تلك المسألة.
ج- مسألة المخافر التي أنشأها البريطانيون في المناطق الحدودية بين نجد والعراق. لقد نفد صبر الإخوان في هذا الصدد. هل يعتقد الملك عبدالعزيز أن دينه أعطاه الحق لترسيم الحدود في المناطق التي كانت مملوكة لهم ولأجدادهم على مر الأجيال؟ وبعد أن التزم الملك عبدالعزيز بمثل تلك الحدود مع النصارى، كيف يسمح لهم بخرق المعاهدة، التي أبرمها معهم، وهي معاهدة تحظر إنشاء المخافر في مناطق الآبار؟إن مسألة المخافر لا يمكن السكوت عليها، أكثر من ذلك. وهم على استعداد لقبول حكمه في هذا الموضوع،
ولكن بالشروط التالية:
(1) أن يحصلوا من العلماء على حكم مؤسَّسْ على الشريعة، مفاده: إذا سكت الإخوان على ذلك الأمر، وترتب عليه إضرار بالدين أو المسلمين، فإنهم سيكونون أبرياء من الملامة أمام الله.
(2) أن يضمن لهم الملك عبدالعزيز، شخصياً، أنه لن يسمح بحدوث أي ضرر لهم، أو لدينهم أو لبلدهم، نتيجة لإنشاء تلك المخافر. وأردفوا قائلين: "إنه إذا لم يستطع ذلك، فإننا نقسم بالله إننا لن نسمح بقيام تلك المخافر طالما استمرت دقات قلوبنا، أو بقيت الحياة في واحد منا، لأننا نفضل أن نموت وأن نقتل جميعاً على أن نرى خطراً يُهدد ديننا وبلدنا ونسكت عليه".
د- مسألة منع الناس عن الجهاد. لِم فعل الملك عبدالعزيز ذلك؟ ولِم أوقف نشر كلمة الله؟
وبعد انتهاء المندوبين من إلقاء خطبهم، طلب الملك عبدالعزيز سماع المزيد من الآراء والانتقادات؛ ولكن أحداً لم يقل شيئاً، فنادى مرة ثانية وثالثة. ورد عليه المتحدثون بأنهم قد أفرغوا صدورهم من جميع التساؤلات. ثم أخذ الملك عبدالعزيز، بعد ذلك، في الرد على تلك التساؤلات. فطلب من العلماء ـ فيما يتعلق بمسألة البرق "التلغراف" والاختراعات الحديثة الأخرى ـ أن يتحدثوا في هذا الموضوع. فقرأ العلماء نصاً من فتوى سبق إعدادها من قبل، وتعبر عن رأيهم في ذلك الشأن، ومفادها أنهم لم يجدوا سبباً شرعياً للمنع في القرآن أو السنة، أو عند علماء الإسلام السابقين. ولذلك، ما لم يُقدم المُعارض لاستخدام هذه المخترعات دليلاً شرعياً على ما يقول، فإنهم لا يرون حرجاً في استعمال التلغراف والاختراعات الحديثة. وفيما يتعلق بالمسلمين المنحرفين عن الدين الصحيح، كرر الملك عبدالعزيز على أسماع المؤتمر أنه أرسل دعاة إلى كل مدينة وبلدة، بل إِنه أرسل مؤخراً دعاة إلى قبيلة في شمال الحجاز هي بني مالك. وقال للحاضرين: إذا كان مشايخ القبائل لا يؤدون ما عليهم في هذا الصدد، فإنه يتعين عليهم إبلاغه بذلك، وسوف يتصرف بناء على التوصيات التي سيرسلونها إليه. وعن مسألة المخافر، أبلغ المؤتمر أن تلك المخافر إنما أنشئت بسبب الغزوات، التي كان الإخوان يقومون بها. فقد كان البريطانيون يتهمون فيصل الدّويش بقتل رجال الشرطة. "أنا، الملك عبدالعزيز، لم أفعل ذلك، والبريطانيون يقولون إنهم أقاموا تلك المخافر خوفاً منكم" .
ورد الإخوان أنهم بريئون من أفعال فيصل الدّويش، وهم على استعداد لِقتاله بشرطين:
(1) أن يُدمر الملك عبدالعزيز المخافر، التي أُنشئت مؤخراً، والتي يرى الإخوان وجودها مسألة حياة أو موت، بالنسبة لهم.
(2) أن يعد البريطانيون بألا يحولوا بين الإخوان وأولئك الذين يرى الإخوان ضرورة معاقبتهم، من أمثال يوسف السعدون الزعيم العراقي.
وأردف الإخوان قائلين: إن المخافر تجرى تقويتها كل يوم، "ونحن نصارحك أن ديننا وحياتنا في خطر، وأن البريطانيين هم الذين بدأوا بالشر".
وعند هذه المرحلة، أدلى العلماء برأيهم في مسألة المخافر، ووقفوا إلى جانب الإخوان. وأبلغوا الملك عبدالعزيز أن المخافر تشكل خطراً على العرب والمسلمين، خاصة أهل نجد، ولا بد أن يفعل كل ما في وسعه لإزالة تلك المخافر. وأن الجهد الموجه لإزالة تلك المخافر لا يدخل في حكم الجهاد، وإنما هو دفاع عن الدين.
وصاح الإخوان ابتهاجاً برأي العلماء قائلين: "هل سمعتم ما يقولون. نستحلفك بالله أن تقول لنا رأيك في تلك المخافر؟ ورد عليهم الملك قائلاً: أنا أقول إن ما قاله العلماء صحيح، وأقسم إنني سوف أبت في الموضوع. وفيما يتعلق بمسألة الجهاد، فأنا أريد التحدث عنها في مكان آخر وعلى انفراد. ثم طلب إليهم أن يختاروا من بينهم خمسين شخصاً يمثلونهم ليجتمعوا معه، ويقول لهم رأيه في موضوع الجهاد، وأنهم سيتوصلون إلى بعض القرارات لإنهاء الموضوع. وفي ختام المؤتمر قال الملك عبدالعزيز للحاضرين: "أقول لكم جميعاً، كباراً وصغاراً، إن حياتنا لن تكتمل إلاّ بالسلام، الذي يضمن لنا حقوقنا الكاملة في الدفاع عن حقوقنا وتحقيقها. فإما الانتصار وإما الاحتضار دفاعاً عن مقدساتنا وأمتنا؛ وأنا أقطع على نفسي عهداً بذلك أمام الله " .
وانتهى المؤتمر بأن وقف الأمير سعود، الابن الأكبر للملك، يقدم لوالده الحاضرين من الضيوف، ليُقسم كل منهم قسم الولاء والطاعة من جديد. وبعد تناول العشاء، اجتمع الملك بممثلي الوفود الخمسين شخصاً، من الساعة الثانية مساءً حتى الساعة السادسة ، ولم تذع محاضر هذا الاجتماع، ولا المحاضر التي تلت ذلك عن موضوع الجهاد، سوى القول إن المجموعة، التي اجتمعت مع الملك عبدالعزيز، توصلت إلى قرارات جماعية تناولت موضوع الجهاد.
وانتهى المؤتمر بحصول الملك عبدالعزيز على تأييد كل من العلماء والإخوان له، في مواجهة تمرد القائدين، فيصل الدّويش وابن بجاد.
ــــــــــــــــــــــــ
2- الإخوان بعد مؤتمر الرياض
عقب مؤتمر الرياض، الذي كان نصراً مبيناً للملك عبدالعزيز على زعماء الإخوان الثلاثة، وحَرِصَ أكثر الإخوان والعلماء والجماعات ذات التوجه الديني، على التزام الحياد في الصراع الدائر بين زعماء الإخوان والملك عبدالعزيز.
تجاهل زعماء الإخوان ما جرى في المؤتمر، وأذاعوا في القرى والهُجَر أنهم قائمون بأمر الشريعة والدين، التي يهدمها الملك عبدالعزيز.
وقد أرسل فيصل الدّويش إلى الأمير سعود بن عبدالعزيز رسالة، عقب مؤتمر الرياض، تدل على أن المؤتمر لم يحقق الراحة النفسية الدينية الجهادية، التي كان الإخوان يأملون فيها. وأن هويّتهم الدينية مازالت معرضة للخطر، حين منعوا من الغزو والجهاد. يقول الدّويش في رسالته:
"لقد منعتني أيضاً من غزو البدو. وعليه فنحن لسنا مسلمين نحارب الكفار، ولا عرب وبدو يغزو بعضنا بعضاً، ونعيش على ما يحصل عليه بعضنا من البعض الآخر. لقد باعدت بيننا وبين اهتماماتنا الدينية واهتماماتنا الدنيوية. صحيح أنك لم تفشل في أن تفعل كل ما في وسعك من أجلي ومن أجل أهلي وناسي، ولكن إلى أين تذهب بقية قبائلي. إنهم سيموتون، وكيف لنا أن نرضى عن ذلك. لقد كان من عادتك في الماضي أن تصفح عن كل واحد منا يرتكب خطيئة من الخطايا، ولكنك الآن تعاملنا بالسيف وتتغاضى عن النصارى، وعن دينهم وقلاعهم، التي أنشأوها من أجل تدميرك" .
لم تنجح الجهود المتكررة، التي بذلها الملك عبدالعزيز، لحل الخلافات مع القادة المتمردين، خاصة ابن بجاد والدّويش. ويرجع السبب في ذلك، إلى حدٍّ كبير، إلى الحقيقة التي مفادها أن كل واحد من الزعماء الثلاثة المتمردين، كانت دوافعه الأساسية مختلفة عن الاثنين الآخرين. ومما لا شك فيه، أن ابن بجاد كان مسلماً أميناً مخلصاً، يشعر بالقلق البالغ إزاء اتجاه البلاد نحو التحديث، والاتجاه نحو التعاون الوثيق مع النصارى
لم تنجح سلسلة الرسائل المتبادلة بين زعماء التمرد والملك عبدالعزيز في نزع فتيل الأزمة، ولا المحاولات العديدة لترتيب اجتماعات تلتقي الأطراف فيها وجهاً لوجه. وفي الوقت نفسه، استمرت غارات الإخوان، وزادت حدّتها.
ترك سلطان بن بجاد قريته الغطغط، لقربها من الرياض، وانضم إلى فيصل الدّويش في الأرطاوية. وأغار ضيدان بن حثلين على عرب العراق وبادية الكويت والزبير. وضج العراق من اختلال الأمن على حدوده مع نجد.
وبينما كان الملك عبدالعزيز ينشد تسوية من طريق المفاوضات ـ تكون أقل كلفة مالية، وتحافظ على العلاقات القبلية من خطر الصراع على السلطة ـ اكتشف أن الفرصة تفلت من بين يديه، لتختفي نهائياً عندما غزا الإخوان، في شهر رجب 1347هـ/ ديسمبر 1928م (أي بعد أقل من شهر على مؤتمر الرياض)، قافلة النجديين العزّل في الجميمة، فضلاً عن غزوهم أيضاً بعض أتباع قبيلة شّمر، التي كانت كلها من رعايا الملك عبدالعزيز. وقد ذبح الإخوان تجار القافلة، ولم يعد بوسع الإخوان أن يزعموا أنهم كانوا يهاجمون الكفار؛ وفي المقابل، لم يطق الملك عبدالعزيز أن يقف مكتوف الأيدي أمام تحدي زعامته وسلطته، حين تُشنّ هجمات، لا يطولها العقاب، على رعاياه .
لم يمضِ ستون يوماً على مؤتمر الرياض، حتى أفصح سلطان بن بجاد ـ في يناير 1929 ـ عن نيته في شن حرب مقدّسة ضد العراق، في تحدٍّ صارخ لكل من الملك عبدالعزيز ومؤيديه في مؤتمر الرياض. وتحرك مع قواته في اتجاه العراق، حيث انضم إلى عناصر فيصل الدّويش من إخوان مطير، وعناصر ابن حثلين من قبائل العجمان، التي كانت تشن غزوات متقطعة على قبائل المنتفق الرعوية.
وقد دفعت تلك الإغارات العراقيين إلى اتخاذ إجراءات تأديبية قاسية. وبمساعدة القوات الجوية البريطانية، بدأ العراقيون يقصفون الغزاة من رجال القبائل. وكانوا في بعض الأحيان يتعقبونهم إلى نجد، ويقصفون مخيماتهم وموارد مياههم. وكانت إحدى هجماتهم على قبيلة مطير في "اللصافة"، حيث أصيب عدد كبير من النساء والأطفال. فاضطر الملك إلى تقديم احتجاج شديد اللهجة إلى الحكومة البريطانية. ثم واصل محاولاته للتفاوض مع زعماء الإخوان، لكنهم كانوا يزدادون تعنتاً. وكثيراً ما رفضوا حتى المجيء إليه في الرياض. ولم يكن من غير المعتاد، أن ترى أعداد كبيرة من الإخوان المسلحين يدخلون إلى الرياض ويخرجون منها، معلنين بصراحة عن قوتهم، وعدم احترامهم للسلطة المركزية.
3- اتساع فجوة الخلاف بين الملك عبدالعزيز والإخوان
تصاعدت قوة الإخوان أكثر فأكثر، وازداد نفوذهم في الحياة اليومية. ويُروى أنهم جلدوا علناً رئيس الديوان الملكي، بسبب الشكِّ في أنه لم يؤد الصلاة مع الجماعة. وكانت جماعات منهم تجوب الشوارع وتتصرف بوصفها شرطة دينية، عينت نفسها لتعاقب كل شخص لا يتبع تعاليمها الصارمة. أمّا هم فقد تحلُّوا بأقصى ما يمكن من العزوف عن الحياة الدنيا؛ فَحَرّموا على أنفسهم كل متعة مهما كانت ضئيلة. وكانوا يصرّون على ارتداء الملابس الخشنة؛ ويعتبرون الناعم من الثياب بذخاً محرّماً. وكانوا لا يبيحون أي نوع من أنواع الحلي. وقد ذهب كثيرُّ منهم أبعد من ذلك، ورأى وجوب إزالة الخيوط الذهبية المنسوجة في عباءاتهم. وكان من المألوف أن يمسكوا بمن يظهر وشارباه غير محفوفين، أو ثوبه أطول مما هو معتاد، فيقصوا الزائد من شعره أو ثوبه. ولم يسلم الملك عبدالعزيز نفسه من موقف مثل هذا. فقد ورد أنه زار مرة فيصل الدّويش في الأرطاوية، فحياه مضيفوه بقولهم إن ثوبه كان أطول مما ينبغي، فقصوا ما زاد عن الحدّ المعتاد، والملك مرتدياً ثوبه .
وفي اليوم الثاني عشر من شهر رمضان 1347هـ/ فبراير1929م، والملك يتأهب للتوجه إلى الحجاز لأداء الحج، وردت الأنباء بأن قبيلتين من أعظم قبائل الإخوان، عتيبة ومطير، اجتمعتا في شمال القصيم، استعداداً لشن هجوم شامل على الأراضي العراقية؛ فأدرك عدم جدوى محاولاته إقناعهم بالطرق السّلمية، وأن الحركة التي أنشأها لنشر السلام والاستقرار في مملكته صارت أداة للعنف والفوضى. وقد أصبح واضحاً، كل الوضوح، أن القوة يجب أن تواجه بالقوة. فبدأ جلالته يستعد للحرب، وقلبه مثقل بالألم.
واستمر الموقف على تدهوره، وانتقل الملك عبدالعزيز إلى القصيم لمواجهة هذه الأزمة من ناحية، ولإعداد نفسه وتجهيزها لمواجهة عسكرية سافرة معهم، من ناحية أخرى. واتخذ لنفسه جنوداً من الحضر وسكان القرى، الذين كان عدد منهم يتحرق إلى مقاتلة الإخوان، ليس انتقاماُ لإخوانهم الحضر، الذين قاسوا من غزوات الإخوان فحسب، وإنما لضمان أمن مستقبلهم وسلامته.
