كثيري بن همدان
07-15-2008, 04:44 PM
مبارك بن لندن عبرها مرتين خلال 5 سنوات
ذاكرة الزمن ... صحراء الربع الخالي كتاب مفتوح
من منا لم يسمع “بمبارك بن لندن” ذلك الرحالة البريطاني الشهير الذي قدم للمنطقة عام ،1945 واقام بين البدو خمس سنوات، خلال الفترة من 1945 -،1950 اخترق خلالها منطقة الكثبان الرملية المتحركة المعروفة باسم “الربع الخالي” والتي كان أشجع البدو يتجنبون التعمق فيها مرتين بصحبة مجموعة من البدو، وأمدنا بأجمل صور ناطقة تعبر في كل زواياها عن مدى الفقر والعزلة وقسوة الحياة الخالية من أي مظهر من مظاهر الرفاهية.
د. محمد فارس الفارس
تلك الصور الجميلة التي نشرها بن لندن في كتابه “الرمال العربية” الذي صدر للمرة الأولى باللغة الانجليزية عام ،1959 ثم فيما بعد، المزيد من الصور بألبومات وكتب باللغتين الانجليزية والعربية، وتكاد تكون صور بن لندن الأجمل والأشمل عن صحراء الربع الخالي ومنطقة اليمن وعمان وبعض الامارات، بن لندن نشر ملخصاً عن رحلته في مجلة الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية عام ،1950 كما كتب ملخصات لتلك الرحلة في بعض ألبومات الصور التي نشرت، ولكن كتابه “الرمال العربية” الذي ترجم للغة العربية للمرة الأولى عام ،1991 احتوى على تفاصيل اقامته بين البدو، واختراقه لصحراء الربع الخالي. وقبل ان نستعرض رحلة بن لندن، سنتعرف إلى شخصيته.
ويلفرد ثيسيجر
ويلفرد ثيسيجر هو الاسم الحقيقي للرحالة البريطاني الذي أطلق عليه البدو اسم “مبارك بن لندن” وفي كتاب صدر للكاتبة هويدا عطا بعنوان “عابرو الربع الخالي” قامت فيه الكاتبة باجراء مقابلات مع المرافقين الأربعة لبن لندن، يقول سالم بن كبينة أحد مرافقي بن لندن عن سبب تسميته بهذا الاسم، ان ثيسيجر سمي في البداية “مبارك بن مريم”، أما لماذا سمي مبارك، فلم يذكر بن كبينة سبباً لذلك، وعلى ما يبدو، فإن البدو كانوا يرغبون في تسميته باسم سهل وشائع بدلاً من اسمه الأوروبي الصعب، ومبارك اسم شائع عند البدو وفي الوقت نفسه سهل، أما لقب بن مريم، فسببه ان والدة ثيسيجر كان اسمها مريم، وكان كثير من البدو، وخاصة في جنوب الجزيرة العربية، يلقبون بأسماء والداتهم عندما تشتهر امرأة ما بالخلق الطيب، أو الشجاعة، أو تكون صاحبة أياد خيرة، وتصبح شهرتها تطغى على شهرة زوجها، وتشبها بالوسط البدوي الذي خالطه بن لندن متمثلاً في قبيلتي الرواشد وآل كثير وغيرها، والتي كان كثير من أبنائها يتخذون من أسماء أمهاتهم ألقاباً لهم، أطلق على ويلفرد ثيسيجر اسم “مبارك بن مريم”، ولكن بن كبينة يقول ان أحد شيوخ قبيلة الرواشد طلب تغيير هذا الاسم، واختار له بن كبينة اسما جديداً هو “مبارك بن لندن” واصبح هذا الاسم الطريق ملازماً له طوال فترة اقامته بين البدو، كما انه اشتهر به بين القبائل التي خالطها أو مر عليها وعرف به في كل المدن والقرى التي زارها فيما بعد. (1) ولد مبارك بن لندن عام 1910 في مقر البعثة البريطانية في أديس أبابا، وعاش أولى سنوات حياته في الحبشة، وتلقى تعليمه في مدرسة ايثون وكلية ماجدلين بأكسفورد، حيث كسب بطولة الملاكمة لأربع سنوات متتالية، وفي عام ،1920 وقبل تخرجه، حضر تتويج الامبراطور هيلاسي لاسي وقام اثر ذلك برحلة عبر الحبشة، كانت فاتحة لرحلاته، وفي عام ،1935 عين في دائرة الخدمة السياسية السودانية، وتحول قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية في مناطق سودانية، وتشادية شبه مجهولة، ثم انضم الى قوة الدفاع السودانية عام ،1929 وخدم في الحبشة وسوريا، وعمل مع كتيبة الخدمات الجوية الخاصة في الصحراء الغربية، ونال وسام الخدمة المتميزة، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قام بالارتجال سيراً على الاقدام، أو على ظهور الحيوانات في جنوب الجزيرة العربية وكردستان والأهوار العراقية، وصحراء كوش الهندية، ومراكش والحبشة، وتقديراً لرحلاته، منحته الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية ميدالية “فاوندر” وفي عام 1968 منح لقب “كوماندر أوف بريتيش إمباير” (2)
