marocaine
02-21-2007, 03:28 PM
وفي عهد الدولة السعدية، حافظ أحمد المنصور الذهبي (ت. 1603م) على علاقاته مع مملكة كانم- برنو. وقد تطورت علاقات البلدين بشكل متسارع، خاصة بعدما رفض الباب العالي العثماني، طلب ماي إدريس عاهل كانم- برنو تزويده بالسلاح الناري بغاية إقامة الجهاد في المناطق الوثنية ببلاد السودان. وعلى إثر ذلك توجهت سفارة لمراكش لتحقيق نفس الغرض، فاستقبل أحمد المنصور سفير ماي إدريس، وأخبره أن ركن الجهاد لا يصح شرعا دون رعاية من إمرة المؤمنين، لذلك طلب منه البيعة باعتباره أميرا للمؤمنين. وبعد تبادل لسفارات عديدة بين العاهلين، أرسل ماي إدريس وثيقة البيعة لأحمد المنصور، غير أن السفير الذي حملها توفي في طريقه إلى المغرب، ولا نعلم ما إذا كان عاهل كانم- برنو ماي إدريس (1564-1596م) حصل على المساعدة العسكرية التي طلبها.
3-3- في عهد المرينيين
وإذا عدنا لغرب بلاد السودان خلال القرن 14م، سنلاحظ مع ابن خلدون أن العلاقات المغربية السودانية، تطورت بشكل لم يسبق له مثيل، حيث سارت بين السلاطين من ملوك بني مرين وملوك إمبراطورية مالي العديد من السفارات. ويظهر أن السلطان أبا الحسن المريني (1330-1349م) بجانب عاهل امبراطورية مالي منسى موسى (1312-1337م)، كان لهما الدور البالغ في تقعيد أسس هذه العلاقة وبناء عمارتها،" [فـ] توارث تلك الوصلة أعقابهما" على قول ابن خلدون، الذي كان شاهدا ومتتبعا للكثير من أحوال العلاقات المرينية المالية، والسفارات المتبادلة بين البلاطين.
وقد لا نجد نصا أفصح في التعبير عن ظروف وحيثيات هذه المرحلة، مثلما عبر عنها مؤرخنا صاحب العبر، حينما قال:" كان بين السلطان منسى موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة ومهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحف ممالكه مما تحدث عنه الناس [...] ولما استولى السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط وغلب بني زيان على ملكهم، عظم قدره وطال ذكره وشاعت أخباره في الآفاق. وسما السلطان منسى موسى إلى مخاطبة السلطان أبي الحسن [...] فأوفد عليه جماعة من أهل مملكته مع ترجمان من الملثمين المجاورين لبلادهم من صنهاجة، فوفدوا على السلطان أبي الحسن في سبيل التهنئة بالظفر [عام1337م]. ونزع [ أبو الحسن] إلى مذهبه في الفخر، فانتخب طرفا من متاع المغرب وماعونه وشيئا من ذخيرة داره. وأسنى الهدية وعين رجالا من أهل دولته [...] أوفدهم بها على ملك مالي، وتوغل [الرّكب] في القفر إلى بلد مالي بعد الجهد وطول الشّقة، وأحسن منسى سليمان [1341-1361م] مبرتهم ومنقلبهم وعادوا إلى مرسلهم في وفد من كبار مالي يعظمون سلطان الحسن ويوجبون حقّه ويؤدون طاعته ويذكرون من خضوع مُرسلهم وقيامه بحق السلطان أبي الحسن واعتماله في مرضاته ما استوصاهم به".(1)
ولعل خير ما يترجم المستوى الرفيع الذي بلغته العلاقات المرينية المالية، إنما يكمن في الحفل الديني الذي صنعه السطان منسى سليمان بعاصمة ملكه برسم التعزية في فقدان السلطان أبي الحسن المريني. ووافق إقامة الحفل الديني، وجود ابن بطوطة بالعاصمة نياني في أحد شهور عام 1353م، فدعاه السلطان المالي لحضور وقائع التعزية، فتأثر رحالتنا غاية التأثر بهذه المبادرة التي ظلت عالقة بذهنه، فسجلها ضمن ما سجله عن مملكة مالي المسلمة.