وقد تبادل زعماء المتمردين الثلاثة الرسائل مع الملك عبدالعزيز، قبل إعلان الحرب عليهم، على أمل التوصل إلى تسوية من طريق التفاوض. واستمرت تلك الجهود إلى ما قبل الليلة السابقة لمعركة السّبَلَة، المعركة الفاصلة.
ظل الإخوان حتى اللحظات الأخيرة من عمر حركتهم، يأملون في الاستمرار قوة عسكرية دينية، تحت قيادة الملك عبدالعزيز. يواصلون فتوحاتهم وينشرون العقيدة الصحيحة. كما كان الملك عبدالعزيز يُدرك أهميتهم ودورهم، وأنهم قوته وسنده، وأنهم صادقون فيما أدوه من خدمات جليلة مقدّرة، خلال مسيرته العسكرية والسياسية. ولكن وجد الملك عبدالعزيز نفسه مواجهاً بضرورة الاختيار الصعب: وهو ردع زعماء الإخوان، وإحباط تمردهم.
ــــــــــــــــــــــــ
القضاء على حركة الإخوان
خـرج الملك عبدالعـزيز على رأس قوة من الرياض في 22 رمضان 1347هـ/ 5 مارس 1929م، وقصد مدينة بريدة. فأقام بها، حتى لحقه ابنه الأمير سعود ببقية القوات. وعند وصول الأمير سعود إلى النبقية، من قرى القصيم، خرج إليه والده الملك عبدالعزيز من بريدة، وتجمعت لديه حشود من حضر نجد، ومن بوادي حرب وقحطان وسبيع من الإخوان، وقسم من عتيبة. وارتحل الملك مع قواته إلى الزلفي، لمقابلة قوات الإخوان. وكانت قوات الإخوان التابعة لكل من ابن بجاد وفيصل الدّويش، قد تحركت بدورها صوب الأرطاوية، وبلغ قوامها أربعة آلف مقاتل. وبقي ضيدان بن حثلين ومعه العُجْمان في الأحساء، متمردين من ناحية الشكل ولكنهم لم يبذلوا جُهْداً للمشاركة في مواجهة عسكرية مكشوفة. وتمركزت قوات الفريقين على بعد عدة أميال من بعضها بعضاً، في ساحة منبسطة لا يعترضها سوى ارتفاعات طفيفة في سطح الأرض، في منطقة تُسمى "روضة السّبَلَة"، تقع بين عاصمة الإخوان في الأرطاوية، وبلدة الزلفي إلى الشرق منها.
وبدأت الفرقتان المتعارضتان تستقران، كلٌّ في معسكره، ولم يكن هناك إيحاء بقرب وقوع أي اشتباك. وبدأت مفاوضات بين الطرفين. وفي البداية، أرسل الملك عبدالعزيز شيخاً وقوراً، هو الشيخ عبدالله العنقري، أحد علماء نجد البارزين، إلى معسكر الإخوان، لمحاولة إقناعهم بالرضوخ للتحكيم، القائم على الشريعة. وباءت هذه المحاولة بالفشل. ثم أرسل سلطان بن بجاد مساعده الشيخ ماجد بن خثيلة، ومعه رسالة إلى الملك عبدالعزيز. وانتهت هذه المحاولة، كذلك، إلى الفشل .
وبعد أن فشلت محاولات الشيخ العنقري وابن خثيلة، حضر فيصل الدّويش نفسه إلى معسكر الملك عبدالعزيز. وتزعم بعض الروايات، أن فيصل الدّويش وعد الملك عبدالعزيز، أنه سوف يرسل إليه رد الإخوان المتمردين على مطالبه في تلك الليلة، ولكن لم يصل أي رد. وقد أوردت جريدة أم القرى الواقعة، على النحو الآتي: "وآخر الأمر قدم إلى جلالته فيصل الدّويش، ليفاوض جلالته بالعفو والصفح عن المجرمين. فأعطاه جلالته أماناً على رقابهم وأموالهم، وأن يحكم الشريعة في أعمالهم، فسار الدّويش على أن يرسل الجواب من ليلته فلم يرسل" . وهناك بعض الروايات تقول: إن الدّويش لم يقسم على الولاء للملك عبدالعزيز فحسب، وإنما وعد بمحاولة إقناع ابن بجاد بالتخلي عن التمرد. وأنه إذا لم ينجح في ذلك، فسوف يعود مسالماً إلى الأرطاوية.
1- معركة السّبَلَة
أصبحت المواجهة حتمية بين الفريقين، ففي صباح 19 شوال 1347هـ/ 30 مارس 1929م شنّ الملك عبدالعزيز هجومه على قوات الإخوان ، وكانت تلك القوات تفوق قواته بنسبة لا تقل عن ثلاثة أضعاف. وقد وصفت جريدة "أم القرى" المعركة، على النحو التالي:
"ولما وصل إلى جلالته إعراضهم، نادى على فرسه فأُسرجت، وتقلد بندقيته، وشدّ على وسطه محزمه، وسار تحف به كواكب الفرسان.
لقد كان للمعركة منظر عجب، فقد جعل الجند صفاً واحداً على طول ثلاثة أميال أو أكثر، وراياتهم تخفق بين الجموع. واستلم جلالته قيادة القلب. وجعل على خيالة الميسرة أكبر إِخوته سمو الأمير محمد بن عبدالرحمن، وعلى خيالة الميمنة أكبر أنجاله سمو الأمير سعود، وقاد الفرسان عبد المحسن الفرم من شيوخ حرب.
وكان الإخوان قد اتخذوا لهم معاقل ومعاصم اعتصموا بها، فلما اقترب الجمعان وابتدأت المعركة بين المشاة، سار أنجال جلالته وأنجال إِخوته، وأبناء عمومته في مقدمة الخيل وأقدموا إقداما المستميت، حتى كسروا خيل الإخوان وقطعوا ظهور المشاة، وما هي إلاّ نصف ساعة حتى ارتد الإخوان على أدبارهم، وتعقبتهم القوات، فمن ألقى سلاحه سلم؛ ولم يمض إلاّ ساعة حتى كانت المعركة قد انتهت بفشل الإخوان، وانخذالهم وانكسارهم.
وبعد أن انتهت هذه المعركة الفاصلة، عاد جلالته، على فرسه، وهو يحمد الله ويشكره على تأييده ونصره، ثم أخذ ينظر في أمر الجند، وتسريحه، وتدبيره." .
لم تستغرق المرحلة الحاسمة من المعركة سوى نصف ساعة، فقط، اتضح بعدها، أن الإخوان عاجزون عن تحقيق النصر، وقد استسلم بعضهم. وبعد ذلك بساعة واحدة، انتهى القتال وتفرقت جموع الإخوان.
وهرب فيصل الدّويش، من ميدان القتال، بعد أن جُرح جرحاً بليغاً. وتمكن، بمساعدة رفاقه، الوصول إلى الأرطاوية، وهو ينزف دماً.
ثم رجع به رفاقه، ثانية، إلى الملك عبدالعزيز، يحيط به أولاده ونساؤه يبكين ويشفعن فيه عند الملك، ويطلبن العفو والسماح . ووعد الملك عبدالعزيز بالإبقاء على حياتهم، شرط أن يخضعوا لحكم الشرع، وأخذ عليه العهد بالطاعة. ونظراً لأن إصابة فيصل الدّويش كانت بالغة، فأمر طبيبه الدكتور مدحت شيخ الأرض بمداواته، وسمح له الملك عبدالعزيز بالعودة إلى الأرطاوية، على أن يسلم نفسه إلى الرياض، عندما يشفى.
أمّا سلطان بن بجاد، فقد هرب إلى الغطغط. وأرسل الملك عبدالعزيز كتاباً إليه يطلب فيه، تسليم نفسه وجميع من معه، إمّا في الرياض أو في شقراء، بدلاً من معسكر الملك عبدالعزيز، خشية أن يتعرض لغضب القوات عليه. وأرسل الملك عبدالعزيز أخاه عبدالله بن عبدالرحمن (وقيل ابنه سعود) إلى تلك الهجرة، فدكها ودمرها عن بكرة أبيها. واستسلم سلطان بن بجاد في شقراء، فأمر الملك عبدالعزيز بسجنه في الرياض. ثم نقل بعد ذلك إلى سجن الأحساء، الذي قبع به حتى توفي عام 1353هـ/1934م .
أما ضيدان بن حثلين، الذي لم يشارك مشاركة فعالة في التمرد، واحتفظ بقواته في الأحساء، فقد ظل بعيداً عن الصدام المباشر مع الملك عبدالعزيز. ولكن الملك عبدالعزيز أمر عبدالله بن جلوي أمير الأحساء بتأديب العجمان.
2- ما بعد السّبَلَة
بعد أن انتهت معركة السّبَلَة، رأى الملك عبدالعزيز عدم مطاردة المتمردين ، على أمل أن يعودوا إلى رشدهم، خلال الفترة التي عاد فيها إلى الحجاز، لأداء فريضة الحج في عام 1347هـ/1929م . وكان يأمل أن يتدبروا، كذلك، خلال تلك الفترة، أخطاءهم ويتعرّفوا بها. ونظراً إلى عدم استكمال النصر، واجتثات مشكلة التمرد من جذورها، اضطر الملك عبدالعزيز لأن يعود، من الفور، لإخماد تمرد آخر. وفي هذه المرة، دفع بكل جهوده وقدراته العسكرية إلى المعركة.
أ- مقتل ضيدان بن حثلين
وقع حادث يخص قبيلة العجمان، أدى إلى إضرام النار في منطقة الأحساء بكاملها. كما وحّد عناصر الإخوان، من البدو، في مواجهة الملك عبدالعزيز. ومهما يكن من أمر، فإن ما حدث، كان بمثابة عامل مساعد للتمرّد الجديد، فضلاً عن أنه وسّع مجال المشاركين في التمرد وزاد من أعدادهم.
والذي حدث، أنّ أمير الأحساء عبدالله بن جلوي، طلب ضيدان بن حثلين للمثول عنده في الأحساء، ولكنه رفض. فأرسل ابن جلوي ابنه فهداً، وبصحبته نايف بن حثلين الملقب بأبي الكلاب (ابن عم ضيدان بن حثلين، ولم يكن مشاركاً مع العجمان في التمرد) وقواتهما، لأسر ضيدان بن حثلين، الذي كان قد استقر في هجرته في الصَّرَّار. وكانت قوات فهد بن عبد الله تتكون، في معظمها، من الحضر، من أهل الهفوف، في حين كانت قوات نايف بن حثلين من قبيلة العجمان، بطبيعة الحال. وقبل أن يصل فهد إلى الصَّرَّار عسكر بقواته في العوينة، على مسافة أربع ساعات من الصَّرَّار، وأرسل مذكرة إلى ضيدان يقول فيها: إنه يريد أن يتحدث معه في أمر غزو بعض المتمردين في المنطقة. ودعا ضيدان فهداً إلى دخول الهجرة، ولكن فهداً رفض الدعوة، وطلب إلى ضيدان أن يقابله في المعسكر. وذهب ضيدان إلى معسكر فهد خلافاً لنصيحة مستشاريه. وهناك أُسر وقُيد بالسلاسل والأغلال. وعندما لم يعد ضيدان إلى هجرته في تلك الليلة حتى المساء، ثار العجمان على كل من فهد ونايف. وشهدت المعركة التي دارت على أثر ذلك، فشل فهد وقواته. وفي تقدير سيئ من فهد بن جلوي، أمر أحد رجاله أن يجهز على ضيدان بن حثلين، فقتله فوراً. وعندما شاهد نايف بن حثلين رجلاً من أسرته وقبيلته يقتل ظلماً، وخلافاً للتقاليد العربية التي تحكم الضيافة، انقلب على فهد وانضم إلى العُجمان مرة ثانية، وتولى القيادة التي خلت بعد اغتيال ضيدان. وتوالت الأحداث حيث قُتل فهد هو الآخر على يد العجمان، وكان ذلك في 19 ذي القعدة 1347هـ/ 30 أبريل 1929م. وقتل العجمان عدداً كبيراً من قوات فهد بن جلوي، واستولوا على كل المؤن والخيول لديها. وخشي العجمان من بطش أمير الأحساء عبدالله بن جلوي ثأراً لمقتل ابنه، ففـروا إلى الشمال، فنزلـوا في الوفـراء، قـرب الكويت. وتـولى قيادتهم نايف بن حثلين (أبو الكلاب)، وانضموا إلى إخوان مطير، الذين تجمعوا في الوفراء أيضاً .
وتوافدت، إلى تلك القوات، حشود أخرى من مطير، من طلاب الكسب والغنائم، يقودهم جاسر بن لامي. وكذلك، لحقت بهم جماعة من عتيبة ومن عنزة، وانضم إليهم فرحان بن مشهور من الرولة، الذي كان موجوداً بالجهراء. وأخيراً، انضمت إليهم فلول معركة السبلة .
ولمّا ضاقت الوفراء بتلك القوات، انطلق العجمان، ومن معهم، لمهاجمة الجبيل، واتخاذها مركزاً لتحركاتهم. وهم في الطريق إلى الجبيل، اعترضتهم قبيلة العوازم، ولم يلبوا طلب نايف بن حثلين في الانضمام إليهم، فهاجموا العوازم في 17محرم 1348هـ/ 26 يونيه 1929م، على ماء "رضى"، ووقعت خسائر جسيمة في صفوف الإخوان، بعد أن ثبت لهم العوازم. وكان فيصل الدّويش قد شفي من جراحه، ونسي عهده، الذي قطعه على نفسه للملك عبدالعزيز، فانطلق في 12 محرم 1348هـ/ 21 يونيه 1929م، إلى تلك الحشود، واشتد به ساعد نايف أبي الكلاب، بعد هزيمته في وقعة رضى.
عندما علم الملك عبدالعزيز، وهو في الحجاز، بمقتل ضيدان والطريقة التي اغتيل بها، تأكد أن تمرداً سوف ينشأ على إثر ذلك. وقرر الملك عبدالعزيز وضع حد فاصل لتمرد الإخوان ولحشودهم، التي استعدت للحرب، مستخدماً كل ما لديه من قوة عسكرية، فضلاً عن الوسائل الآلية الحديثة المتاحة له. وحصل على وعد وتأييد دبلوماسي من بريطانيا وغيرها، بعد أن كتب إلى سفرائه وممثليه بالخارج، يخبرهم بحقيقة هؤلاء العصاة، ليكونوا على علم، عندما يُسألون من الدول، التي يعملون بها، عن حقيقة الموقف.
واستطاع الملك عبدالعزيز، قبل مغادرته الحجاز، أن يحصل من البريطانيين، من طريق التفاوض، على وَعْدٍ بأنهم لن يسمحوا لأي من الدول الثلاث التي يحكمونها (الكويت، والأردن، والعراق) بأن تعاون الإخوان، أو تساندهم، أو تؤويهم. وإذا ما سُمح للإخوان بعبور الحدود والبقاء في أي من الدول الثلاث، باعتبارها ملجأ، سيكون من حق الملك عبدالعزيز مطاردتهم وتتبعهم داخلها. واشترط البريطانيون على الملك عبدالعزيز شرطاً خاصاً، هو ألاّ يقتل أياً من الإخوان الذين قد يلجأون إليهم، إذا أعادوهم إلى الملك عبدالعزيز. وقَبِل الملك عبدالعزيز بذلك الشرط، غير أنه استدرك أنّ المتمردين، بغض النظر عن حياتهم التي سيُبقى عليها، فإنهم سيحاكمون طبقاً للشرع .