أسباب الرحلة
في كتابه “الرمال العربية” وكتبه ومقالاته الاخرى بالانجليزية، يشرح بن لندن أسباب قيامه برحلته عبر صحراء الربع الخالي، ويبدو أن هناك مجموعة من الاسباب والعوامل التي تجمعت لتدفع بهذا الرحالة للقيام بهذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر والتي استمرت فترة خمس سنوات، كان بن لندن يحضر فيها خلال فترة الشتاء ويستمر بمعايشة البدو وقطع الصحراء مبتدئاً من مدن ومنتهيا بمدن أخرى تختلف في كل مرة عن بعضها، ويرجع طوال فترة الصيف الى انجلترا لتوثيق ما كتبه، ولتحميض الصور الجميلة التي التقطها مع مرافقيه، ويبدو من سيرة بن لندن الذي ولد في الحبشة، وقضى سنوات طويلة في إفريقيا متنقلا بين بعض المدن والقرى والقبائل، ثم في صحراء الربع الخالي، وفيما بعد بين عرب جنوب العراق وبالتحديد في منطقة الأهوار، ان البيئة التي نشأ فيها بين إفريقيا ومنطقة الشرق الاوسط، اسهمت في جذب بن لندن لهذه المنطقة اكثر من بيئته الاصلية في بريطانيا، ومن المعروف أن فترة النصف الأول من القرن العشرين، كانت فترة خصبة مملوءة بالاحداث التي كانت منطقة الشرق الاوسط مسرحاً لها، فتلك الفترة شهدت تحول المجتمعات العربية من البداوة وسلطة القبيلة إلى الاستقرار وتكوين الدويلات، كما أن تلك الفترة شهدت الاهتمام الأوروبي بالنفط العربي، وظهور الصراعات على الحدود التي لم تكن معروفة من قبل، واصبح لها أهمية كبيرة بعد اكتشاف النفط في العراق أواخر العشرينات، واكتشافه في السعودية في الثلاثينات، ونلاحظ قدوم الكثير من الرحالة الذين لا تعرف اهدافهم الحقيقية، ومنهم لورنس المشهور “بلورنس العرب” وامين الريحاني وفيلبي وبرترام توماس وبن لندن وغيرهم.
ولا يمكننا ان نعتبر ان دوافع كل هؤلاء موجهة من دول أو حكومات معينة، فهناك الكثيرون الذين قدموا حباً في ارتياد مناطق لم يرها أحد من الاوروبيين من قبل، وبدافع الرغبة في العيش بنمط الحياة البدائية لابناء الصحارى العربية التي كانت لاتزال على الفطرة وبنفس النمط الذي اعتادت عليه من آلاف السنين. فالانتقال من المدن المتحضرة في اوروبا للعيش في الصحارى والخيام، وركوب الجمال والتنقل مع البدو هو بحد ذاته دافع شوق لشعوب لم تر هذا النمط من العيش من قبل.
ويبدو واضحاً ان المنطقة التي تجول فيها بن لندن سواء اليمن أو صحراء الربع الخالي، ودخوله بعض مدن الامارات، لم تكن ضمن المناطق المتنازع عليها وتتطلب تكليفاً باستكشافها من جهة ما، وانما كان واضحاً ان سبب قدومه هو ما ذكره في كتبه وهو تكليف من مركز ابحاث مكافحة الجراد لاستشكاف تلك المناطق، ومن المعروف ان الحكومة البريطانية كانت مهتمة في تلك الفترة بمكافحة الجراد في منطقة الخليج، ويقول بن لندن حول ذلك على الرغم من أسفاري في صحارى السودان والصحراء الكبرى، إلا أن آخرين كانوا سبقوني الى هناك، واصبح الربع الخالي بالنسبة لي هو الارض الموعودة، إلا أن الوصول اليه كان مستحيلاً، الى ان جاءت لي فرصة “وحدة مكافحة الجراد”، وسبق لي رؤية الكثير من الجراد في السودان، وراقبت اسرابها تعبر الأفق كسحب من الدخان لدى وصولها الى مرتفعات الحبشة آتية من أماكن تفقيسها في الجزيرة العربية، ورأيت الأغصان تتكسر تحت ثقل الجراد الذي يحط عليها، والحقول الخضراء تتحول إلى يباب في ساعات، وكان الدكتور أوفاروف يعتقد ان مراكز انتشار الجراد محصورة في بعض الأماكن المحددة، وان بعضها قد يكون في منطقة مغشن في جنوب الجزيرة العربية”. (3) إذاً، فقد كان تكليف مركز مكافحة الجراد لثيسيجر أو مبارك بن لندن بالقيام بهذه المهمة والتي جاءت على ما يبدو بمحض المصادفة، كانت الفرصة الذهبية لبن لندن لتمويل رحلته التي تحتاج إلى دعم مادي وموافقة السلطات وشيوخ القبائل، ومساندة من السلطة البريطانية سواء في اليمن أو الخليج، وشد بن لندن الرحال إلى صلالة أهم قرى ظفار العمانية الواقعة على الحدود مع اليمن، والقريبة من صحراء الربع الخالي عام 1945.