والغالب على الظن، أن الشاعر الأندلسي أبا إسحاق الساحلي الذي تعرف عليه منسى موسى بمكة أثناء حجته المشهورة عام 1324م، ثم استقدمه معه لمالي في السنة الموالية بغاية الاستفادة من علمه وخبرته الهندسية في العمارة، كان له دور لا يستهان به في توطيد العلاقات بين البلاطين المريني والمالي. ذلك أن الساحلي أثناء إقامته واستقراره بعاصمة مالي، كان يتردد على المغرب، بل إنه دخل يوما على السلطان أبي الحسن المريني، وأنشده قصيدة شعرية، حفزه فيها على ضم تلمسان.(2)
3-4- في عهد السعديين
وعلى عهد السعديين، استمرت العلاقات المغربية السودانية على نفس الوثيرة خلال القرن 16م، وتوطدت مع العديد من الممالك والإمارات الواقعة على الضفة الجنوبية للصحراء، منها ما أشرنا إليه سابقا بخصوص مملكة كانم-برنو، ومنها المستجدة مثل تلك التي قامت بين السعديين ومملكة أغاديس، ثم مملكة كِبي الواقعة شمال شرق بلاد حوس.(3)
وما من شك في أن أهم العلاقات الديبلوماسية التي نسجها السعديون مع بلاد السودان، إنما تمثلت في تلك التي ربطتهم بمملكة سنغاي على عهد الأسكيين(1493-1591). على أن ما أحاط بهذه التجربة من صعوبات مختلفة، وما ترتب عليها من مخلفات، أدت في نهاية المطاف بأحمد المنصور للقيام بحملة عسكرية، استعمل عليها القائد جودر باشا عام 1591م، استهدفت ضم مملكة سنغاي. وتشكلت بذلك وحدة مغربية شملت مجال سنغاي، مما سمح أكثر من أي وقت مضى بتوثيق وترسيخ عرى التواصل بين جميع جهات الدولة السعدية.
وقد قام بالمنطقة السودانية من الدولة السعدية، نظام حكم عرف تحت اسم الرُّماة، اتخذ من مدينة تنبكت مقر سلطته. وكلما دعت الضرورة، كان أحمد المنصور الذهبي يعيّن على رأس النظام أحد قواد جنده المخلصين، يُطلَق عليهم الباشوات.
3-5- في عهد العلويين
وعلى إثر انهيار الدولة السعدية، خاصة بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي عام 1603م، أخذ الباشوات(الرّماة) يستقلون بنفوذهم عن السلطة المركزية بمراكش. وجراء الأحوال الداخلية والمستجدات الدولية، فإنه باستثناء المحاولات الجادة للسلطان مولاي إسماعيل (1672-1727م)، لم يتوفق سلاطين الدولة العلوية في تجديد وإنعاش العلاقات السياسية مع تنبكت باعتبارها القلب النابض لمنطقة الحوض الأوسط لنهر النيجر؛ لكن العلاقات التجارية والثقافية الروحية، ظلت على ما كانت عليه، وهذا ما يفسر استنجاد السودان وفقهاء تنبكت (عام 1893م) بالسلطان العلوي مولاي الحسن بغاية درء وصد الغزو الاستعماري الفرنسي للمنطقة.(4)
4 ـ الهجرات
تمثل التحركات البشرية والهجرات القبلية، القناة الثالثة التي ساهمت في إخصاب العلاقات المغربية السودانية. فمنذ القرون الإسلامية الأولى، شكل الفضاء الجغرافي الممتد من نهر السنغال والحوض الأوسط لنهر النيجر إلى الأندلس، مجالا سهلا ومتيسرا لتحركات القبائل الصنهاجية.(5) ولعل أوضح شاهد أو نموذج يعكس هذه السيولة البشرية في المجالات المعنية، يتجلى في شواهد قبور ﮔـاو الرخامية، التي صنعت في أغلبها بألميريا الأندلسية، ثم عبرت البحر الأبيض المتوسط والصحراء إلى أن وصلت للمدينة السنغائية في ملتقى القرنين 11 و12م.