ب- مؤتمر الدوادمي والشَّعَراء
توجه الملك عبدالعزيز من الحجاز في طريقه إلى الرياض، بعد أن أوفد إلى مشايخ قبائل عتيبة الموالية له، مراسلين يطلبون إليهم، ومعهم أعيان القبائل الأخرى، الحضور لاجتماع معه، في بلدة الدوادمي، التي عرج عليها في صفر 1348هـ/ يوليه 1929م. كان الجزء المتمرد من قبيلة عتيبة ما يزال في السّبَلَة. وكان جزء منهم لم يتم إخضاعهم بعد، بينما الجزء الذي لم يكن في حالة تمرد نشطة، لم يكن قد صالح نفسه بعد مع الهزيمة؛ وكان هناك فريق من الهاربين بعد المعركة، ولم يكن العفو قد صدر عنهم بعد. وعندما وصل الملك عبدالعزيز إلى الدوادمي نُصبت خيمة كبيرة لهذه المناسبة، التقى فيها نحو ألفان من قبيلة عتيبة. وفي الاجتماع، كشف الملك عبدالعزيز عن خططه للهجوم على العُجمان، وطلب المساندة، التي إن لم تكن إيجابية فلتكن سلبية، على أقل تقدير. كان العتبان موزعين على أكثر المناطق حساسية، فقد كانوا موجودين في أقصى الجزء الشرقي من الحجاز، وفي الجزء الغربي من نجد.
وفي حديثه إلى المجتمعين ، أبلغهم أن بينهم ثلاث مجموعات، الأولى مخلصة لدينها، وموالية له. الثانية انتهازية. أما الثالثة، وهي أصغر المجموعات الثلاث، فتشتمل على نواة المتمردين. ثم أوضح لهم أنه، بعد معركة السّبَلَة، وجد نفسه في حرج: فإما أن يفوته الحج، (وهو أمرٌ يُعد من عدم الحكمة بوصفه إماماً)، ويبقى في نجد لتأديب المتمردين، أو أن يعود إلى الحجاز. فقرر الذهاب إلى الحجاز، لأداء الحج.
وقد شعر الملك عبدالعزيز أن مسألة تمييز المتمردين، الذين كانت لهم ثارات وأحقاد، عن أولئك المتمردين المضللين أمرُ صعب. وعلى كلٍ، كان العُجمان قد رفعوا لواء التمرد والعصيان، كما سبق ذكره، وكان الملك عبدالعزيز قد خطط "للهجوم عليهم عند طلوع هلال ربيع الأول 1348هـ /7 أغسطس 1929م. وقال إِنه لن يوافق على تخلف أي رجل، على قيد الحياة، من أولئك الذين اشتركوا في معركة السّبَلَة وقاتلوا المتمردين فيها. "إن من يحارب إلى جانبنا ينتمي إلينا، ومن سيتخلف عن القتال من دون سبب شرعي سوف يُقتل، أو تسحب منه أسلحته وحصانه ". ثم عفا الملك، بعد ذلك، عن أولئك المتمردين من قبيلة عتيبة، الذين حضروا الاجتماع. واستجابة لرجائهم، وسّع الملك عفوه، ليشمل الغائبين، كذلك، بشرط:
(1) إذا كان من بينهم مجرمٌ بالقول أو الفعل، فسوف تبذل الجهود لإصلاحه؛ وإذا رفض، فسوف يُحاكم ويُقاضى طبقاً للشرع.
(2) الدولة لها الحق في معاقبة المجرمين، الذين ينهبون المسافرين ويداهمونهم ويقطعون الطرق.
(3) كلُ من يتخلف عن الجهاد، من دون عُذر شرعي، سوف يلقى جزاءه قبل التوجه للعدو.
وبعد انتهاء مؤتمر الدوادمي، واصل الملك عبدالعزيز رحلته إلى الرياض، آملاً أن يكون قد نجح أخيراً في كسب قبيلة عتيبة إلى جانبه. ولكن العتبان تمردوا مرة ثانية، واضطروه إلى إخضاعهم، هذه المرة، بشدة وفاعلية. فقد توغلت جماعة من عتيبة ومن بني عبدالله من مطير في نجد، وقطعوا الطريق، واعتدوا على الناس الآمنين، يقودهم مُقْعِد الدُّهينة من النفعة من عتيبة. واعتدوا على عمال الزكاة، ونشروا الفوضى، في عالية نجد. وكان ذلك في ربيع الثاني 1348هـ/ سبتمبر 1929م.
وإزاء هذا العصيان من عتيبة، انتدب الملك عبدالعزيز أحد رجاله الأشداء، ليغير على عتيبة على ماء "ركية سعدية" قرب القويعية، فقضى على شوكتهم ونكل بهم. وأرسل قوة أخرى من الرياض يقودها خالد بن محمد، وقوة من الحجاز، وثالثة يقودها الشريف خالد بن لؤي، واشتبكت هذه القوات مع العصاة، وانتهى الأمر، بفرار رئيس التمرد مُقْعِد الدُّهينة إلى العراق .
ونتيجة لتمرد قبيلة عتيبة الجديد، طلب الملك عبدالعزيز عقد مؤتمر في بلدة الشَّعَراء، في عالية نجد، بين الرياض ومكة. وكان ذلك في غرة جمادى الأولى 1348هـ/ 5 أكتوبر 1929م. وفي هذا المؤتمر، التقى الملك مشايخ القبائل الأخرى، فضلاً عن التقائه، كذلك، القطاعات الموالية من قبيلة عتيبة. وكرر الملك عبدالعزيز، أمام الحاضرين، كيف أنه عفا عن عتيبة عدة مرات، ولكنها كانت تعود للتمرد، بعد أن تتعهد بالولاء. وأعرب عن مرئياته، فيما يجب عمله. ثم طلب إلى المندوبين أن ينصرفوا إلى حال سبيلهم، وأن يتفكروا فيما قاله، ويتشاوروا مع أهليهم، وأن يعودوا في اليوم التالي بعد أن يتخذوا قرارهم.
وشهد صباح اليوم التالي مناقشة، استمرت أربع ساعات، اتخذت خلالها القرارات التالية:
(1) ضرورة إنزال الهزيمة بكل من تمرد من قبيلة عتيبة، وفرع بني عبدالله من مطير، حتى لا يستطيع الاشتراك في عمل غير شرعي مرة أخرى.
(2) يُجرد كل من شارك في التمرد، ولا يزال حيّاً، من أسلحة ومعدات الحرب، ويُحاكم طبقاً للشرع.
(3) يُجرد من اتهموا بمساندة المتمردين، ولم يقاتلوا إلى جانب الإمام، من الجمال والخيل، التي يركبونها، ومن بنادقهم.
(4) يوافق الإمام، على أن يحتفظ المقاتلون بما استولوا عليه من المتمردين، حتى يتمكنوا من تقوية أنفسهم.
(5) يُرسل أمير، وبصحبته قوات، إلى شقراء معقل المتمردين، لإصلاح ذلك الفساد، طبقاً للشرع وللمصلحة العامة.
(6) يُخلى كل هجرة من الهُجَر، التي خضعت للتمرد، ويوزع سكانها بين القبائل ولا يُسمح لأيٍّ منهم بالتجمع في مكان واحد.
(7) تُرسل قوة بحجم لواء، لتنفيذ هذه القرارات، أثناء وجود الملك في الشعراء، وخلال مدة لا تزيد على عشرة أيام.
(8) تجتمع كل الفصائل، بعد تنفيذ كل هذه المراسيم، في منطقة الحدود، التي احتشد فيها العُجمان المتمردون، ومعهم آل الدّويش .
وقبل الذهاب إلى الشعراء، عمد الملك عبدالعزيز إلى تقوية الحاميات في الأحساء والقطيف وحائل، تحسباً لأي طاريء. وأمر قواته، الذين جاءوا من المدن والهُجَر، بالتجمع في مكان محدد، لانتظار عودته من "الشعراء"، وعندها سوف يبلغهم بموعد التحرك. وقال إن التحرك لن يتأخر عن غرة شهر جمادى الثانية 1348هـ، الذي كان يوافق 4 نوفمبر 1929م .
أنا أعلم جيدا بأن الموضوع قد يكون طويلا ومملا ,,, ولكنه لن يكون كذلك لمن يهتم بتاريخ هذه الحركه أو من يريد أن يكتسب معلومات قيمه عنها.
وأحببت أيضا أن يكون هذا الموضوع مرجعا للأخوه في هذا المنتدى.
ولهذا أحببت أن أنقل اليكم هذا البحث الدقيق جدا لحركة الأخوان.
ــــــــــــــــــــــــ
الإخوان في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود (1328 ـ 1349هـ) = (1910 ـ 1930م)
تمهيد
شغلت حركة الإخوان المؤرخين والمحللين السياسيين، داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها، مدى عقدين من الزمن؛ كما كان للحكومة البريطانية والشريف حسين، كذلك، رؤية خاصة لهذه الحركة وأبعادها السياسية. وقد تناقضت الآراء في الحكم عليها وعلى ما حققته، وهل كان أفضل للملك عبدالعزيز إعداد هذه القوة، التي أفادته عسكرياً، وإن سببت له متاعب سياسية، أو أن الاستغناء عنها كان الأفضل؟ وعلى كل، فإن حركة الإخوان، بما لها وما عليها، تُعدّ جزءاً من تاريخ الملك عبدالعزيز آل سعود، وتأسيس المملكة العربية السعودية.
وقد عرِفت شبه الجزيرة العربية، على مدى عقدين من الزمان، حركة الإخوان، ظاهرة دينية وقوة سياسية عسكرية، كان لها دلالتها وخطرها. وقد وصفها الملك عبدالعزيز، بقوله: "إن حركة الإخوان، هي أنقى حركة دينية معاصرة". ولا شك أن الملك عبدالعزيز، استعان بهذه القوة الدينية العسكرية في حروبه لتوطيد حكمه، وتوحيد قبائل شبه الجزيرة، وبسط الأمن على أرجائها. فأدت الحركة دورها بكفاءة وصدق وإخلاص. ولكن، عندما عجزت حركة الإخوان عن استيعاب متغيرات العصر، ومتطلبات المرحلة الجديدة، التي من أهمها استعانة الملك عبدالعزيز بوسائل الحضارة الحديثة، والاستفادة من تقنيتها، حدث الصِّدام بين الحركة والملك عبدالعزيز، مما أدى إلى المواجهة الحربية، وإلى هزيمة الإخوان، والقضاء على حركتهم، في معركة السّبَلَة، في 19 شوال 1347هـ الموافق 30 مارس 1929م.
ــــــــــــــــــــــــ
حركة الإخوان وتأسيس الهُجَر
1- نشأة الحركة
من طبائع البدو وتركيبتهم النفسية، أنهم متقلبون يصعب الاعتماد عليهم من الناحية السياسية، خاصة في وقت الحروب والمعارك. فطبيعة البدوي تجعله يقدم مصلحته الخاصة قبل كل شيء. لذلك، فأهم ما يعنيه من الحرب، هو ما تحققه له من غنيمة أو نفع ذاتي، قبل المبدأ أو الهدف أو الغاية. لذا، فالبدوي لا يرى منكراً في الانسحاب من المعركة، إذا رأى أنها تسير على غير مصلحته؛ وقد لا يرى غضاضة في الانضمام إلى الخصم، إن كان هذا الانضمام يُحقق له فائدة أكبر. وإلى هذا المعنى، أشار الرّحالة اللبناني "أمين الريحاني"، الذي كان صديقاً للملك عبدالعزيز، وحين وصف البدو في زمنه قائلاً: "البدو سيف في يد الأمير اليوم، وخنجر في ظهره غداً. مجاهدون إذا قيل غنائم، متمارضون إذا قيل الجهاد. وكذلك كانوا عند ظهور عبدالعزيز وفي حروبه الأولى وغزواته. وكانوا يحاربون ما زالوا آمنين على أموالهم وأنفسهم، ويفرون شاردين عند أول خطر يلوح. لذلك كان ابن سعود يقدمهم في القتال ويدعمهم بالحضر، يحمي ظهورهم ليأمن انقلابهم وتقهقرهم. فهم إذ ذاك أشداء ثابتون في النضال. وبكلمة أخرى هم شجعان إذا كان لهم ظهر. وإلاّ فالفالتة لنا والفرار علينا. جاء في أمثال العرب: البدوي إذا رأى الخير تدلى وإذا رأى الشر تعلى. ولكن البدوي وحده يدافع عن نفسه وبعيره (وقبيلته) حتى الموت وإن كان خصمه قبيلة بأسرها. أما البدوي في الجيش فقد كان مشكل ابن سعود الأكبر" ; .
وكان للملك عبدالعزيز في مجريات الأحداث، التي وقعت لأسلافه عظة وعبرة، في كيفية التعامل مع القبائل البدوية. فقد عانى حكام آل سعود، من قبل، من تقلب ولاءات تلك القبائل. وأدرك الملك عبدالعزيز، أنه لن يستطيع أن يستثمر قوة البدو الهائلة، ما لم يحدث تغيراً في طباعهم وسلوكهم، يستفيد منه بتحويل سلبياتهم إلى إيجابيات. فأعمل فكره في تحويلهم من حياة السّلب والنّهب وعدم الاستقرار، إلى لون من الحياة المستقرة. حياة تنقلهم من مسلك البداوة المنفلت الحر، إلى مسلك التّحضر المقيد. ولن يحدث هذا التحول، ما لم يستقر البدو في حياة متوطنة وآمنة.
بدأت الفكرة تأخذ واقع التنفيذ فيما سُمي "الهُجَر"، وهي مستوطنات أُعدت لسكن البدو. واشتق اسمها من الهجرة، التي تعني ترك الوطن، الذي بيد الكفار، والانتقال إلى دار الإسلام. فذلك ما فعله النّبي، عليه الصلاة والسلام، والمسلمون الأوائل، في هجرتهم من مكة إلى المدينة. فاستغل الملك عبدالعزيز فكرة التوطين، بإعطائها عُمقاً دينياً، يستثير من خلاله العاطفة الدينية في نفوس هؤلاء البدو.
كانت البادية وطناً لهؤلاء البدو، ولكنه وطنٌ يخلو من حياة تعين على التّدين، فضلاً عن الجهل بأمور الدين والشرع، إذ لا تعليم ولا مساجد ولا وعّاظ ولا دعاة. وتغلب على وسائل العيش فيها طرق السلب والنهب. لذلك، فالهجرة من البادية المُعِينة على البُعد من الدين، تُعدُّ هجرة إلى الله والتوحيد. وهي، كذلك، هجرة مدنية. فمن بيوت الشّعر، إلى بيوت من لبن وحجر، ومن الفقر والغزو إلى أرض تعطي صاحبها الخير، إذا أعمل فيها المحراث، ومن الخوف وتوجس الأعداء إلى طمأنينة وسلام، لمن يظل عاملاً مفيداً لنفسه وبلاده.
والداعي إلى الهجرة، إذن، أمران؛ ديني: يهدف إلى تعليم البدو أمر دينهم، ودنيوي:يؤدي إلى نفعهم بأرض يحرثونها فيملكونها. ولكن، لم يكن سهلاً أن يألف البدوي حياة الاستقرار والزراعة.
باشر الملك عبدالعزيز مشروعه الإصلاحي الكبير بالوسائل الدينية، أولاً. فكان يرسل الدعاة والوعاظ (المطاوعة) إلى البادية، ليعلموا أهلها أُسُس الدين الإسلامي، وما فرضه الله عليهم من العبادات والفرائض. ويزيّنوا لهم هجر ما هم فيه إلى إيمان خالص يستشعرونه، وبيت مستقر يأوون إليه، وأرض خَيّرة يحرثونها.
وقد عمد الملك عبدالعزيز، في تنفيذ مشروعه، إلى شيء من القوة المدنية. فكان السيف يتقدم الداعي الديني "المطّوع"، في بعض الأحايين، أو يتبعه كما تقضي الأحوال. فتجاوز التطور في البدو حدّه الديني، "فصاروا يهجرون ما هم فيه ليس إلى الله والتوحيد فقط، بل إلى الشريعة والنظام، وطاعة الحكام، واحترام حياة الأنام" .