مرافقو بن لندن:
لا يمكن الاطلاع على تفاصيل رحلة بن لندن وعبوره الربع الخالي مرتين وتجوله في بعض مدن الامارات وعمان واليمن، من دون قراءة الدراسات والمقالات التي كتبها وأهمها مقاله الطويل في مجلة الجمعية الجغرافية البريطانية في عددها الصادر خلال اكتوبر/تشرين الاول - ديسمبر/كانون الأول 1950 اضافة الى كتابي Crossing the Sands وDesert Marsh, and Mountain، فكتاب الرمال العربية المترجم للغة العربية مكتف بتفاصيل غير مهمة عن مشاهدات بن لندن في الصحراء، ويبدو واضحاً ان بن لندن أخفق في كتابه بإعطاء القارئ مادة غنية عن القبائل التي اختلط بها من حيث أماكن وجودها وعدد افرادها وأسماء شيوخها وغيرها من التفاصيل التي ذكرها رحالة آخرون زاروا مناطق القبائل في نجد والخليج، وفيما عدا بعض الاشارات، فإن بن لندن غرق في شرح تفاصيل يومياته في الصحراء والتي لا يوجد بها ما يدعو للاهتمام، واهتمام بن لندن بتلك الرحلة، اضافة الى الخمس سنوات من عمره التي قضاها يتجول في تلك الصحراء الموحشة ويواجه فيها المخاطر التي تصل الى القتل، كان من المفترض ان تسفر عن موسوعة تفصيلية عن القبائل والقرى والتوزيع السكاني للقبائل في كل من عمان والامارات واليمن، مثلما فعل أوبنهايم في كتابه الموسوعة “البدو”، ومع ذلك، فإن كتاب بن لندن المترجم، ومقالاته تعتبر مصدراً رئيسياً للكتاب والباحثين المهتمين بتاريخ المنطقة للاشارات التي ذكرها، والأهم من ذلك، الصور التي لا يوجد لها مثيل في نقاءها وتفاصيلها، وخاصة صور الربع الخالي، كان هناك مرافقون رئيسيون لبن لندن، ومرافقون مؤقتون، ومرافقوه الرئيسيون اربعة هم: سالم بن كبينة وسالم بن غبيشة وعمر بن عمير ومحمد صالح بن كلوت، وجميعهم ينتمون لقبيلة الرواشد اضافة الى انهم أقارب لبعضهم البعض، وهناك بعض المرافقين غير الدائمين وأهمهم مسلم بن الكمام الذي ورد ذكره كثيراً في كتاب بن لندن. كانت مرافقة هؤلاء الشباب لبن لندن في رحلته المحفوفة بالمخاطر الكثيرة، تعكس مدى استعداد الكثيرين في ذلك الوقت لتحمل اي نوع من المخاطر في سبيل كسب العيش، فالفقر الشديد، وانعدام كل مظاهر المدنية، والحرمان الذي يبدو واضحاً بصورة جلية في الصور التي التقطها بن لندن، كانت دافعاً قوياً لتقبل هذا السقف العالي من المخاطرة في الدخول لشهور طويلة في صحراء قاحلة لا يوجد بها سوى الكثبان الرملية التي من الممكن ان تتحرك بسبب اي رياح قوية لتدفنهم، ناهيك عن مخاطر اللصوص وقطاع الطرق والحيوانات المفترسة واحتمالات نقص المؤونة أو نفاذ مياه الشرب بشكل مفاجئ ولأي سبب، ولم يدر في خلد هؤلاء الشباب انهم سيدخلون التاريخ وستنشر صورهم وتفاصيل علاقاتهم مع بعضهم ومع بن لندن في كتب طبعت ووزعت في جميع انحاء العالم، وتبدو فرحتهم واضحة عندما أجرت هويدا عطا مقابلات معهم ونشرتها في كتاب قبل فترة، وقد تقدم بهم العمر، واصبحت تلك الرحلة التي قاموا بها قبل 60 عاماً ذكرى جميلة وتاريخاً لا ينسى.