والكثير من هذه الشواهد تحمل أسماء عربية لأمراء وأميرات سنغيين، كما رسم على بعضها آيات من القرآن الكريم. ويظهر أن بعض هذه الشواهد هي من صنع محلّي، حاول تمثّل النموذج المستورد على المستوى الفني ومنه رسم الخط.(6)
وشهدت المنطقة هجرات واسعة فيما بين القرن 14 و16م، إذ خلال هذه الفترة تنامى زحف قبائل بني هلال العربية في اتجاه المحيط الأطلنتي، ثم تدافعت بعض فروعها (حسان) من الجنوب المغربي إلى الصحراء، فزاحمت القبائل الصنهاجية المنتشرة هنالك منذ قرون عديدة. وبعد ذلك داخلتها بوسائل سلمية (مثل المصاهرة والتحالف) أو حربية عسكرية(حرب شرببه). ونتيجة لهذا التثاقف والاحتكاك مختلف الأبعاد بين العناصر العربية والأمازيغية، ظهرت ثقافة المور [ = Maures ] أو البيضان،(7) التي تستعمل لهجة عربية مختلطة بالعديد من الكلمات المحلية الزناﮔية، و هي اللهجة التي أصبحت تعرف بـ الحسانية.
وعلى المستوى الاجتماعي– السياسي، انقسم المجتمع البيضاني منذئذ إلى ثلاث فئات متمايزة في وظائفها، ثم ترسخ التقسيم أو التراتب الاجتماعي بعد حرب شرببه أواخر القرن 17م، وظل قائما إلى حين دخول الاستعمار الفرنسي للمنطقة؛ والفئات المعنية، هي: حسان والزوايا و اللحمة أو ازناﮔـة.(8)
وكانت حياة القبائل المحاربة من حسان تقوم على الترحال وتربية الماشية والغزو والنهب. فيما كانت قبائل الزوايا (جمع زاوي) مختصة ومهتمة بالشأن الديني والتعليم الإسلامي، مما أهلها لتولي الخطط الدينية. وقد ارتبط اسم الزوايا بالعديد من المراكز الحضرية التي أنشأوها، واستقر الكثير منهم بها، مثل وادان وشنقيط وتيشيت وولاتة.
وترتبط هذه المراكز بشبكة من الطرق الواصلة فيما بينها، كما أنها تشكل في جملتها حلقة وصل بين المغرب وبلاد الصحراء. ويظهر أن زوايا منطقة القبلة(= الـﮔـبلة)،(9) كان لهم دور هام وحاسم في نشر الثقافة المغربية العربية الإسلامية بمنطقة السنغامبيا وما يوجد وراءها من جهات وأقاليم، وامتد تأثيرهم الديني والثقافي بعد نهاية القرن 17م، ليشمل الحوض الأوسط لنهر النيجر.
وحينما برزت قبيلة كنتة التي تدعي الأصل العربي شأن الكثير من قبائل الصحراء، وأصبحت تمثل قوة قبلية وثقافية – دينية ضاربة في جل المجالات الصحراوية من شرق منطقة القبلة إلى تنبكت، أخذت تلعب دور الوسيط فيما بين ضفتي الصحراء خلال القرنيين 18 و19م، خاصة فيما بين واحات توات وأزواد وتنبكت. وكان لأسرة البكاي الكنتية بتنبكت علاقات وطيدة بعلماء وفقهاء المغرب، وتمكنت بفضل نفوذها الروحي والتجاري من أن تلعب دورا بالغ الأهمية بمنطقة الساحل والصحراء وبلاد السودان خلال القرن 19م، إن على المستوى الديني أو السياسي.(10)
5 ـ انتشار الإسلام: الأسلمة
ألمعت سابقا للتأثيرات الثقافية المغربية التي بلغت إفريقيا الغربية عبر الفقهاء والعلماء والدعاة المسلمين. ومظاهر التأثير التي أود التوقف عندها، تتمثل في ثلاثة عناصر، وهي: الكتابة العربية والرسم بالخط العربي، والمذهب المالكي، والطرق الصوفية.