ولعل هذا النزوح من البادية إلى "الهُجَر"، كان أقرب ما يكون إلى اتخاذ موقف إيماني جديد؛ فهي هجرة عقلية أساساً. "فالهُجَر" لم تكن مشروعاً زراعياً فحسب، بل بناءً فكرياً نفسياً عسكرياً عقائدياً، وَجَدَ في تلك المستوطنات ما يدعمه ويقويه ويُنمّيه. فمن هذه الهُجَر، ومن رجال البادية هؤلاء، تَشكل ما عُرف بـ "جيش الإخوان"، وكان كل مقاتل يتدبر أمر عتاده وركوبه، فرسه أو بعيره، ويحمل سيفه وخنجره، وقليل منهم من كان يملك بندقية.
فبهؤلاء المقاتلين، ومعهم جيش الجهاد (رجال الحاضرة)، نجح الملك عبدالعزيز في إخضاع كل القبائل، التي استمرت تقاتل بالأسلوب البدوي. وهزم القوات العثمانية النظامية، وكذلك جيش الشريف حسين، على الرغم من مدافعه وطائراته وخبرائه. كما اقتنعت بريطانيا بتجنب قوات الملك عبدالعزيز، التي يشكل الإخوان عمودها. ولذلك، كان الملك عبدالعزيز مزهواً، وهو يقول: "إن ورائي ما لا يقل عن "أربعمائة ألف مقاتل، إن بكيت بكوا، وإن فرحت فرحوا. وإن أمرت نزلوا على إرادتي وأمري. وإن نهيت انتهوا. وهؤلاء هم جنود التوحيد، إخوان من أطاع الله ".
وقد كانت هتافات الإخوان: خيّال التوحيد .. أهل التوحيد .. أخو من أطاع الله.
هبت هبوب الجنة .. وين أنت يا باغيها ..
يا ويل عدو الشريعة منا .. إياك نعبد وإياك نستعين ..
وقد تحدث الريحاني عن تقسيمات الجند أو المجاهدين، في الهُجَر، مبيناً طبيعتها الدينية والعسكرية، "فهناك الجهاد، والجهاد مَثْنَى، والنفير. فالذين يلبون الدعوة للجهاد هم دائماً مسلحون، وعندهم مطايا وشيء من الذخيرة، أي هم القوة الدائمة. والجهاد مَثْنَى، هو أن يجيء كل مجاهد بآخر يردفه على ذلوله (بعيره) أي الاحتياطي المباشر، ويكون عدد قوة المجاهدين ضعف عدد الجهاد غير مَثْنى. أمّا القسم الثالث، النفير، فهم الذين يبقون في أيام الحرب في الهُجَر، ليداوموا أعمال التجارة والزراعة ،غير المقاتلين، ولا يُدْعَون للحرب إلاّ إذا اضطر صاحب البلاد إلى الاستنفار العام" ، أي يمثلون التعبئة العامة.
وكان الهجرة أو المعسكر كله، مهما بلغ حجمه، منضبطاً، إذ يوجد في كل مسجد كشف بأسماء المصلين فيه، أي مجموع الذكور البالغين في المنطقة المحيطة به. وإذا عرفنا أن هذا الكشف يُراجع خمس مرات في اليوم لإثبات الحضور والغياب، أدركنا أيضاً أن الملك عبدالعزيز، اكتشف أسرع وسيلة لاستدعاء الاحتياطي .
وقد أشار الريحاني إلى أن الدعوة إلى الجهاد والجهاد مَثْنى، من حق الإمام وحده. أمّا الاستنفار العام، الذي لا يكون إلاّ للدفاع عن الوطن، فهو حق العلماء، عندما يكتب السلطان إليهم معلناً حاجة البلاد إلى الدفاع، فيبادرون إلى استنفار الناس أجمعين، البدو الحضر والمهاجرين .
وعندما تحدث الملك عبدالعزيز عن الهُجَر وفكرة إنشائها، كان حديثه مركزاً على شرح طبيعتها التطوعية أو الفدائية. فقد وصف الإخوان قائلاً: "يجيئوننا في السلم، فنعطيهم كل ما يحتاجون إليه من كسوة ورزق ومال، ولكنهم في أيام الحرب، لا يطلبون منّا شيئاً. في أيام الحرب يتزنر (أي يتحزّم) الواحد منهم ببيت الخرطوش، ويبادر إلى البندق، ثم يركب الذلول (البعير أو الناقة) إلى الحرب ومعه شيء من المال والتمر" .
2- تأسيس الهُجَر
أُسست في عام 1330هـ/1912م، أول هجرة لعرب مطير، الذين يقودهم فيصل بن سلطان الدّويش، في موقع يُسمى "الأرطاوية"، قرب الزلفي، وهي تُعد أكبر الهُجَر، وأهمها منزلة. ثم تبعت الأرطاوية هُجَر لعدة قبائل تؤسس كل سنة، فهجرة "الغطغط"، بالقرب من الرياض، لقبيلة عتيبة بزعامة سلطان بن بجاد بن حُميْد، وهُجَرة "دخنة" لقبيلة حرب، و"الصَّرَّار" لقبيلة العجمان بقيادة ضيدان بن حثلين. وازداد عدد الهُجَر حتى بلغ أكثر من سبعين هُجَرة، عُرف سُكّانها بالإخوان. وقد نال سبب التسمية اهتماماً كبيراً من المؤرخين والدارسين لحركة الإخوان، خَلُصَ أكثرهم إلى الدلالة الدينية المرتبطة بالمصطلح، في قوله تعالى:وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
لم يخلُ تأسيس الهُجَر من خلق بعض المشاكل للملك عبدالعزيز. فهؤلاء البدو، الذين انسلخوا عن حياة البداوة، وباعوا جمالهم، وتحولوا إلى الإقامة في الهُجَر، لم يكن لهم من عمل يشغلهم أيام السّلم سوى الصلاة والذكر والعبادة. وكانوا يربطون رؤوسهم بالعِصَابة البيضاء التي تميزهم عن غيرهم من الناس، أي من غير الإخوان.
ولكن الملك عبدالعزيز نجح في حلّ هذه المشكلة، حين استعان بالعلماء، الذين بحثوا في التاريخ، وأخبار السلف، فسلّحوا بها الدعاة (المطاوعة) المتوجهين إلى الهُجَر. فمضى المطاوعة هؤلاء يحاربون البطالة والكسل، ويعلِّمون "إخوان الهُجَر" أن الزراعة والتجارة والصناعة لا تنافي الدين، وأن المؤمن الغني القوي خير من المؤمن الفقير الضعيف.
وقد أفلح الدّعاة والوُعّاظ في تحبيب العمل والكسب إلى الإخوان. فشرعوا يزرعون الأرض حول الهُجَر ويتاجرون. فنشأت بعض هذه القرى سريعاً وصارت تباري جاراتها القديمة في الزراعة والتجارة. "على أن الزراعة والتجارة لم تُضْعف في أبناء هذه الهُجَر، من الإخوان، روح القتال، بل علمتهم فوق شجاعتهم شجاعة جديدة لا تعرف الخوف، ولا تهاب الموت. وما الشجاعة هذه إلاّ وليدة الإيمان الجديد الحي القوي. فإن إخوان مطير في الأرطاوية مثلاً، وإخوان حرب في دخنة، وإخوان عتيبة في الغطغط، لأشد جيوش ابن سعود بأساً، وأبسلهم نضالاً وأسبقهم إلى الاستشهاد" .
وأخيراً نجح الملك عبدالعزيز في إعداد جيش قوي من المجاهدين، يُحركهم صدق العقيدة، ورياح الجنة، بعد أن كانت تحركهم الأطماع والرغبة في السّلب والنّهب. وقد وصفهم الملك عبدالعزيز في هذه المرحلة أصدق وصف حين قال: "القليل عندنا يقوم مقام الكثير عند غيرنا ... كنا نمشي ثلاثة أيام من دون طعام. يأخذ الواحد منا تمرة من حين إلى حين يرطب بها فمه ... نعم كانت الحاضرة أثبت قدماً وأشد بأساً من البادية. أمّا الآن، فالبادية المتحضرون أهل الهُجَر هم في القتال أثبت من الحاضرة، وأسبق إلى الاستشهاد" .
ــــــــــــــــــــــــ
الخلاف بين الإخوان والملك عبدالعزيز
1- بداية الخلاف
على الرغم من بسالة الإخوان وشجاعتهم وصبرهم، إلاّ أنهم أورثوا الدولة مُشْكلاً مُعقّداً كاد يُفسد المشروع الإصلاحي العظيم. فقد طغى الإخوان وتجبروا، وأخذوا يحاربون من لم يتحضر من البدو فيكفِّرون، وينهبون، ويقتلون. "أنت يا بدوي مشرك، والمشرك حلال الدم والمال. أنت يا أبا العقال من الكفار، أنا أخو من طاع (أطاع) الله، وأنت أخو من طاع (أطاع) الشيطان".
كما أصبح كل "أخٍ" متعصب بالعصابة البيضاء يستطيع أن يسطو على غيره فيُعيّر، ويشتم، ويسفك الدماء. وقد انتشرت من جراء ذلك الفوضى في البلاد، وكاد يُقْطع حبل الأمن والسلام، وضج الناس منهم.
عقد الملك عبدالعزيز، في سنة 1337هـ/1919م، مؤتمراً، في الرياض، للنظر في هذه الأمور، حضره كبار الرؤساء والعلماء، وقرروا بعد البحث ما يأتي:
أ- الكفر لا يُطلق على بادية المسلمين الثابتين على دينهم.
ب- لا تفاوت بين لابس العقال ولابس العمامة، إذا كان معتقدهما واحداً.
ج- لا فرق بين الحضر الأولين والمهاجرين الآخرين.
د- لا فرق بين ذبيحة البدوي، الذي في ولاية المسلمين، ودربه دربهم، ومعتقده معتقدهم، وبين ذبيحة الحضر الأولين والمهاجرين.
هـ- لا حق للمهاجرين أن يعتدوا على الناس، الذين لم يهاجروا كأن يضربوهم، أو يتهددوهم، أو يلزموهم الهجرة.
و- لا حق لأحد أن يهجر أحداً، بدوياً كان أو حضرياً، بغير أمر واضح، وكفر صريح، ومن دون أذن من ولي الأمر أو الحاكم الشرعي.
وقد ضُمِنّت هذه القرارات منشوراً صدر عن الملك عبدالعزيز والعلماء، في شأن مخالفة الإخوان للشرع .
2- المواجهة
عقب انتصار الإخوان على جيش الشريف حسين، في معركة تربة ، في 25 شعبان 1337هـ/ 25 مايو 1919م، وجد الإخوان أنفسهم محط الأنظار وفي دائرة الضوء. فالظروف السياسية التي أدّت إلى تلك الأحداث، والمواجهة العسكرية التي أسفرت عنها، دفعت بحركة الإخوان إلى الساحة الدّولية. فقد كان البريطانيون ينظرون إلى حركة الإخوان، أول أمرها، على أنها ظاهرة دينية داخلية، لا تهدد المجتمع الدولي أو المصالح البريطانية، على الرغم من سمعتها المرعبة في النفوس. ولكن عقب انتصار الإخوان العسكري على قوات الشريف حسين النظامية، واجه العالم الخارجي خطراً عسكرياً وعقائدياً حقيقياً .
وبينما الملك عبدالعزيز يسعى جاهداً للإبقاء على خياراته السياسية والعسكرية مفتوحة، في مختلف المجالات والأصعدة، كان الإخوان يدفعون بالأحداث إلى مجاري الأزمات والتصعيد. فوقفوا موقفاً معادياً من حاكم الكويت، انتهى بمنع الإخوان جميع المسلمين من التعامل بالبيع والشراء مع الكويت أو حتى زيارتها إلى أن تثوب إلى رشدها، وتتخلى عن تراخيها في الأمور الدينية والأخلاقية، وترجع إلى المسار الإسلامي الصحيح .
وبعد معركة تربة، ضد شريف مكة، في 25 شعبان 1337هـ/ 25 مايو 1919م، ومعركة الجهراء ، ضد سالم بن مبارك الصباح، في 26 محرم 1339هـ/10 أكتوبر 1920م، خاض الإخوان معركتهم الأخيرة ضد ابن رشيد، في حائل، في 1340هـ/ 1921م، وأصبح لهم شأن عسكري، ووزن سياسي.
وبدأ الإخوان في الثورة العسكرية، فقادوا حملات، عقب سقوط حائل، 1340هـ/1921م، أدّت إلى فتح كل من الجوف ووادي السّرحان، في الشمال. وبعد أن سيطر الإخوان على الأطراف الشمالية لشبه الجزيرة، بدأوا يتطلعون إلى السيطرة على فلسطين وسورية. وكذلك، لم يترك الإخوان حدود شرق الأردن تنعم بالهدوء، فأغاروا على المدن القريبة من عمّان، وقتلوا من قاومهم، بلا هوادة أو رحمة، وطاردهم البريطانيون بالطائرات، وقتلوا عدداً كبيراً منهم.
وقد أدّت الهجمات، التي قادها الإخوان على جيرانهم في الشمال، إلى اتفاق إنجليزي ـ نجدي، في شـأن الحدود بين نجـد والعراق، عُقد في مؤتمر "العُقير"، في 12 ربيع الثاني 1341هـ/ 2 ديسمبر 1922م. وكان هذا الاتفاق مُقيداً لحركة الإخوان، وعلى حساب طموحاتهم.
بدأ التوتر يزداد بين الإخوان والملك عبدالعزيز، عندما غاب عن الإخوان البُعد السياسي، الذي كان يرمي إليه الملك، من اتفاقية العُقير مع البريطانيين. فقد رأى الإخوان فيها ضرباً من موالاة الكفار، على حين كان الملك عبدالعزيز يسعى، من طريقها، إلى تحييد الإنجليز، في صراعه مع الشريف حسين، في الحجاز. فكان أن ترأس الملك عبدالعزيز، في أواخر عام 1342هـ/ يونيه 1924، مؤتمراً، في الرياض، حضره علماء نجد، ورؤساء القبائل والقرى، وزعماء الإخوان. وكان محور المؤتمر شكوى الإخوان، من أن الشريف حسين منعهم من أداء فريضة الحج.
وفي هذا المؤتمر، تحدث زعماء الأخوان، وفي مقدمتهم سلطان بن بجاد المُلقب بسلطان الدين، وقالوا: إنهم كانوا على استعداد للذهاب إلى مكة، لأداء الفريضة، بالقوة إن استدعى الأمر ذلك. وطالب الإخوان الملك عبدالعزيز بقيادتهم، لمواجهة الشريف حسين وجهاده. وبذلك حصل الملك عبدالعزيز على فتوى شرعية، لشن الحرب على الشريف حسين، لضمان حرية أداء فريضة الحج. وهكذا، صدر، عن مؤتمر الرياض، قرار بغزو الحجاز.
فصدرت الأوامر إلى قوات الإخوان، المتمركزة، بالفعل، في تربة والخرمة بالاستعداد. كما صدرت الأوامر إلى قائديها الشريف خالد بن منصور بن لؤي، وسلطان بن بجاد، بالتحرك نحو الطائف. وزُوِّدت القوات بأمر الهجوم على الطائف، عقب انتهاء موسم حج عام 1342هـ.
وفي صفر 1343هـ/ سبتمبر من عام 1924م، هاجمت قوات الإخوان، بقيادة الشريف خالد بن لؤي، بعض القرى الصغيرة، حول مدينة الطائف . وقُدِّر عدد المقاتلين بنحو ثلاثة آلاف مقاتل. فدمروا القوات الهاشمية، التي كانت تفوقهم عدداً وعتاداً وتدريباً، وهرب قادتها تَارِكين المدينة وسُكانها، لمواجهة مصيرهم.
وعلى كل، فقد استولى الإخوان على الطائف، وفعلوا ما يفعله، عادة، الجند المنتصرون، حين يستبيحون البلدة، فيقتلون وينهبون. فاضطر أهلها إلى الفرار منها. وقد بلغت أنباء مذبحة الطائف أسماع الملك عبدالعزيز، وهو ما يزال في الرياض، فأصدر أوامره، من الفور، بإيقاف أعمال العنف.