بداية العبور
تأثر بن لندن برحلات من سبقوه للربع الخالي، فقد عبر برترام توماس صحراء الربع الخالي من الجنوب الى الشمال خلال عامي 1930-،1931 ثم تلاه في العام الذي يليهما جون فيلبي الرحالة المشهور الذي أقام في نجد سنوات طويلة، وعبرها فيلبي من الشمال، ولكن منذ عبرها توماس وفيلبي، وحتى عام ،1945 لم يحدث اي وجود فيها لأي أوروبي، ولم تحلق فوقها طائرة أو تقترب منها سيارة، سندع بن لندن يشرح لنا مشاهداته منذ وطئت قدماه أرض الخليج مبتدئاً رحلته التاريخية عبر الربع الخالي “وصلت الى ظفار على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية في شهر اكتوبر/تشرين الأول ،1945 ومكثت في معسكر تابع لسلاح الطيران الملكي البريطاني بالقرب من قرية صلالة العمانية الصغيرة، لقد طلب مني مركز مكافحة الجراد الذهاب الى مغشن على اطراف الصحراء، وقد أصر والي ظفار على ان يصطحبني 30 مرافقاً من قبيلة الكثيري موضحاً ان الاماكن التي أزمع الذهاب اليها تحفها الاخطار من كل جانب، وخاصة العصابات المغيرة، وكنت متردداً في اصطحاب كل هذا العدد، وكان معظمهم مرتدياً لباساً ساتراً لبعض جسمه، عارية رؤوسهم من أي لباس فيما تظهر شعورهم الطويلة، وكانوا يبدون مثل قبائل الدناكل البدائية”. (4) ويبدو هذا العدد الكبير من المرافقين الذين أمر به الوالي في بداية الرحلة مبالغاً فيه لحماية رحالة يريد اجتياز صحراء قاحلة، فرغم الاخطار التي ذكرها بن لندن في كتابه وعمليات الاغارة والسلب التي تقوم بها كثير من القبائل والتي تصل احيانا للقتل، إلا ان الامر لا يستدعي هذا العدد من المرافقين الذين يحتاجون بالطبع للمؤن وتجهيز جمالهم، اضافة الى مكافآتهم، ولكن وجود بن لندن في مهمة مدعوماً من مركز مكافحة الجراد، وتحت حماية السلطة البريطانية، كان كافياً للإيحاء بضرورة الاستفادة من هذا الدخل لأكبر عدد من أبناء القبائل العاطلين عن العمل، خاصة في ظل تلك الظروف المعيشية الصعبة، ويبدو أن بن لندن فهم هذا الوضع ويعبر عنه بقوله: “طوال الايام التي تلت، كنا نتجمع سوياً للعيش في تلك الصحراء الفسيحة، وفي البداية كنت أجد اللغة العربية التي يتكلمها هؤلاء البدو غير مفهومة، مما أوجد الكثير من مواقف الفهم الخاطئ، وكانوا يدعون جمالهم ترعى، وقد كنت أرتاب في انهم يطيلون من أمد الرحلة طمعاً في زيادة الأجر، فقد كانوا يتقاضونها عن كل يوم”. (5) إلا أن بن لندن قلصّ مرافقيه فيما بعد، واقتصر عبوره الاول والثاني لصحراء الربع الخالي على بن كبينة وبن غبيشة وبن عمير وبن كلوت ويبدو أن مسلم بن الكمام رافقه في اكثر من رحلة حيث ذكر اسمه كثيراً في كتب بن لندن.
مؤونة الرحلة
إن رحلة محفوفة بالمخاطر كهذه الرحلة، تصبح فيها المؤونة أهم ركن في الرحلة كلها، فالمؤونة يجب ان تقدر بشكل جيد ومحسوب، وخاصة الماء، وهذا لا يشمل الرحالة ومرافقيه فقط، وانما الجمال التي ستنقلهم، وتوضع اعتبارات أخرى ربما تفاجئهم في الطريق، كالإغارة من قطاع الطرق والاستيلاء على كميات من الطعام والشراب، أو نفاد الكميات أو ضياعها فالتعمق في داخل الصحراء ولمدة طويلة وغير معلومة يتطلب أخذ كل الاحتياطات، ففي ذلك الوقت، لم يكن توجد هواتف، أو فرق انقاذ، أو طوارئ للتدخل في الوقت المناسب، بل على العكس من ذلك، هناك مخاطر اكثر من الضياع أو نفاد كميات الغذاء تتمثل في احتمالات تحرك الرمال بفعل الرياح أو العواصف ودفنها للرحالة، أو هجوم من قطاع طرق، أو تعرضهم لمخاطر الحيوانات المتوحشة، والثعابين وغيرها، ولكن مؤونة الطعام التي ذكرت وتقتصر على الشاي والسكر والبصل وبعض الزبد والقهوة والدقيق اضافة الى المياه، تناسب قسوة الصحراء ومخاطر الرحلة، حيث ان الوصول إلى صحراء الربع الخالي لا يستوجب التزود بأطعمة مرفهة، فهذه ليست رحلة بين المدن يمكن التوقف خلالها في الاستراحات، والتزود بالمرطبات والمياه الغازية وعلب البسكويت والمكسرات، وإنما رحلة قاسية في ظروف قاسية، وفي زمن قاس، والأهم من ذلك انها رحلة نحو المجهول لا يمكن ضمان نهايتها.