لا شك أن مختلف طرائق رسم الخط العربي المنتشرة في الصحراء وإفريقيا الغربية، إنما تجد جذورها أو تنهل من الرسم الموسوم بالخط المغربي. ويبدو أن سبل انتقاله إلى نيجيريا والحوض الأوسط لنهر النيجر، تم انطلاقا من طرابلس الغرب والقيروان، بينما انتقل لبلدان منطقة السنغامبيا(11) من المغرب الأقصى والأندلس مرورا ببلاد شنقيط. ولم يستقر الرسم المغربي بإفريقيا الغربية على حاله، بل خضع واستجاب للحاجيات الروحية والمادية المحلية، فصبغه النسّاخ هنالك بتحويرات فنية خاصة ومميزة.
ويمكننا القول إن أهل المنطقة، استعملوا الحرف العربي مع التغييرات التي أدخلوها، للتعبير عن ثقافتهم الأم. فعلى سبيل المثال استعانت لغات ولهجات الولوف والفلان والحوس بالحرف العربي قبل وصول الأوروبيين للمنطقة، وقبل إدخال الألفبائية الرومانية إليها. وبذلك توفر لنا أدب إفريقي خالص مكتوب بالحرف العربي يعرف بالأدب الأعجمي، وهو بحاجة شديدة للدراسة العميقة، مثلما الأمر بالنسبة لموضوع انتشار استعمال الحرف العربي بإفريقيا الغربية والتطورات التي شهدها رسمه. وتدلنا مجموع هذه المظاهر على إنسية مغربية بالغة التأثير في إفريقيا، ومَجمَع الباحثين مدعو لأن يخصّها بقدر كبير من الاهتمام والبحث العلمي.(12)
5-1- المذهب المالكي هبة بلاد المغرب
أعتقد أن المذهب المالكي هبة بلاد المغرب. ظهر أول الأمر بالمدينة المنورة، غير أن الغرب الإسلامي شكل التربة الخصبة التي احتضنته ورعته إلى أن استقام عوده واشتد عضده. وكان لمدارس القيروان وقرطبة، فيما بين القرن 9 و القرن 11م، الدور الرائد بهذا الشأن.
وقبل قيام الحركة المرابطية، لم يكن المذهب المالكي سائدا في المغرب الأقصى، لكنه لم يكن غائبا، حيث كان حضوره مزاحما بقوة من المذاهب والنحل الأخرى، مثل المذهب الشيعي والخارجي، دون الحديث عن هرطقة برغواطة بتامسنا.
وحينما انتصر المذهب المالكي بصفة نهائية بشمال إفريقيا، انتقلت سيادته لإفريقيا الغربية منذ بداية القرن 12م، وذلك بحكم مالكية التجار والدعاة والفقهاء الذين عملوا على نشر الإسلام فيما وراء الصحراء. وكذلك بحكم فعالية القبائل السودانية التي اعتنقت الإسلام المالكي مبكرا، ثم أخذت تنشره بين بني جلدتها، نخص بالذكر منهم قبيل الديولا (وريث الماندينغ: Manding )، الذي اشتهر بممارسة التجارة في بلاد السودان طيلة العصر الوسيط.
5-2- لطرق الصوفية بإفريقيا جنوبي الصحراء
وعلى غرار عمل المغاربة على نشر الإسلام المالكي بإفريقيا جنوبي الصحراء، فقد كان لهم كذلك الدور الحاسم في نشر الطرق الصوفية بها، خاصة منها الشاذلية والتجانية، اللتين اصطبغتا بروح مغربية خالصة. كما عرفت الطريقة القادرية، التي نشأت ببغداد وانتقلت لبلاد المغرب، انتشارا ملحوظا في الحوض الأوسط لنهر النيجر بعد القرن 17م، وذلك على يد المريدين من الأسرة الكنتية.