وإن كان الإخوان قد ارتكبوا أعمالاً من العنف في الطائف، إلاّ أنها كانت كافية لسقوط مكة والمدينة، بعد شهر من ذلك، من دون إراقة للدماء. فقد سبقت صور العنف والبطش الإخواني، المبالغ في روايتها، إلى أهل الحجاز، الذين باتوا يأملون في التسليم، حفاظاً على أرواحهم. وبعد أن أذن الملك عبدالعزيز لقائديه بالتقدم نحو مكة، التي خرج منها الشريف حسين وأخلاها، دخل أربعة آلاف من الإخوان مكة، محرمين خاشعين، ولكنهم يحملون السلاح، في 18 من ربيع الأول عام 1343هـ/ 18 أكتوبر 1924م. ولم يواجهوا أي مقاومة، ولم يطلقوا رصاصة واحدة، ولم يسلبوا أو ينهبوا، ولكنهم هدموا القِباب.
وهكذا، أدّى سقوط الطائف ومكة ـ بجهد الإخوان ـ إلى تحديد مصير الحجاز، وإنهاء حكم الأسرة الهاشمية، في شبه الجزيرة العربية .
وعندما أحكم الإخوان سيطرتهم على مكة، كان الملك عبدالعزيز وقوّاته في طريقهم من الرياض إلى الحجاز، لم يبلغوا بعد منتصف الطريق.
وخلال هذه الفترة، كان القائدان، الشريف خالد بن لؤي وسلطان بن بجاد، قد حسما الأمر، في مكة، مع القناصل الأجانب في جدة، ومع أعيان الحجاز وممثلي الدول الكبرى، قبل وصول الملك عبدالعزيز إلى الحجاز.
استسلمت المدينة المنورة، في 19 جمادى الأولى 1344هـ/ 5 ديسمبر 1925م، بعد حصار دام عشرة أشهر. واستسلمت جدة، بعد ذلك بشهر، عقب حصار دام عاماً كاملاً. ولكن، لم يكن للإخوان دور عسكري في استسلام هاتين المدينتين، بل منعوا من دخولهما. وعندما بدأ الإخوان يسببون حرجاً للملك عبدالعزيز، كان أفضل قرار يتخذه هو أن يعيدهم إلى نجد، معززين مُكَرّمين، معهم غنائم الحرب.
ــــــــــــــــــــــــ
3- تصاعد الأحداث
كان الإخوان يريدون مواصلة المسيرة الدينية الظافرة، وقد أحسوا أنهم عنصرٌ غير مرغوب وجوده في الحجاز، وأنهم عمليا منعوا من دخول المدينة المنورة وجدة، وأن علماء نجد الوهابيين أخذوا مكانهم، وأنهم ـ أي الإخوان ـ لم يعد لهم مكان في مجتمع الحجاز المتحضر.
وفي عام 1343هـ/ 1925م، أعلن فيصل الدّويش ومجموعة من الإخوان، الخطوط العريضة لخلافهم مع الملك عبدالعزيز. كان ذلك خلال أول احتفال لهم بأواخر شهر رمضان في مكة المكرمة، وقد حضر الاجتماع الشريف خالد بن لؤي، وبعض كبار قادة الإخوان البارزين.
وبدأ تطرفهم الديني يُسَببُ حرجاً للملك عبدالعزيز. مثال ذلك، أنهم عارضوا أبواق المحمل المصري، لأن عزف الموسيقى في المشاعر المقدسة، في أيام الحج، حرام. فهجموا على المحمل، مما حدا بحراس المحمل أن يدافعوا عن أنفسهم، ويفتحوا عليهم النار، وذلك في موسم حج عام 1344هـ/1926م. وأدّى الحادث إلى توتر في العلاقات بين مصر والملك عبدالعزيز، قطعت على أثره، العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مدة عشر سنوات.
وهكذا، أُعيد الإخوان إلى نجد مُستائين من الملك عبدالعزيز، ومن البريطانيين الكفار، ومن أهل الحجاز (الكفار) أيضاً، ومن (كفار) العراق والأردن. رجعوا إلى قواعدهم، في نجد، يحملون في أنفسهم قنابل موقوته تستعد للانفجار. فقد شعروا أنهم، تحت قيادة فيصل الدّويش وسلطان بن بجاد، حققوا للملك عبدالعزيز حلمه في فتح الحجاز، وأنه بسيوفهم وصل إلى ما هو فيه، من مجد واستقرار.
وأحس قادة الإخوان الثلاثة: فيصل الدّويش، وسلطان بن بجاد، وضيدان بن حثلين، أن ظلماً وحيفاً حاقا بهم. وكان الدّويش قد تحول إلى أسطورة، بين الإخوان والقبائل الرعوية، الرحل والمستقرة. وكذلك، كان ابن بجاد، يٌعد بطلاً يخشاه الناس، كما يخشون أتباعه من الإخوان. وقد عُرف ابن بجاد بين اتباعه مسلماً مخلصاً، وأميناً لمبادئ الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب. وبالمثل، كان ابن حثلين لا يُخفي عدم ارتياحه من الملك عبدالعزيز، الذي قمع قبيلته العجمان، في الأحساء.
كانوا ثلاثتهم يعارضون الملك عبدالعزيز، ويتخذون لتلك المعارضة سبباً ظاهراً، هو أنه أدخل الاختراعات الحديثة والبدع إلى البلاد، وأنه حرّم الغزو، الداخلي والخارجي.
وفي نهاية عام 1344هـ/ 1926م أصبحت مطالب الإخوان أكثر تحديداً. ففي المؤتمر، الذي عُقِد في الأرطاوية، وحضره زعماء الإخوان، من مطير وعتيبة والعجمان، حصروا خلافهم مع الملك عبدالعزيز في الآتي :
أ- عدم قبولهم إرسال الملك عبدالعزيز ولده الأمير سعود إلى مصر، التي يحتلها الإنجليز النصارى، ويسكنها مسلمون كفار. وكان قد سافر إليها لتطبيب عينيه، ولتحسين العلاقات المتوترة معها.
ب- عدم قبولهم إرسال الملك عبدالعزيز ولده الأمير فيصل، إلى لندن، في مهمة سياسية، بلد الشِّرك.
ج- رفضهم استخدام السّيارات والبرق (التلغرافات) والهواتف (التليفونات). ورأوا أنها بدع نصرانية، من عمل الشيطان.
د- رفض مبدأ المكوس (الضرائب)، التي يأخذها الملك عبدالعزيز من التجار والجمارك، في الحجاز ونجد.
هـ- الاحتجاج على سماح الملك عبدالعزيز لعشائر شرق الأردن، بالرعي في أراضي المسلمين (شبه الجزيرة العربية).
و- الاحتجاج على منع المتاجرة مع الكويت؛ لأن أهل الكويت إن كانوا كفاراً حوربوا، وإن كانوا مسلمين فلماذا المقاطعة ؟
وكان المخاطب بإظهار هذه المخالفات هُمْ السُّذج من أتباعهم، يوغرون بها صدورهم على الملك. وتعاهد الزعماء على أن يكونوا يداً واحدة في محاربة الكفر. فانتشروا يبثون دعاويهم بين الناس.
ورداً على انتقادات الإخوان ومطالبهم، التي طرحوها، عاد الملك عبدالعزيز من الحجاز إلى نجد، ليعقد اجتماعاً، في الرياض، مع زعماء الإخوان ورؤساء القبائل. وقد حضر هذا المؤتمر نحو ثلاثة آلاف شخص ، وفي ذلك الاجتماع، الذي جرى في 25 رجب 1345هـ/ آخر يناير عام 1927، أكد الملك عبدالعزيز من جديد ولاءه للشريعة، وأنه لم ينحرف عن مبادئها، وكرر أنه لا يزال قائدهم، الذي يعرفونه. وانتهى الاجتماع بإصدار فتوى من علماء نجد، ردّوا فيها على اعتراضات الإخوان، التي أثاروها، وكانت ترمي، في حقيقة الأمر، إلى إثارة الرأي العام، باسم الدين، ضد الملك عبدالعزيز.
وفيما يلي بعض ما جاء في الفتوى، التي أصدرها خمسة عشر من العلماء:
"أمّا مسألة البرق (التلغراف اللاسلكي)، فهو أمر حادث في آخر هذا الزمان. ولا نعلم حقيقته، ولا رأينا فيه كلاماً لأحد من أهل العلم، فتوقفنا في مسألته، ولا نقول على الله ورسوله بغير علم، والجزم بالإباحة والتحريم يحتاج إلى الوقوف على حقيقته. وأمّا مسجد حمزة وأبي رشيد، فأفتينا الإمام ـ وفقه الله ـ بهدمهما من الفور. وأمّا القوانين، فإن كان موجوداً منها شيء، في الحجاز، فيزال فوراً. ولا يُحْكم إلاّ بالشرع المُطَهَّر. وأمّا دخول الحاج المصري بالسلاح والقوة في بلد الله الحرام، فأفتينا الإمام بمنعهم من الدخول، بالسلاح، بالقوة، ومن إظهارهم الشِّرك وجميع المنكرات. وأمّا المحمل، فأفْتَيْنا بمنعه من دخول المسجد الحرام، ومن تمكين أحد أن يتمسح به أو يُقَبّله ...." .
نفّذ الملك عبدالعزيز التوصيات، التي أصدرها العلماء في الفتوى. فحرّم استعمال الراديو والتلغراف، في أجزاء محددة، في المملكة، مع أن العلماء لم يحرّموا استعمالها، بصورة قاطعة.
وكان الملك عبدالعزيز يأمل إزالة توتر الإخوان واعتراضهم على سياسته، أو على الأقل، تأجيل المواجهة معهم حتى حين.
وعقب انتهاء الاجتماع، تعاهد الإخوان، مرة أخرى، على نصرة الملك عبدالعزيز، وبايعوه قائداً وإماماً.
ولكن الأحداث عادت إلى سيرتها الأولى. فَعَقِبَ انفضاض المؤتمر، رجع الإخوان إلى مسلكهم الأول، وواصلوا غزو القبائل على حدود العراق. وكانت قبائل من شمر قد هربت بعد غزو حائل، من نجد إلى العراق، ثم انضمت إليها جماعات من الإخوان النجديين، وأُطلق على هذه المجموعة "الإخوان اللاجئون". وكانت هذه المجموعة شوكة في ظهر الملك عبدالعزيز، نتيجة لغزواتهم المتصلة ضد القبائل على الحدود العراقية.
ولمّا وجد الإخوان أنفسهم في فراغ من الجهاد والحرب، بدأوا يتطلعون إلى العراق كأقرب الأهداف المشروعة، التي تستحق الغزو. وسبب ذلك، أنّ قبائل العراق، في نظرهم، "كافرة"، والإخوان المساعدون لها (اللاجئون) خونة. وعندما بدأت غزوات الإخوان تأخذ طابع العنف، قررت حكومة العراق إنشاء مركز للشرطة، عند آبار "بُصَيّه" ،على حدودها مع نجد، لمنع الغزو على جانبيّ الحدود. ولكن الملك عبدالعزيز رأى أن إقامة هذا المركز وأمثاله، مخالف للمادة الثالثة من بروتوكول العقير، التي تنص على أن: "تتعهد الحكومتان النجدية والعراقية، كل من قبلها، ألاّ تستخدم الآبار الموجودة على أطراف الحدود لأي غرض حربي، كوضع قلاع عليها، وألاّ تعبيء جنداً في أطرافها". وسعى الملك للتفاوض مع البريطانيين، أصحاب الانتداب على العراق، حول إزالة هذه المخافر. ورأى الإخوان في إقامة تلك المخافر عملاً استفزازياً جديداً، من قِبل البريطانيين. وكان ذلك مبرراً كافياً للهجوم عليها. وقرر البريطانيون مطاردة المُعتدين، داخل أراضي نجد، فاحتج الملك عبدالعزيز على ذلك، كما أنه عاتب الإخوان على قيامهم بالغزو من دون إذن منه، وإن كان منطق الأحداث يجعل هذا الغزو، يُحقق للملك عبدالعزيز المعادلة المتوازنة في تجنب المواجهة المباشرة مع البريطانيين ، الذين كانوا يأملون في كفه أذى الإخوان عنهم.
وبينما الإخوان يركزون هجومهم، بصفة أساسية، على "الكفار"، كانوا يتهمون الملك عبدالعزيز بأنه باع نفسه للنصارى الإنجليز، وأنه تحالف معهم، ضد التزامه مع الأخوان على نشر الإسلام ومحاربة الكافرين. وحتى يتجنب الملك عبدالعزيز تصعيد الأحداث، وافق على الاجتماع إلى رؤساء الإخوان الثلاثة، في مدينة بريدة. ولكن عندما حان موعد اللقاء، تخوّف الطرفان من لقاء بعضهم بعضاً؛ فقد كان كل جانب يتشكك في الآخر. وتم الاتفاق على تأجيل الاجتماع، حتى يتمكن الملك عبدالعزيز من التباحث مع البريطانيين، في شأن خلافاتهم مع الإخوان. وبعد فشل المفاوضات، التي جرت بين الملك عبدالعزيز والسير جلبرت كلايتون، في جدة، تزايد تهديد الإخوان، بما أحرج موقف الملك عبدالعزيز. وأصبح مقتنعاً أن الدافع الرئيسي وراء تصرفات قادة الإخوان الثلاثة لم يكن غيرتهم على الدين، وإنما تطلعاتهم الشخصية إلى السلطة، وإرضاء شهوتهم للغزو. وكان يُقدر أنهم قد اتفقوا، فيما بينهم، على اقتسام الأسلاب بعد التخلص منه: يصبح فيصل الدّويش حاكماً لنجد، ويتولى سلطان بن بجاد حكم الحجاز، ويصبح ضيدان بن حثلين حاكماً للأحساء. وهذا التوزيع كان متوافقاً مع توزيع القبائل، ونفوذ كل شيخ من الشيوخ في المنطقة التي تخصه. ومع ذلك، وعلى الرغم من ازدياد الموقف حرجاً في نجد، لم يعد إليها الملك عبدالعزيز، من الحجاز، إلاّ في شهر جمادى الأولى من عام 1347هـ/ نوفمبر 1928م. وفي ذلك التاريخ، ساد التمرد العام بين الإخوان. فقد بدأوا يمارسون الغزو على هواهم، مما أدّى إلى شل حركة الملك عبدالعزيز في اتخاذ أي إجراء، داخلي أو خارجي. ولم يكن بوسعه الاعتراف أنّ الإخوان إنما يغزون من دون إذن أو تصريح منه، لأن ذلك سيكون اعترافاً صريحاً منه بعدم قدرته على السيطرة عليهم. ومع ذلك، لم يستكن الملك عبدالعزيز للهجمات الشرسة القاسية، التي كان الإخوان يشنونها على القبائل، تلك القبائل التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها. ولم يرض عن الانتهاكات الصارخة، التي قام بها الإخوان، للاتفاقات التي أبرمها مع الحكومة البريطانية .
وكان منطقياً أن ينفد صبر الملك عبدالعزيز عند هذا الحد من تصرفات الإخوان، خاصة بعد أن استجاب لمطلبهم، وحرّم استعمال الراديو، واللاسلكي والسيارات، واختراعات أخرى حديثه، في الرياض. ومن الواضح أن أياً من تلك الاستجابات لم تكن لتُرضي الإخوان. كما أدرك الملك عبدالعزيز أن قادة الإخوان يتمتعون بشعبية بين كثير من رعاياه، نظراً لنجاح كل من فيصل الدّويش وابن بجاد في الحملة التي قاما بها بين القبائل. فأذاعا أنهما يمثلان مصالح الإسلام الشرعية، وأنهما يدافعان عن قضية الدين، في حين أن الملك عبدالعزيز بعد أن استولى، بفضل شجاعتهم، على الحجاز، باع نفسه للإنجليز وللنصارى.
ومما لا شك فيه، أن مواجهة الإخوان أصبحت أمراً لا مفر منه. ومع ذلك، كان الملك عبدالعزيز يأمل، عندما يحين موعد هذه المواجهة، أن يحظى بمساندة أكبر عدد من رعاياه، وأن تكون قضيته واضحة لهم، تماماً.