هوامش
(1) مقابلة مع سالم بن كبينة، عابرو الربع الخالي، ص 24
(2) تعريف بالكاتب في كتاب “الرمال العربية” الطبعة العربية الصادرة عن موتيف ايت بدبي عام 1991
(3) ويلفرد ثيسيجر، الرمال العربية، ص 36 - 37
(4) Will freed Thesiger, Desert, Morsh and Mountain, the World of Nomad P.P 37-38
ذاكرة الزمن ... صحراء الربع الخالي كتاب مفتوح
من منا لم يسمع “بمبارك بن لندن” ذلك الرحالة البريطاني الشهير الذي قدم للمنطقة عام ،1945 واقام بين البدو خمس سنوات، خلال الفترة من 1945 -،1950 اخترق خلالها منطقة الكثبان الرملية المتحركة المعروفة باسم “الربع الخالي” والتي كان أشجع البدو يتجنبون التعمق فيها مرتين بصحبة مجموعة من البدو، وأمدنا بأجمل صور ناطقة تعبر في كل زواياها عن مدى الفقر والعزلة وقسوة الحياة الخالية من أي مظهر من مظاهر الرفاهية.
د. محمد فارس الفارس
تلك الصور الجميلة التي نشرها بن لندن في كتابه “الرمال العربية” الذي صدر للمرة الأولى باللغة الانجليزية عام ،1959 ثم فيما بعد، المزيد من الصور بألبومات وكتب باللغتين الانجليزية والعربية، وتكاد تكون صور بن لندن الأجمل والأشمل عن صحراء الربع الخالي ومنطقة اليمن وعمان وبعض الامارات، بن لندن نشر ملخصاً عن رحلته في مجلة الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية عام ،1950 كما كتب ملخصات لتلك الرحلة في بعض ألبومات الصور التي نشرت، ولكن كتابه “الرمال العربية” الذي ترجم للغة العربية للمرة الأولى عام ،1991 احتوى على تفاصيل اقامته بين البدو، واختراقه لصحراء الربع الخالي. وقبل ان نستعرض رحلة بن لندن، سنتعرف إلى شخصيته.
ويلفرد ثيسيجر
ويلفرد ثيسيجر هو الاسم الحقيقي للرحالة البريطاني الذي أطلق عليه البدو اسم “مبارك بن لندن” وفي كتاب صدر للكاتبة هويدا عطا بعنوان “عابرو الربع الخالي” قامت فيه الكاتبة باجراء مقابلات مع المرافقين الأربعة لبن لندن، يقول سالم بن كبينة أحد مرافقي بن لندن عن سبب تسميته بهذا الاسم، ان ثيسيجر سمي في البداية “مبارك بن مريم”، أما لماذا سمي مبارك، فلم يذكر بن كبينة سبباً لذلك، وعلى ما يبدو، فإن البدو كانوا يرغبون في تسميته باسم سهل وشائع بدلاً من اسمه الأوروبي الصعب، ومبارك اسم شائع عند البدو وفي الوقت نفسه سهل، أما لقب بن مريم، فسببه ان والدة ثيسيجر كان اسمها مريم، وكان كثير من البدو، وخاصة في جنوب الجزيرة العربية، يلقبون بأسماء والداتهم عندما تشتهر امرأة ما بالخلق الطيب، أو الشجاعة، أو تكون صاحبة أياد خيرة، وتصبح شهرتها تطغى على شهرة زوجها، وتشبها بالوسط البدوي الذي خالطه بن لندن متمثلاً في قبيلتي الرواشد وآل كثير وغيرها، والتي كان كثير من أبنائها يتخذون من أسماء أمهاتهم ألقاباً لهم، أطلق على ويلفرد ثيسيجر اسم “مبارك بن مريم”، ولكن بن كبينة يقول ان أحد شيوخ قبيلة الرواشد طلب تغيير هذا الاسم، واختار له بن كبينة اسما جديداً هو “مبارك بن لندن” واصبح هذا الاسم الطريق ملازماً له طوال فترة اقامته بين البدو، كما انه اشتهر به بين القبائل التي خالطها أو مر عليها وعرف به في كل المدن والقرى التي زارها فيما بعد. (1) ولد مبارك بن لندن عام 1910 في مقر البعثة البريطانية في أديس أبابا، وعاش أولى سنوات حياته في الحبشة، وتلقى تعليمه في مدرسة ايثون وكلية ماجدلين بأكسفورد، حيث كسب بطولة الملاكمة لأربع سنوات متتالية، وفي عام ،1920 وقبل تخرجه، حضر تتويج الامبراطور هيلاسي لاسي وقام اثر ذلك برحلة عبر الحبشة، كانت فاتحة لرحلاته، وفي عام ،1935 عين في دائرة الخدمة السياسية السودانية، وتحول قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية في مناطق سودانية، وتشادية شبه مجهولة، ثم انضم الى قوة الدفاع السودانية عام ،1929 وخدم في الحبشة وسوريا، وعمل مع كتيبة الخدمات الجوية الخاصة في الصحراء الغربية، ونال وسام الخدمة المتميزة، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قام بالارتجال سيراً على الاقدام، أو على ظهور الحيوانات في جنوب الجزيرة العربية وكردستان والأهوار العراقية، وصحراء كوش الهندية، ومراكش والحبشة، وتقديراً لرحلاته، منحته الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية ميدالية “فاوندر” وفي عام 1968 منح لقب “كوماندر أوف بريتيش إمباير” (2)
أسباب الرحلة
في كتابه “الرمال العربية” وكتبه ومقالاته الاخرى بالانجليزية، يشرح بن لندن أسباب قيامه برحلته عبر صحراء الربع الخالي، ويبدو أن هناك مجموعة من الاسباب والعوامل التي تجمعت لتدفع بهذا الرحالة للقيام بهذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر والتي استمرت فترة خمس سنوات، كان بن لندن يحضر فيها خلال فترة الشتاء ويستمر بمعايشة البدو وقطع الصحراء مبتدئاً من مدن ومنتهيا بمدن أخرى تختلف في كل مرة عن بعضها، ويرجع طوال فترة الصيف الى انجلترا لتوثيق ما كتبه، ولتحميض الصور الجميلة التي التقطها مع مرافقيه، ويبدو من سيرة بن لندن الذي ولد في الحبشة، وقضى سنوات طويلة في إفريقيا متنقلا بين بعض المدن والقرى والقبائل، ثم في صحراء الربع الخالي، وفيما بعد بين عرب جنوب العراق وبالتحديد في منطقة الأهوار، ان البيئة التي نشأ فيها بين إفريقيا ومنطقة الشرق الاوسط، اسهمت في جذب بن لندن لهذه المنطقة اكثر من بيئته الاصلية في بريطانيا، ومن المعروف أن فترة النصف الأول من القرن العشرين، كانت فترة خصبة مملوءة بالاحداث التي كانت منطقة الشرق الاوسط مسرحاً لها، فتلك الفترة شهدت تحول المجتمعات العربية من البداوة وسلطة القبيلة إلى الاستقرار وتكوين الدويلات، كما أن تلك الفترة شهدت الاهتمام الأوروبي بالنفط العربي، وظهور الصراعات على الحدود التي لم تكن معروفة من قبل، واصبح لها أهمية كبيرة بعد اكتشاف النفط في العراق أواخر العشرينات، واكتشافه في السعودية في الثلاثينات، ونلاحظ قدوم الكثير من الرحالة الذين لا تعرف اهدافهم الحقيقية، ومنهم لورنس المشهور “بلورنس العرب” وامين الريحاني وفيلبي وبرترام توماس وبن لندن وغيرهم.
ولا يمكننا ان نعتبر ان دوافع كل هؤلاء موجهة من دول أو حكومات معينة، فهناك الكثيرون الذين قدموا حباً في ارتياد مناطق لم يرها أحد من الاوروبيين من قبل، وبدافع الرغبة في العيش بنمط الحياة البدائية لابناء الصحارى العربية التي كانت لاتزال على الفطرة وبنفس النمط الذي اعتادت عليه من آلاف السنين. فالانتقال من المدن المتحضرة في اوروبا للعيش في الصحارى والخيام، وركوب الجمال والتنقل مع البدو هو بحد ذاته دافع شوق لشعوب لم تر هذا النمط من العيش من قبل.
ويبدو واضحاً ان المنطقة التي تجول فيها بن لندن سواء اليمن أو صحراء الربع الخالي، ودخوله بعض مدن الامارات، لم تكن ضمن المناطق المتنازع عليها وتتطلب تكليفاً باستكشافها من جهة ما، وانما كان واضحاً ان سبب قدومه هو ما ذكره في كتبه وهو تكليف من مركز ابحاث مكافحة الجراد لاستشكاف تلك المناطق، ومن المعروف ان الحكومة البريطانية كانت مهتمة في تلك الفترة بمكافحة الجراد في منطقة الخليج، ويقول بن لندن حول ذلك على الرغم من أسفاري في صحارى السودان والصحراء الكبرى، إلا أن آخرين كانوا سبقوني الى هناك، واصبح الربع الخالي بالنسبة لي هو الارض الموعودة، إلا أن الوصول اليه كان مستحيلاً، الى ان جاءت لي فرصة “وحدة مكافحة الجراد”، وسبق لي رؤية الكثير من الجراد في السودان، وراقبت اسرابها تعبر الأفق كسحب من الدخان لدى وصولها الى مرتفعات الحبشة آتية من أماكن تفقيسها في الجزيرة العربية، ورأيت الأغصان تتكسر تحت ثقل الجراد الذي يحط عليها، والحقول الخضراء تتحول إلى يباب في ساعات، وكان الدكتور أوفاروف يعتقد ان مراكز انتشار الجراد محصورة في بعض الأماكن المحددة، وان بعضها قد يكون في منطقة مغشن في جنوب الجزيرة العربية”. (3) إذاً، فقد كان تكليف مركز مكافحة الجراد لثيسيجر أو مبارك بن لندن بالقيام بهذه المهمة والتي جاءت على ما يبدو بمحض المصادفة، كانت الفرصة الذهبية لبن لندن لتمويل رحلته التي تحتاج إلى دعم مادي وموافقة السلطات وشيوخ القبائل، ومساندة من السلطة البريطانية سواء في اليمن أو الخليج، وشد بن لندن الرحال إلى صلالة أهم قرى ظفار العمانية الواقعة على الحدود مع اليمن، والقريبة من صحراء الربع الخالي عام 1945.