ــــــــــــــــــــــــ
مؤتمر أعيان الرياض (الجمعية العمومية)
كان رد الملك عبدالعزيز على اتهامات الإخوان ومطالبهم، الدعوة إلى عقد اجتماع يحضره العلماء وزعماء القبائل، رؤساء القرى والحواضر . وأُطلق على هذا الاجتماع اسم "الجمعية العمومية"، كما يُشار إليه، كذلك، باسم "مؤتمر أعيان الرياض". وقد بدأ المؤتمر، في 22 من جمادى الأولى عام 1347هـ/ 5 نوفمبر عام 1928م ، في الرياض، وسط جو من الشكِّ وعدم الطمأنينة. وانتهى بعد ذلك بعدة أيام، بتقوية قبضة الملك عبدالعزيز على زمام الأمور، إلى حدٍّ كبير.
1- وقائع المؤتمر
تلبية لنداء الاجتماع، وصل إلى الرياض آلاف من أهل القرى والحضر، والعلماء ومشايخ القبائل، والإخوان من الهُجَر. وتخلف عن الحضور زعيما الإخوان، سلطان بن بجاد وضيدان بن حثلين، أمّا فيصل الدّويش فأناب عنه ابنه عزيز(عبدالعزيز).
ولم تكن إتاحة الفرصة لكل من وصلوا إلى الرياض، لحضور المؤتمر أو التحدث فيه، أمراً ميسوراً، نظراً لكثرة عددهم. لذلك، أعدَّ القائمون على أمر المؤتمر قائمة تضم حوالي ثمانمائة مندوب، عُرضت على الملك، للموافقة عليها. وفي ضوء وصف تجهيزات المؤتمر ومحاضر الاجتماعات، التي نشرتها جريدة "أم القرى" ، يتضح أن وقتاً طويلاً، وجهداً كبيراً، أنفقا في التخطيط للمؤتمر. وحُددت شرفة كبيرة من شرفات القصر لتكون مكاناً للاجتماعات. وبعد أن وافق الملك عبدالعزيز على القائمة، التي قُدمت إليه، أمر بتوجيه الدعوة إلى كل عضو على حده. وتحدد موعد الاجتماع الساعة السابعة من صباح 22 جمادى الأولى عام 1347هـ/ 5 نوفمبر 1928م. وقد خُصِّصت غرف انتظار خاصة لكل جماعة من الجماعات. وروعي، في ذلك، وضع الحضر في قاعة واحدة، والزعماء الدينيين في قاعة أخرى، والإخوان في قاعة ثالثة. وقبل نصف ساعة فقط من بدء أعمال المؤتمر، جلس الملك عبدالعزيز في المكان المخصص له، يحيط به أفراد عائلته. ثم استدعى بعد ذلك المندوبين، طبقاً لمنازلهم. وبدأ العلماء، أولاً، بشغل الصف الأمامي من ناحيتي اليسار واليمين . وبعد أن جلس العلماء في أماكنهم، أُمر بإدخال الحضر والقرويين، الذين جلس بعضهم خلف العلماء، وبعض آخر في الخلف وعلى جانبي الشرفة. ثم أُمر بعد ذلك بإدخال الإخوان ورجال القبائل. وجلس الإخوان ورجال القبائل حسب الهجرة والقبيلة، صفاً بعد صف في مواجهة الملك. وقد استغرقت عملية الجلوس نحو خمس عشرة دقيقة تقريباً.
نهض الملك عبدالعزيز، بعد تقديم القهوة، وخاطب المؤتمر، مستعرضاً كفاحه، وكيف نصره الله بعون منه، ومعه أربعون من أصدقائه المقربين. ثم عرض على الاجتماع، أن يتنازل عن الحكم؛ لمن يختارونه من آل سعود. ولكنه أوضح للمؤتمر أنه لا يفعل ذلك خوفاً من أحدٍ منهم، أو جماعة، وإنما لأنه لا يريد أن يحكم أناساً لا يريدونه حاكماً لهم. وأشار إلى أفراد الأسرة المالكة الذين يحضرون الاجتماع، وطلب إلى المجتمعين أن يختاروا واحداً منهم لتولي الحكم، وأنه سوف يوافق على قرارهم . ولكن المندوبين رفضوا العرض رفضاً قاطعاً، وهم يصيحون "لن نرضى بغيرك بديلاً يحكمنا". وبعد ذلك مباشرة، وفيما يشبه الأداء المنظم، طلب الملك عبدالعزيز من الحاضرين أن يقولوا ما يريدون. ووعد بألا يُعاقب أحداً على ما سيقوله .
وعلى الرغم من أن المؤتمر كان قد عُقد من الناحية الشكلية، لمناقشة الأخطار، التي ترتبت على انتهاك البريطانيين لبروتوكولات العقير، وانتهاكهم لسيادة نجد من طريق الغارات الجوية، التي قاموا بها على القبائل، فإن كل من شهد المؤتمر كان يعرف أن موضوعه هو حسم الصراع بين الإخوان والملك عبدالعزيز.
وتحدث ممثلو العلماء في البداية . وأقسموا أنهم لم يكتشفوا قط أي فتور في غَيْرة الملك عبدالعزيز على الدين، أو إخلاصه لنشر الإسلام. وأردف العلماء قائلين: إن كان الملك قد ارتكب بعض الأخطاء، فذاك شيء طبيعي، لأن محمداً ـ هو الوحيد المعصوم من الخطأ. إن الأخطاء، التي ربما يكون الملك عبدالعزيز قد ارتكبها، لا تتيح لشعبه أن يدير له ظهره، أو أن يدير هو ظهره لشعبه. واختتم العلماء حديثهم قائلين: إنهم لم يشهدوا بما قالوه خوفاً من الملك، بل إحقاقاً للحق، لأنهم بوصفهم علماء يتعين عليهم إرشاد الناس وتوجيههم.
ثم تكلم بعد ذلك أعضاء من الإخوان . وكان المتكلمون الرئيسيون يمثلون نواباً عن فيصل الدّويش نيابة عن قبيلة مطير، وتكلم عن مشايخ قبيلة حرب كل من البحيماح، وعبد المحسن الِفرْم والطويي وابن بخيت. كما تحدث ابن ربيعان ممثلاً لقبيلة عتيبة، وابن عمار وابن حشر ممثلين لقبيلة قحطان. وأقروا كلهم بمساعدة الملك عبدالعزيز لهم، واعترفوا بقيادته واحترامه لضعافهم ومُسِنِّيهم، كما نسبوا إليه فضل بناء مساجد لهم في الهُجَر، وإرسال الدعاة لتعليمهم الدين الصحيح. لم يشكّوا أبداً في ذلك كله، ولكن، على الملك عبدالعزيز ألاّ ينسى أنهم تخلوا عن حياتهم الرعوية الترحالية، وهَجَروا قبائلهم، وثرواتهم، في بعض الأحيان، تلبية لندائه لهم باتباع الدين الصحيح، وأن يجاهدوا في سبيل الله، وأن سيوفهم ودماءهم هي التي جلبت له النصر . وكان من أهم المواجهات، التي دارت في المؤتمر، ما أوضحه قادة الإخوان من أنهم يريدون أن يستوضحوا بعض النقاط، قبل أن يتبعوا الملك عبدالعزيز، مرة أخرى، دون قيد أو شرط. والسبب في ذلك، أنهم يخشون غضب الله، أكثر من خشيتهم للملك عبدالعزيز.
وأثار الإخوان بعض الأسئلة، التي طرحوها على العلماء من قبل فردوا عليها؛ واقتنع بعض الإخوان بتلك الردود، ولكن بعضاً منهم لم يقتنع. وأصرّوا على طرح الأسئلة التالية على الملك عبدالعزيز، وعلى العلماء مجتمعين.
وأقسموا على أن يتبعوا ما يُفْتي به العلماء:
أ- مسألة البرق (التلغراف أوالأتيال). فهي من وجهة نظرهم نوع من الشعوذة والسِّحر. ولمّا كان الإسلام يحرِّم السحر، فهل يمكن للمسلم الحقيقي أن يستعمل التلغراف من دون أن يضر بالدين؟
ب- مسألة حض القرآن على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هل كان الملك عبدالعزيز يوفد الدعاة الدينيين إلى المناطق، التي كانوا يفتحونها لهداية أهلها، الذين كانوا يزعمون أنهم مسلمون، إلى الدين الصحيح؟لقد كانوا يخشون أن الملك عبدالعزيز قد بات متساهلاً في تلك المسألة.
ج- مسألة المخافر التي أنشأها البريطانيون في المناطق الحدودية بين نجد والعراق. لقد نفد صبر الإخوان في هذا الصدد. هل يعتقد الملك عبدالعزيز أن دينه أعطاه الحق لترسيم الحدود في المناطق التي كانت مملوكة لهم ولأجدادهم على مر الأجيال؟ وبعد أن التزم الملك عبدالعزيز بمثل تلك الحدود مع النصارى، كيف يسمح لهم بخرق المعاهدة، التي أبرمها معهم، وهي معاهدة تحظر إنشاء المخافر في مناطق الآبار؟إن مسألة المخافر لا يمكن السكوت عليها، أكثر من ذلك. وهم على استعداد لقبول حكمه في هذا الموضوع،
ولكن بالشروط التالية:
(1) أن يحصلوا من العلماء على حكم مؤسَّسْ على الشريعة، مفاده: إذا سكت الإخوان على ذلك الأمر، وترتب عليه إضرار بالدين أو المسلمين، فإنهم سيكونون أبرياء من الملامة أمام الله.
(2) أن يضمن لهم الملك عبدالعزيز، شخصياً، أنه لن يسمح بحدوث أي ضرر لهم، أو لدينهم أو لبلدهم، نتيجة لإنشاء تلك المخافر. وأردفوا قائلين: "إنه إذا لم يستطع ذلك، فإننا نقسم بالله إننا لن نسمح بقيام تلك المخافر طالما استمرت دقات قلوبنا، أو بقيت الحياة في واحد منا، لأننا نفضل أن نموت وأن نقتل جميعاً على أن نرى خطراً يُهدد ديننا وبلدنا ونسكت عليه".
د- مسألة منع الناس عن الجهاد. لِم فعل الملك عبدالعزيز ذلك؟ ولِم أوقف نشر كلمة الله؟
وبعد انتهاء المندوبين من إلقاء خطبهم، طلب الملك عبدالعزيز سماع المزيد من الآراء والانتقادات؛ ولكن أحداً لم يقل شيئاً، فنادى مرة ثانية وثالثة. ورد عليه المتحدثون بأنهم قد أفرغوا صدورهم من جميع التساؤلات. ثم أخذ الملك عبدالعزيز، بعد ذلك، في الرد على تلك التساؤلات. فطلب من العلماء ـ فيما يتعلق بمسألة البرق "التلغراف" والاختراعات الحديثة الأخرى ـ أن يتحدثوا في هذا الموضوع. فقرأ العلماء نصاً من فتوى سبق إعدادها من قبل، وتعبر عن رأيهم في ذلك الشأن، ومفادها أنهم لم يجدوا سبباً شرعياً للمنع في القرآن أو السنة، أو عند علماء الإسلام السابقين. ولذلك، ما لم يُقدم المُعارض لاستخدام هذه المخترعات دليلاً شرعياً على ما يقول، فإنهم لا يرون حرجاً في استعمال التلغراف والاختراعات الحديثة. وفيما يتعلق بالمسلمين المنحرفين عن الدين الصحيح، كرر الملك عبدالعزيز على أسماع المؤتمر أنه أرسل دعاة إلى كل مدينة وبلدة، بل إِنه أرسل مؤخراً دعاة إلى قبيلة في شمال الحجاز هي بني مالك. وقال للحاضرين: إذا كان مشايخ القبائل لا يؤدون ما عليهم في هذا الصدد، فإنه يتعين عليهم إبلاغه بذلك، وسوف يتصرف بناء على التوصيات التي سيرسلونها إليه. وعن مسألة المخافر، أبلغ المؤتمر أن تلك المخافر إنما أنشئت بسبب الغزوات، التي كان الإخوان يقومون بها. فقد كان البريطانيون يتهمون فيصل الدّويش بقتل رجال الشرطة. "أنا، الملك عبدالعزيز، لم أفعل ذلك، والبريطانيون يقولون إنهم أقاموا تلك المخافر خوفاً منكم" .
ورد الإخوان أنهم بريئون من أفعال فيصل الدّويش، وهم على استعداد لِقتاله بشرطين:
(1) أن يُدمر الملك عبدالعزيز المخافر، التي أُنشئت مؤخراً، والتي يرى الإخوان وجودها مسألة حياة أو موت، بالنسبة لهم.
(2) أن يعد البريطانيون بألا يحولوا بين الإخوان وأولئك الذين يرى الإخوان ضرورة معاقبتهم، من أمثال يوسف السعدون الزعيم العراقي.
وأردف الإخوان قائلين: إن المخافر تجرى تقويتها كل يوم، "ونحن نصارحك أن ديننا وحياتنا في خطر، وأن البريطانيين هم الذين بدأوا بالشر".
وعند هذه المرحلة، أدلى العلماء برأيهم في مسألة المخافر، ووقفوا إلى جانب الإخوان. وأبلغوا الملك عبدالعزيز أن المخافر تشكل خطراً على العرب والمسلمين، خاصة أهل نجد، ولا بد أن يفعل كل ما في وسعه لإزالة تلك المخافر. وأن الجهد الموجه لإزالة تلك المخافر لا يدخل في حكم الجهاد، وإنما هو دفاع عن الدين.
وصاح الإخوان ابتهاجاً برأي العلماء قائلين: "هل سمعتم ما يقولون. نستحلفك بالله أن تقول لنا رأيك في تلك المخافر؟ ورد عليهم الملك قائلاً: أنا أقول إن ما قاله العلماء صحيح، وأقسم إنني سوف أبت في الموضوع. وفيما يتعلق بمسألة الجهاد، فأنا أريد التحدث عنها في مكان آخر وعلى انفراد. ثم طلب إليهم أن يختاروا من بينهم خمسين شخصاً يمثلونهم ليجتمعوا معه، ويقول لهم رأيه في موضوع الجهاد، وأنهم سيتوصلون إلى بعض القرارات لإنهاء الموضوع. وفي ختام المؤتمر قال الملك عبدالعزيز للحاضرين: "أقول لكم جميعاً، كباراً وصغاراً، إن حياتنا لن تكتمل إلاّ بالسلام، الذي يضمن لنا حقوقنا الكاملة في الدفاع عن حقوقنا وتحقيقها. فإما الانتصار وإما الاحتضار دفاعاً عن مقدساتنا وأمتنا؛ وأنا أقطع على نفسي عهداً بذلك أمام الله " .
وانتهى المؤتمر بأن وقف الأمير سعود، الابن الأكبر للملك، يقدم لوالده الحاضرين من الضيوف، ليُقسم كل منهم قسم الولاء والطاعة من جديد. وبعد تناول العشاء، اجتمع الملك بممثلي الوفود الخمسين شخصاً، من الساعة الثانية مساءً حتى الساعة السادسة ، ولم تذع محاضر هذا الاجتماع، ولا المحاضر التي تلت ذلك عن موضوع الجهاد، سوى القول إن المجموعة، التي اجتمعت مع الملك عبدالعزيز، توصلت إلى قرارات جماعية تناولت موضوع الجهاد.
وانتهى المؤتمر بحصول الملك عبدالعزيز على تأييد كل من العلماء والإخوان له، في مواجهة تمرد القائدين، فيصل الدّويش وابن بجاد.
ــــــــــــــــــــــــ
2- الإخوان بعد مؤتمر الرياض
عقب مؤتمر الرياض، الذي كان نصراً مبيناً للملك عبدالعزيز على زعماء الإخوان الثلاثة، وحَرِصَ أكثر الإخوان والعلماء والجماعات ذات التوجه الديني، على التزام الحياد في الصراع الدائر بين زعماء الإخوان والملك عبدالعزيز.
تجاهل زعماء الإخوان ما جرى في المؤتمر، وأذاعوا في القرى والهُجَر أنهم قائمون بأمر الشريعة والدين، التي يهدمها الملك عبدالعزيز.
وقد أرسل فيصل الدّويش إلى الأمير سعود بن عبدالعزيز رسالة، عقب مؤتمر الرياض، تدل على أن المؤتمر لم يحقق الراحة النفسية الدينية الجهادية، التي كان الإخوان يأملون فيها. وأن هويّتهم الدينية مازالت معرضة للخطر، حين منعوا من الغزو والجهاد. يقول الدّويش في رسالته:
"لقد منعتني أيضاً من غزو البدو. وعليه فنحن لسنا مسلمين نحارب الكفار، ولا عرب وبدو يغزو بعضنا بعضاً، ونعيش على ما يحصل عليه بعضنا من البعض الآخر. لقد باعدت بيننا وبين اهتماماتنا الدينية واهتماماتنا الدنيوية. صحيح أنك لم تفشل في أن تفعل كل ما في وسعك من أجلي ومن أجل أهلي وناسي، ولكن إلى أين تذهب بقية قبائلي. إنهم سيموتون، وكيف لنا أن نرضى عن ذلك. لقد كان من عادتك في الماضي أن تصفح عن كل واحد منا يرتكب خطيئة من الخطايا، ولكنك الآن تعاملنا بالسيف وتتغاضى عن النصارى، وعن دينهم وقلاعهم، التي أنشأوها من أجل تدميرك" .
لم تنجح الجهود المتكررة، التي بذلها الملك عبدالعزيز، لحل الخلافات مع القادة المتمردين، خاصة ابن بجاد والدّويش. ويرجع السبب في ذلك، إلى حدٍّ كبير، إلى الحقيقة التي مفادها أن كل واحد من الزعماء الثلاثة المتمردين، كانت دوافعه الأساسية مختلفة عن الاثنين الآخرين. ومما لا شك فيه، أن ابن بجاد كان مسلماً أميناً مخلصاً، يشعر بالقلق البالغ إزاء اتجاه البلاد نحو التحديث، والاتجاه نحو التعاون الوثيق مع النصارى
لم تنجح سلسلة الرسائل المتبادلة بين زعماء التمرد والملك عبدالعزيز في نزع فتيل الأزمة، ولا المحاولات العديدة لترتيب اجتماعات تلتقي الأطراف فيها وجهاً لوجه. وفي الوقت نفسه، استمرت غارات الإخوان، وزادت حدّتها.
ترك سلطان بن بجاد قريته الغطغط، لقربها من الرياض، وانضم إلى فيصل الدّويش في الأرطاوية. وأغار ضيدان بن حثلين على عرب العراق وبادية الكويت والزبير. وضج العراق من اختلال الأمن على حدوده مع نجد.
وبينما كان الملك عبدالعزيز ينشد تسوية من طريق المفاوضات ـ تكون أقل كلفة مالية، وتحافظ على العلاقات القبلية من خطر الصراع على السلطة ـ اكتشف أن الفرصة تفلت من بين يديه، لتختفي نهائياً عندما غزا الإخوان، في شهر رجب 1347هـ/ ديسمبر 1928م (أي بعد أقل من شهر على مؤتمر الرياض)، قافلة النجديين العزّل في الجميمة، فضلاً عن غزوهم أيضاً بعض أتباع قبيلة شّمر، التي كانت كلها من رعايا الملك عبدالعزيز. وقد ذبح الإخوان تجار القافلة، ولم يعد بوسع الإخوان أن يزعموا أنهم كانوا يهاجمون الكفار؛ وفي المقابل، لم يطق الملك عبدالعزيز أن يقف مكتوف الأيدي أمام تحدي زعامته وسلطته، حين تُشنّ هجمات، لا يطولها العقاب، على رعاياه .
لم يمضِ ستون يوماً على مؤتمر الرياض، حتى أفصح سلطان بن بجاد ـ في يناير 1929 ـ عن نيته في شن حرب مقدّسة ضد العراق، في تحدٍّ صارخ لكل من الملك عبدالعزيز ومؤيديه في مؤتمر الرياض. وتحرك مع قواته في اتجاه العراق، حيث انضم إلى عناصر فيصل الدّويش من إخوان مطير، وعناصر ابن حثلين من قبائل العجمان، التي كانت تشن غزوات متقطعة على قبائل المنتفق الرعوية.
وقد دفعت تلك الإغارات العراقيين إلى اتخاذ إجراءات تأديبية قاسية. وبمساعدة القوات الجوية البريطانية، بدأ العراقيون يقصفون الغزاة من رجال القبائل. وكانوا في بعض الأحيان يتعقبونهم إلى نجد، ويقصفون مخيماتهم وموارد مياههم. وكانت إحدى هجماتهم على قبيلة مطير في "اللصافة"، حيث أصيب عدد كبير من النساء والأطفال. فاضطر الملك إلى تقديم احتجاج شديد اللهجة إلى الحكومة البريطانية. ثم واصل محاولاته للتفاوض مع زعماء الإخوان، لكنهم كانوا يزدادون تعنتاً. وكثيراً ما رفضوا حتى المجيء إليه في الرياض. ولم يكن من غير المعتاد، أن ترى أعداد كبيرة من الإخوان المسلحين يدخلون إلى الرياض ويخرجون منها، معلنين بصراحة عن قوتهم، وعدم احترامهم للسلطة المركزية.
3- اتساع فجوة الخلاف بين الملك عبدالعزيز والإخوان
تصاعدت قوة الإخوان أكثر فأكثر، وازداد نفوذهم في الحياة اليومية. ويُروى أنهم جلدوا علناً رئيس الديوان الملكي، بسبب الشكِّ في أنه لم يؤد الصلاة مع الجماعة. وكانت جماعات منهم تجوب الشوارع وتتصرف بوصفها شرطة دينية، عينت نفسها لتعاقب كل شخص لا يتبع تعاليمها الصارمة. أمّا هم فقد تحلُّوا بأقصى ما يمكن من العزوف عن الحياة الدنيا؛ فَحَرّموا على أنفسهم كل متعة مهما كانت ضئيلة. وكانوا يصرّون على ارتداء الملابس الخشنة؛ ويعتبرون الناعم من الثياب بذخاً محرّماً. وكانوا لا يبيحون أي نوع من أنواع الحلي. وقد ذهب كثيرُّ منهم أبعد من ذلك، ورأى وجوب إزالة الخيوط الذهبية المنسوجة في عباءاتهم. وكان من المألوف أن يمسكوا بمن يظهر وشارباه غير محفوفين، أو ثوبه أطول مما هو معتاد، فيقصوا الزائد من شعره أو ثوبه. ولم يسلم الملك عبدالعزيز نفسه من موقف مثل هذا. فقد ورد أنه زار مرة فيصل الدّويش في الأرطاوية، فحياه مضيفوه بقولهم إن ثوبه كان أطول مما ينبغي، فقصوا ما زاد عن الحدّ المعتاد، والملك مرتدياً ثوبه .
وفي اليوم الثاني عشر من شهر رمضان 1347هـ/ فبراير1929م، والملك يتأهب للتوجه إلى الحجاز لأداء الحج، وردت الأنباء بأن قبيلتين من أعظم قبائل الإخوان، عتيبة ومطير، اجتمعتا في شمال القصيم، استعداداً لشن هجوم شامل على الأراضي العراقية؛ فأدرك عدم جدوى محاولاته إقناعهم بالطرق السّلمية، وأن الحركة التي أنشأها لنشر السلام والاستقرار في مملكته صارت أداة للعنف والفوضى. وقد أصبح واضحاً، كل الوضوح، أن القوة يجب أن تواجه بالقوة. فبدأ جلالته يستعد للحرب، وقلبه مثقل بالألم.
واستمر الموقف على تدهوره، وانتقل الملك عبدالعزيز إلى القصيم لمواجهة هذه الأزمة من ناحية، ولإعداد نفسه وتجهيزها لمواجهة عسكرية سافرة معهم، من ناحية أخرى. واتخذ لنفسه جنوداً من الحضر وسكان القرى، الذين كان عدد منهم يتحرق إلى مقاتلة الإخوان، ليس انتقاماُ لإخوانهم الحضر، الذين قاسوا من غزوات الإخوان فحسب، وإنما لضمان أمن مستقبلهم وسلامته.
وقد تبادل زعماء المتمردين الثلاثة الرسائل مع الملك عبدالعزيز، قبل إعلان الحرب عليهم، على أمل التوصل إلى تسوية من طريق التفاوض. واستمرت تلك الجهود إلى ما قبل الليلة السابقة لمعركة السّبَلَة، المعركة الفاصلة.
ظل الإخوان حتى اللحظات الأخيرة من عمر حركتهم، يأملون في الاستمرار قوة عسكرية دينية، تحت قيادة الملك عبدالعزيز. يواصلون فتوحاتهم وينشرون العقيدة الصحيحة. كما كان الملك عبدالعزيز يُدرك أهميتهم ودورهم، وأنهم قوته وسنده، وأنهم صادقون فيما أدوه من خدمات جليلة مقدّرة، خلال مسيرته العسكرية والسياسية. ولكن وجد الملك عبدالعزيز نفسه مواجهاً بضرورة الاختيار الصعب: وهو ردع زعماء الإخوان، وإحباط تمردهم.
ــــــــــــــــــــــــ
القضاء على حركة الإخوان
خـرج الملك عبدالعـزيز على رأس قوة من الرياض في 22 رمضان 1347هـ/ 5 مارس 1929م، وقصد مدينة بريدة. فأقام بها، حتى لحقه ابنه الأمير سعود ببقية القوات. وعند وصول الأمير سعود إلى النبقية، من قرى القصيم، خرج إليه والده الملك عبدالعزيز من بريدة، وتجمعت لديه حشود من حضر نجد، ومن بوادي حرب وقحطان وسبيع من الإخوان، وقسم من عتيبة. وارتحل الملك مع قواته إلى الزلفي، لمقابلة قوات الإخوان. وكانت قوات الإخوان التابعة لكل من ابن بجاد وفيصل الدّويش، قد تحركت بدورها صوب الأرطاوية، وبلغ قوامها أربعة آلف مقاتل. وبقي ضيدان بن حثلين ومعه العُجْمان في الأحساء، متمردين من ناحية الشكل ولكنهم لم يبذلوا جُهْداً للمشاركة في مواجهة عسكرية مكشوفة. وتمركزت قوات الفريقين على بعد عدة أميال من بعضها بعضاً، في ساحة منبسطة لا يعترضها سوى ارتفاعات طفيفة في سطح الأرض، في منطقة تُسمى "روضة السّبَلَة"، تقع بين عاصمة الإخوان في الأرطاوية، وبلدة الزلفي إلى الشرق منها.
وبدأت الفرقتان المتعارضتان تستقران، كلٌّ في معسكره، ولم يكن هناك إيحاء بقرب وقوع أي اشتباك. وبدأت مفاوضات بين الطرفين. وفي البداية، أرسل الملك عبدالعزيز شيخاً وقوراً، هو الشيخ عبدالله العنقري، أحد علماء نجد البارزين، إلى معسكر الإخوان، لمحاولة إقناعهم بالرضوخ للتحكيم، القائم على الشريعة. وباءت هذه المحاولة بالفشل. ثم أرسل سلطان بن بجاد مساعده الشيخ ماجد بن خثيلة، ومعه رسالة إلى الملك عبدالعزيز. وانتهت هذه المحاولة، كذلك، إلى الفشل .
وبعد أن فشلت محاولات الشيخ العنقري وابن خثيلة، حضر فيصل الدّويش نفسه إلى معسكر الملك عبدالعزيز. وتزعم بعض الروايات، أن فيصل الدّويش وعد الملك عبدالعزيز، أنه سوف يرسل إليه رد الإخوان المتمردين على مطالبه في تلك الليلة، ولكن لم يصل أي رد. وقد أوردت جريدة أم القرى الواقعة، على النحو الآتي: "وآخر الأمر قدم إلى جلالته فيصل الدّويش، ليفاوض جلالته بالعفو والصفح عن المجرمين. فأعطاه جلالته أماناً على رقابهم وأموالهم، وأن يحكم الشريعة في أعمالهم، فسار الدّويش على أن يرسل الجواب من ليلته فلم يرسل" . وهناك بعض الروايات تقول: إن الدّويش لم يقسم على الولاء للملك عبدالعزيز فحسب، وإنما وعد بمحاولة إقناع ابن بجاد بالتخلي عن التمرد. وأنه إذا لم ينجح في ذلك، فسوف يعود مسالماً إلى الأرطاوية.
1- معركة السّبَلَة
أصبحت المواجهة حتمية بين الفريقين، ففي صباح 19 شوال 1347هـ/ 30 مارس 1929م شنّ الملك عبدالعزيز هجومه على قوات الإخوان ، وكانت تلك القوات تفوق قواته بنسبة لا تقل عن ثلاثة أضعاف. وقد وصفت جريدة "أم القرى" المعركة، على النحو التالي:
"ولما وصل إلى جلالته إعراضهم، نادى على فرسه فأُسرجت، وتقلد بندقيته، وشدّ على وسطه محزمه، وسار تحف به كواكب الفرسان.
لقد كان للمعركة منظر عجب، فقد جعل الجند صفاً واحداً على طول ثلاثة أميال أو أكثر، وراياتهم تخفق بين الجموع. واستلم جلالته قيادة القلب. وجعل على خيالة الميسرة أكبر إِخوته سمو الأمير محمد بن عبدالرحمن، وعلى خيالة الميمنة أكبر أنجاله سمو الأمير سعود، وقاد الفرسان عبد المحسن الفرم من شيوخ حرب.
وكان الإخوان قد اتخذوا لهم معاقل ومعاصم اعتصموا بها، فلما اقترب الجمعان وابتدأت المعركة بين المشاة، سار أنجال جلالته وأنجال إِخوته، وأبناء عمومته في مقدمة الخيل وأقدموا إقداما المستميت، حتى كسروا خيل الإخوان وقطعوا ظهور المشاة، وما هي إلاّ نصف ساعة حتى ارتد الإخوان على أدبارهم، وتعقبتهم القوات، فمن ألقى سلاحه سلم؛ ولم يمض إلاّ ساعة حتى كانت المعركة قد انتهت بفشل الإخوان، وانخذالهم وانكسارهم.
وبعد أن انتهت هذه المعركة الفاصلة، عاد جلالته، على فرسه، وهو يحمد الله ويشكره على تأييده ونصره، ثم أخذ ينظر في أمر الجند، وتسريحه، وتدبيره." .
لم تستغرق المرحلة الحاسمة من المعركة سوى نصف ساعة، فقط، اتضح بعدها، أن الإخوان عاجزون عن تحقيق النصر، وقد استسلم بعضهم. وبعد ذلك بساعة واحدة، انتهى القتال وتفرقت جموع الإخوان.
وهرب فيصل الدّويش، من ميدان القتال، بعد أن جُرح جرحاً بليغاً. وتمكن، بمساعدة رفاقه، الوصول إلى الأرطاوية، وهو ينزف دماً.
ثم رجع به رفاقه، ثانية، إلى الملك عبدالعزيز، يحيط به أولاده ونساؤه يبكين ويشفعن فيه عند الملك، ويطلبن العفو والسماح . ووعد الملك عبدالعزيز بالإبقاء على حياتهم، شرط أن يخضعوا لحكم الشرع، وأخذ عليه العهد بالطاعة. ونظراً لأن إصابة فيصل الدّويش كانت بالغة، فأمر طبيبه الدكتور مدحت شيخ الأرض بمداواته، وسمح له الملك عبدالعزيز بالعودة إلى الأرطاوية، على أن يسلم نفسه إلى الرياض، عندما يشفى.