مرافقو بن لندن:
لا يمكن الاطلاع على تفاصيل رحلة بن لندن وعبوره الربع الخالي مرتين وتجوله في بعض مدن الامارات وعمان واليمن، من دون قراءة الدراسات والمقالات التي كتبها وأهمها مقاله الطويل في مجلة الجمعية الجغرافية البريطانية في عددها الصادر خلال اكتوبر/تشرين الاول - ديسمبر/كانون الأول 1950 اضافة الى كتابي Crossing the Sands وDesert Marsh, and Mountain، فكتاب الرمال العربية المترجم للغة العربية مكتف بتفاصيل غير مهمة عن مشاهدات بن لندن في الصحراء، ويبدو واضحاً ان بن لندن أخفق في كتابه بإعطاء القارئ مادة غنية عن القبائل التي اختلط بها من حيث أماكن وجودها وعدد افرادها وأسماء شيوخها وغيرها من التفاصيل التي ذكرها رحالة آخرون زاروا مناطق القبائل في نجد والخليج، وفيما عدا بعض الاشارات، فإن بن لندن غرق في شرح تفاصيل يومياته في الصحراء والتي لا يوجد بها ما يدعو للاهتمام، واهتمام بن لندن بتلك الرحلة، اضافة الى الخمس سنوات من عمره التي قضاها يتجول في تلك الصحراء الموحشة ويواجه فيها المخاطر التي تصل الى القتل، كان من المفترض ان تسفر عن موسوعة تفصيلية عن القبائل والقرى والتوزيع السكاني للقبائل في كل من عمان والامارات واليمن، مثلما فعل أوبنهايم في كتابه الموسوعة “البدو”، ومع ذلك، فإن كتاب بن لندن المترجم، ومقالاته تعتبر مصدراً رئيسياً للكتاب والباحثين المهتمين بتاريخ المنطقة للاشارات التي ذكرها، والأهم من ذلك، الصور التي لا يوجد لها مثيل في نقاءها وتفاصيلها، وخاصة صور الربع الخالي، كان هناك مرافقون رئيسيون لبن لندن، ومرافقون مؤقتون، ومرافقوه الرئيسيون اربعة هم: سالم بن كبينة وسالم بن غبيشة وعمر بن عمير ومحمد صالح بن كلوت، وجميعهم ينتمون لقبيلة الرواشد اضافة الى انهم أقارب لبعضهم البعض، وهناك بعض المرافقين غير الدائمين وأهمهم مسلم بن الكمام الذي ورد ذكره كثيراً في كتاب بن لندن. كانت مرافقة هؤلاء الشباب لبن لندن في رحلته المحفوفة بالمخاطر الكثيرة، تعكس مدى استعداد الكثيرين في ذلك الوقت لتحمل اي نوع من المخاطر في سبيل كسب العيش، فالفقر الشديد، وانعدام كل مظاهر المدنية، والحرمان الذي يبدو واضحاً بصورة جلية في الصور التي التقطها بن لندن، كانت دافعاً قوياً لتقبل هذا السقف العالي من المخاطرة في الدخول لشهور طويلة في صحراء قاحلة لا يوجد بها سوى الكثبان الرملية التي من الممكن ان تتحرك بسبب اي رياح قوية لتدفنهم، ناهيك عن مخاطر اللصوص وقطاع الطرق والحيوانات المفترسة واحتمالات نقص المؤونة أو نفاذ مياه الشرب بشكل مفاجئ ولأي سبب، ولم يدر في خلد هؤلاء الشباب انهم سيدخلون التاريخ وستنشر صورهم وتفاصيل علاقاتهم مع بعضهم ومع بن لندن في كتب طبعت ووزعت في جميع انحاء العالم، وتبدو فرحتهم واضحة عندما أجرت هويدا عطا مقابلات معهم ونشرتها في كتاب قبل فترة، وقد تقدم بهم العمر، واصبحت تلك الرحلة التي قاموا بها قبل 60 عاماً ذكرى جميلة وتاريخاً لا ينسى.