أمّا سلطان بن بجاد، فقد هرب إلى الغطغط. وأرسل الملك عبدالعزيز كتاباً إليه يطلب فيه، تسليم نفسه وجميع من معه، إمّا في الرياض أو في شقراء، بدلاً من معسكر الملك عبدالعزيز، خشية أن يتعرض لغضب القوات عليه. وأرسل الملك عبدالعزيز أخاه عبدالله بن عبدالرحمن (وقيل ابنه سعود) إلى تلك الهجرة، فدكها ودمرها عن بكرة أبيها. واستسلم سلطان بن بجاد في شقراء، فأمر الملك عبدالعزيز بسجنه في الرياض. ثم نقل بعد ذلك إلى سجن الأحساء، الذي قبع به حتى توفي عام 1353هـ/1934م .
أما ضيدان بن حثلين، الذي لم يشارك مشاركة فعالة في التمرد، واحتفظ بقواته في الأحساء، فقد ظل بعيداً عن الصدام المباشر مع الملك عبدالعزيز. ولكن الملك عبدالعزيز أمر عبدالله بن جلوي أمير الأحساء بتأديب العجمان.
2- ما بعد السّبَلَة
بعد أن انتهت معركة السّبَلَة، رأى الملك عبدالعزيز عدم مطاردة المتمردين ، على أمل أن يعودوا إلى رشدهم، خلال الفترة التي عاد فيها إلى الحجاز، لأداء فريضة الحج في عام 1347هـ/1929م . وكان يأمل أن يتدبروا، كذلك، خلال تلك الفترة، أخطاءهم ويتعرّفوا بها. ونظراً إلى عدم استكمال النصر، واجتثات مشكلة التمرد من جذورها، اضطر الملك عبدالعزيز لأن يعود، من الفور، لإخماد تمرد آخر. وفي هذه المرة، دفع بكل جهوده وقدراته العسكرية إلى المعركة.
أ- مقتل ضيدان بن حثلين
وقع حادث يخص قبيلة العجمان، أدى إلى إضرام النار في منطقة الأحساء بكاملها. كما وحّد عناصر الإخوان، من البدو، في مواجهة الملك عبدالعزيز. ومهما يكن من أمر، فإن ما حدث، كان بمثابة عامل مساعد للتمرّد الجديد، فضلاً عن أنه وسّع مجال المشاركين في التمرد وزاد من أعدادهم.
والذي حدث، أنّ أمير الأحساء عبدالله بن جلوي، طلب ضيدان بن حثلين للمثول عنده في الأحساء، ولكنه رفض. فأرسل ابن جلوي ابنه فهداً، وبصحبته نايف بن حثلين الملقب بأبي الكلاب (ابن عم ضيدان بن حثلين، ولم يكن مشاركاً مع العجمان في التمرد) وقواتهما، لأسر ضيدان بن حثلين، الذي كان قد استقر في هجرته في الصَّرَّار. وكانت قوات فهد بن عبد الله تتكون، في معظمها، من الحضر، من أهل الهفوف، في حين كانت قوات نايف بن حثلين من قبيلة العجمان، بطبيعة الحال. وقبل أن يصل فهد إلى الصَّرَّار عسكر بقواته في العوينة، على مسافة أربع ساعات من الصَّرَّار، وأرسل مذكرة إلى ضيدان يقول فيها: إنه يريد أن يتحدث معه في أمر غزو بعض المتمردين في المنطقة. ودعا ضيدان فهداً إلى دخول الهجرة، ولكن فهداً رفض الدعوة، وطلب إلى ضيدان أن يقابله في المعسكر. وذهب ضيدان إلى معسكر فهد خلافاً لنصيحة مستشاريه. وهناك أُسر وقُيد بالسلاسل والأغلال. وعندما لم يعد ضيدان إلى هجرته في تلك الليلة حتى المساء، ثار العجمان على كل من فهد ونايف. وشهدت المعركة التي دارت على أثر ذلك، فشل فهد وقواته. وفي تقدير سيئ من فهد بن جلوي، أمر أحد رجاله أن يجهز على ضيدان بن حثلين، فقتله فوراً. وعندما شاهد نايف بن حثلين رجلاً من أسرته وقبيلته يقتل ظلماً، وخلافاً للتقاليد العربية التي تحكم الضيافة، انقلب على فهد وانضم إلى العُجمان مرة ثانية، وتولى القيادة التي خلت بعد اغتيال ضيدان. وتوالت الأحداث حيث قُتل فهد هو الآخر على يد العجمان، وكان ذلك في 19 ذي القعدة 1347هـ/ 30 أبريل 1929م. وقتل العجمان عدداً كبيراً من قوات فهد بن جلوي، واستولوا على كل المؤن والخيول لديها. وخشي العجمان من بطش أمير الأحساء عبدالله بن جلوي ثأراً لمقتل ابنه، ففـروا إلى الشمال، فنزلـوا في الوفـراء، قـرب الكويت. وتـولى قيادتهم نايف بن حثلين (أبو الكلاب)، وانضموا إلى إخوان مطير، الذين تجمعوا في الوفراء أيضاً .
وتوافدت، إلى تلك القوات، حشود أخرى من مطير، من طلاب الكسب والغنائم، يقودهم جاسر بن لامي. وكذلك، لحقت بهم جماعة من عتيبة ومن عنزة، وانضم إليهم فرحان بن مشهور من الرولة، الذي كان موجوداً بالجهراء. وأخيراً، انضمت إليهم فلول معركة السبلة .
ولمّا ضاقت الوفراء بتلك القوات، انطلق العجمان، ومن معهم، لمهاجمة الجبيل، واتخاذها مركزاً لتحركاتهم. وهم في الطريق إلى الجبيل، اعترضتهم قبيلة العوازم، ولم يلبوا طلب نايف بن حثلين في الانضمام إليهم، فهاجموا العوازم في 17محرم 1348هـ/ 26 يونيه 1929م، على ماء "رضى"، ووقعت خسائر جسيمة في صفوف الإخوان، بعد أن ثبت لهم العوازم. وكان فيصل الدّويش قد شفي من جراحه، ونسي عهده، الذي قطعه على نفسه للملك عبدالعزيز، فانطلق في 12 محرم 1348هـ/ 21 يونيه 1929م، إلى تلك الحشود، واشتد به ساعد نايف أبي الكلاب، بعد هزيمته في وقعة رضى.
عندما علم الملك عبدالعزيز، وهو في الحجاز، بمقتل ضيدان والطريقة التي اغتيل بها، تأكد أن تمرداً سوف ينشأ على إثر ذلك. وقرر الملك عبدالعزيز وضع حد فاصل لتمرد الإخوان ولحشودهم، التي استعدت للحرب، مستخدماً كل ما لديه من قوة عسكرية، فضلاً عن الوسائل الآلية الحديثة المتاحة له. وحصل على وعد وتأييد دبلوماسي من بريطانيا وغيرها، بعد أن كتب إلى سفرائه وممثليه بالخارج، يخبرهم بحقيقة هؤلاء العصاة، ليكونوا على علم، عندما يُسألون من الدول، التي يعملون بها، عن حقيقة الموقف.
واستطاع الملك عبدالعزيز، قبل مغادرته الحجاز، أن يحصل من البريطانيين، من طريق التفاوض، على وَعْدٍ بأنهم لن يسمحوا لأي من الدول الثلاث التي يحكمونها (الكويت، والأردن، والعراق) بأن تعاون الإخوان، أو تساندهم، أو تؤويهم. وإذا ما سُمح للإخوان بعبور الحدود والبقاء في أي من الدول الثلاث، باعتبارها ملجأ، سيكون من حق الملك عبدالعزيز مطاردتهم وتتبعهم داخلها. واشترط البريطانيون على الملك عبدالعزيز شرطاً خاصاً، هو ألاّ يقتل أياً من الإخوان الذين قد يلجأون إليهم، إذا أعادوهم إلى الملك عبدالعزيز. وقَبِل الملك عبدالعزيز بذلك الشرط، غير أنه استدرك أنّ المتمردين، بغض النظر عن حياتهم التي سيُبقى عليها، فإنهم سيحاكمون طبقاً للشرع .
ب- مؤتمر الدوادمي والشَّعَراء
توجه الملك عبدالعزيز من الحجاز في طريقه إلى الرياض، بعد أن أوفد إلى مشايخ قبائل عتيبة الموالية له، مراسلين يطلبون إليهم، ومعهم أعيان القبائل الأخرى، الحضور لاجتماع معه، في بلدة الدوادمي، التي عرج عليها في صفر 1348هـ/ يوليه 1929م. كان الجزء المتمرد من قبيلة عتيبة ما يزال في السّبَلَة. وكان جزء منهم لم يتم إخضاعهم بعد، بينما الجزء الذي لم يكن في حالة تمرد نشطة، لم يكن قد صالح نفسه بعد مع الهزيمة؛ وكان هناك فريق من الهاربين بعد المعركة، ولم يكن العفو قد صدر عنهم بعد. وعندما وصل الملك عبدالعزيز إلى الدوادمي نُصبت خيمة كبيرة لهذه المناسبة، التقى فيها نحو ألفان من قبيلة عتيبة. وفي الاجتماع، كشف الملك عبدالعزيز عن خططه للهجوم على العُجمان، وطلب المساندة، التي إن لم تكن إيجابية فلتكن سلبية، على أقل تقدير. كان العتبان موزعين على أكثر المناطق حساسية، فقد كانوا موجودين في أقصى الجزء الشرقي من الحجاز، وفي الجزء الغربي من نجد.
وفي حديثه إلى المجتمعين ، أبلغهم أن بينهم ثلاث مجموعات، الأولى مخلصة لدينها، وموالية له. الثانية انتهازية. أما الثالثة، وهي أصغر المجموعات الثلاث، فتشتمل على نواة المتمردين. ثم أوضح لهم أنه، بعد معركة السّبَلَة، وجد نفسه في حرج: فإما أن يفوته الحج، (وهو أمرٌ يُعد من عدم الحكمة بوصفه إماماً)، ويبقى في نجد لتأديب المتمردين، أو أن يعود إلى الحجاز. فقرر الذهاب إلى الحجاز، لأداء الحج.
وقد شعر الملك عبدالعزيز أن مسألة تمييز المتمردين، الذين كانت لهم ثارات وأحقاد، عن أولئك المتمردين المضللين أمرُ صعب. وعلى كلٍ، كان العُجمان قد رفعوا لواء التمرد والعصيان، كما سبق ذكره، وكان الملك عبدالعزيز قد خطط "للهجوم عليهم عند طلوع هلال ربيع الأول 1348هـ /7 أغسطس 1929م. وقال إِنه لن يوافق على تخلف أي رجل، على قيد الحياة، من أولئك الذين اشتركوا في معركة السّبَلَة وقاتلوا المتمردين فيها. "إن من يحارب إلى جانبنا ينتمي إلينا، ومن سيتخلف عن القتال من دون سبب شرعي سوف يُقتل، أو تسحب منه أسلحته وحصانه ". ثم عفا الملك، بعد ذلك، عن أولئك المتمردين من قبيلة عتيبة، الذين حضروا الاجتماع. واستجابة لرجائهم، وسّع الملك عفوه، ليشمل الغائبين، كذلك، بشرط:
(1) إذا كان من بينهم مجرمٌ بالقول أو الفعل، فسوف تبذل الجهود لإصلاحه؛ وإذا رفض، فسوف يُحاكم ويُقاضى طبقاً للشرع.
(2) الدولة لها الحق في معاقبة المجرمين، الذين ينهبون المسافرين ويداهمونهم ويقطعون الطرق.
(3) كلُ من يتخلف عن الجهاد، من دون عُذر شرعي، سوف يلقى جزاءه قبل التوجه للعدو.
وبعد انتهاء مؤتمر الدوادمي، واصل الملك عبدالعزيز رحلته إلى الرياض، آملاً أن يكون قد نجح أخيراً في كسب قبيلة عتيبة إلى جانبه. ولكن العتبان تمردوا مرة ثانية، واضطروه إلى إخضاعهم، هذه المرة، بشدة وفاعلية. فقد توغلت جماعة من عتيبة ومن بني عبدالله من مطير في نجد، وقطعوا الطريق، واعتدوا على الناس الآمنين، يقودهم مُقْعِد الدُّهينة من النفعة من عتيبة. واعتدوا على عمال الزكاة، ونشروا الفوضى، في عالية نجد. وكان ذلك في ربيع الثاني 1348هـ/ سبتمبر 1929م.
وإزاء هذا العصيان من عتيبة، انتدب الملك عبدالعزيز أحد رجاله الأشداء، ليغير على عتيبة على ماء "ركية سعدية" قرب القويعية، فقضى على شوكتهم ونكل بهم. وأرسل قوة أخرى من الرياض يقودها خالد بن محمد، وقوة من الحجاز، وثالثة يقودها الشريف خالد بن لؤي، واشتبكت هذه القوات مع العصاة، وانتهى الأمر، بفرار رئيس التمرد مُقْعِد الدُّهينة إلى العراق .
ونتيجة لتمرد قبيلة عتيبة الجديد، طلب الملك عبدالعزيز عقد مؤتمر في بلدة الشَّعَراء، في عالية نجد، بين الرياض ومكة. وكان ذلك في غرة جمادى الأولى 1348هـ/ 5 أكتوبر 1929م. وفي هذا المؤتمر، التقى الملك مشايخ القبائل الأخرى، فضلاً عن التقائه، كذلك، القطاعات الموالية من قبيلة عتيبة. وكرر الملك عبدالعزيز، أمام الحاضرين، كيف أنه عفا عن عتيبة عدة مرات، ولكنها كانت تعود للتمرد، بعد أن تتعهد بالولاء. وأعرب عن مرئياته، فيما يجب عمله. ثم طلب إلى المندوبين أن ينصرفوا إلى حال سبيلهم، وأن يتفكروا فيما قاله، ويتشاوروا مع أهليهم، وأن يعودوا في اليوم التالي بعد أن يتخذوا قرارهم.
وشهد صباح اليوم التالي مناقشة، استمرت أربع ساعات، اتخذت خلالها القرارات التالية:
(1) ضرورة إنزال الهزيمة بكل من تمرد من قبيلة عتيبة، وفرع بني عبدالله من مطير، حتى لا يستطيع الاشتراك في عمل غير شرعي مرة أخرى.
(2) يُجرد كل من شارك في التمرد، ولا يزال حيّاً، من أسلحة ومعدات الحرب، ويُحاكم طبقاً للشرع.
(3) يُجرد من اتهموا بمساندة المتمردين، ولم يقاتلوا إلى جانب الإمام، من الجمال والخيل، التي يركبونها، ومن بنادقهم.
(4) يوافق الإمام، على أن يحتفظ المقاتلون بما استولوا عليه من المتمردين، حتى يتمكنوا من تقوية أنفسهم.
(5) يُرسل أمير، وبصحبته قوات، إلى شقراء معقل المتمردين، لإصلاح ذلك الفساد، طبقاً للشرع وللمصلحة العامة.
(6) يُخلى كل هجرة من الهُجَر، التي خضعت للتمرد، ويوزع سكانها بين القبائل ولا يُسمح لأيٍّ منهم بالتجمع في مكان واحد.
(7) تُرسل قوة بحجم لواء، لتنفيذ هذه القرارات، أثناء وجود الملك في الشعراء، وخلال مدة لا تزيد على عشرة أيام.
(8) تجتمع كل الفصائل، بعد تنفيذ كل هذه المراسيم، في منطقة الحدود، التي احتشد فيها العُجمان المتمردون، ومعهم آل الدّويش .
وقبل الذهاب إلى الشعراء، عمد الملك عبدالعزيز إلى تقوية الحاميات في الأحساء والقطيف وحائل، تحسباً لأي طاريء. وأمر قواته، الذين جاءوا من المدن والهُجَر، بالتجمع في مكان محدد، لانتظار عودته من "الشعراء"، وعندها سوف يبلغهم بموعد التحرك. وقال إن التحرك لن يتأخر عن غرة شهر جمادى الثانية 1348هـ، الذي كان يوافق 4 نوفمبر 1929م .