بداية العبور
تأثر بن لندن برحلات من سبقوه للربع الخالي، فقد عبر برترام توماس صحراء الربع الخالي من الجنوب الى الشمال خلال عامي 1930-،1931 ثم تلاه في العام الذي يليهما جون فيلبي الرحالة المشهور الذي أقام في نجد سنوات طويلة، وعبرها فيلبي من الشمال، ولكن منذ عبرها توماس وفيلبي، وحتى عام ،1945 لم يحدث اي وجود فيها لأي أوروبي، ولم تحلق فوقها طائرة أو تقترب منها سيارة، سندع بن لندن يشرح لنا مشاهداته منذ وطئت قدماه أرض الخليج مبتدئاً رحلته التاريخية عبر الربع الخالي “وصلت الى ظفار على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية في شهر اكتوبر/تشرين الأول ،1945 ومكثت في معسكر تابع لسلاح الطيران الملكي البريطاني بالقرب من قرية صلالة العمانية الصغيرة، لقد طلب مني مركز مكافحة الجراد الذهاب الى مغشن على اطراف الصحراء، وقد أصر والي ظفار على ان يصطحبني 30 مرافقاً من قبيلة الكثيري موضحاً ان الاماكن التي أزمع الذهاب اليها تحفها الاخطار من كل جانب، وخاصة العصابات المغيرة، وكنت متردداً في اصطحاب كل هذا العدد، وكان معظمهم مرتدياً لباساً ساتراً لبعض جسمه، عارية رؤوسهم من أي لباس فيما تظهر شعورهم الطويلة، وكانوا يبدون مثل قبائل الدناكل البدائية”. (4) ويبدو هذا العدد الكبير من المرافقين الذين أمر به الوالي في بداية الرحلة مبالغاً فيه لحماية رحالة يريد اجتياز صحراء قاحلة، فرغم الاخطار التي ذكرها بن لندن في كتابه وعمليات الاغارة والسلب التي تقوم بها كثير من القبائل والتي تصل احيانا للقتل، إلا ان الامر لا يستدعي هذا العدد من المرافقين الذين يحتاجون بالطبع للمؤن وتجهيز جمالهم، اضافة الى مكافآتهم، ولكن وجود بن لندن في مهمة مدعوماً من مركز مكافحة الجراد، وتحت حماية السلطة البريطانية، كان كافياً للإيحاء بضرورة الاستفادة من هذا الدخل لأكبر عدد من أبناء القبائل العاطلين عن العمل، خاصة في ظل تلك الظروف المعيشية الصعبة، ويبدو أن بن لندن فهم هذا الوضع ويعبر عنه بقوله: “طوال الايام التي تلت، كنا نتجمع سوياً للعيش في تلك الصحراء الفسيحة، وفي البداية كنت أجد اللغة العربية التي يتكلمها هؤلاء البدو غير مفهومة، مما أوجد الكثير من مواقف الفهم الخاطئ، وكانوا يدعون جمالهم ترعى، وقد كنت أرتاب في انهم يطيلون من أمد الرحلة طمعاً في زيادة الأجر، فقد كانوا يتقاضونها عن كل يوم”. (5) إلا أن بن لندن قلصّ مرافقيه فيما بعد، واقتصر عبوره الاول والثاني لصحراء الربع الخالي على بن كبينة وبن غبيشة وبن عمير وبن كلوت ويبدو أن مسلم بن الكمام رافقه في اكثر من رحلة حيث ذكر اسمه كثيراً في كتب بن لندن.
مؤونة الرحلة
إن رحلة محفوفة بالمخاطر كهذه الرحلة، تصبح فيها المؤونة أهم ركن في الرحلة كلها، فالمؤونة يجب ان تقدر بشكل جيد ومحسوب، وخاصة الماء، وهذا لا يشمل الرحالة ومرافقيه فقط، وانما الجمال التي ستنقلهم، وتوضع اعتبارات أخرى ربما تفاجئهم في الطريق، كالإغارة من قطاع الطرق والاستيلاء على كميات من الطعام والشراب، أو نفاد الكميات أو ضياعها فالتعمق في داخل الصحراء ولمدة طويلة وغير معلومة يتطلب أخذ كل الاحتياطات، ففي ذلك الوقت، لم يكن توجد هواتف، أو فرق انقاذ، أو طوارئ للتدخل في الوقت المناسب، بل على العكس من ذلك، هناك مخاطر اكثر من الضياع أو نفاد كميات الغذاء تتمثل في احتمالات تحرك الرمال بفعل الرياح أو العواصف ودفنها للرحالة، أو هجوم من قطاع طرق، أو تعرضهم لمخاطر الحيوانات المتوحشة، والثعابين وغيرها، ولكن مؤونة الطعام التي ذكرت وتقتصر على الشاي والسكر والبصل وبعض الزبد والقهوة والدقيق اضافة الى المياه، تناسب قسوة الصحراء ومخاطر الرحلة، حيث ان الوصول إلى صحراء الربع الخالي لا يستوجب التزود بأطعمة مرفهة، فهذه ليست رحلة بين المدن يمكن التوقف خلالها في الاستراحات، والتزود بالمرطبات والمياه الغازية وعلب البسكويت والمكسرات، وإنما رحلة قاسية في ظروف قاسية، وفي زمن قاس، والأهم من ذلك انها رحلة نحو المجهول لا يمكن ضمان نهايتها.
هوامش
(1) مقابلة مع سالم بن كبينة، عابرو الربع الخالي، ص 24
(2) تعريف بالكاتب في كتاب “الرمال العربية” الطبعة العربية الصادرة عن موتيف ايت بدبي عام 1991
(3) ويلفرد ثيسيجر، الرمال العربية، ص 36 - 37
(4) Will freed Thesiger, Desert, Morsh and Mountain, the World of Nomad P.P 37-38