وما من شك في أن هناك شخصيتين كان لهما فضل كبير في الانتشار الواسع للطريقة التجانية بإفريقيا الغربية خلال القرن 19م وما بعده. أولهما، الشيخ الحاج عمر بن سعيد الفوتي (ت.1864)، الذي تزعم حركة إصلاحية وجهادية بالمنطقة، وخلف لنا كتابه الموسوم بـ " رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم".(13) وثانيهما، الزعيم السنغالي الشيخ إبراهيم نياس (ت. 1975)، الذي عمل واجتهد في نشر الطريقة ببلده الأصلي وما جاوره من بلدان مثل غانا وشمال نيجيريا، حيث يوجد الكثير من مريديه.
وبالنسبة للطريقة القادرية، يُعدّ الشيخ عثمان بن فودي أو عثمان بن فوديو كما هو شائع لدى أهل حوس (ت. 1817)، الشخصية البارزة التي ساهمت بحظ وافر في انتشارها. والشيخ عثمان من أصل فلاني، ازداد عام 1754 شمال شرق نيجيريا الحالية. وفي عام 1804، قاد حركة جهادية ضد ملوك وأمراء بلاد حوس، وتمكّن في نهاية المطاف من تأسيس دولة مركزية شملت الفضاء الثقافي الحوسي وهوامشه، وعُرفت بالدولة السّـكتية نسبة لاسم العاصمة: سُكُتُ.(14)
وبالنظر للدور الكبير الذي لعبه الشيخ عثمان في تاريخ الحياة الدينية والثقافية والسياسية في المجال الحوسي وهوامشه، فإن أصداء ذكراه، وذكرى أعماله الجليلة ما تزال حية في ذاكرة النيجيريين لحد الآن؛ والكثير من أبناء وأحفاد الأمراء الذين عيّنهم الشيخ ورتّبهم على رأس الجهات والأقاليم يتمتعون إلى الوقت الراهن بتقدير كبير لدى الأهالي، وإن افتقدوا السلطة السياسية.
وقد خلّف الشيخ عثمان وأخوه عبد الله وابنه محمد بلّ ما يزيد عن ثلاثمائة مؤلف، غالبا ما يعود فيها السند على العلماء المغاربة، مما يبرز مدى تأثرهم بالإنتاج العلمي المغربي سواء في جانبه الفقهي أو الصوفي.(15)
وإذا كانت التأثيرات في العلاقات ما بين ضفتي الصحراء غالبا ما تأتي من الشمال، فإننا لا نعدم بعض الحالات الاستثنائية، منها نموذج رحلة الولي أحمد اليمني، الذي خرج عام 1668م من زاوية بقرية صغيرة على النيل الأزرق (بجمهورية السودان)، وجال في إفريقيا من أقصاها الشرقي إلى أقصاها الغربي.
وأثناء تجواله كان يقصد أهل الصلاح ورجال التصوف والمريدين، حيث زار الكثير منهم في بَرْنُو والإير، وحينما بلغ فاس، تعلق بمريدي الزاوية الدلائية، مما جعل أحدهم: محمد المسناوي يكتب نبذة عنه، لم يتم بعد تحقيقها وإخراجها. (16) ومن أولياء الله العارفين الذين التقى بهم أحمد اليمني في رحلاته، نجد ولي الله سيدي عبد الله بن عبد الجليل البرنوي، الذي ذاعت كراماته واشتهرت في المغرب بفضل رواية أحمد اليمني، وبفضل ما كتبه عنه أحمد بن عبد الحي الحلبي، وهو رجل شامي الأصل كما يظهر من نسبته، اتخذ من فاس مستقرا له. ومضمون التأليف يندرج ضمن الكتابات المناقبية، حمل عنوان:" ريحان القلوب فيما للشيخ عبد الله البرنوي من أسرار الغيوب".(17)
الهوامش:
(1) - ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن والاهم من السلطان الأكبر. بـيـروت: دار الكتاب اللبناني، 1968. المجلد 6، صص 416-417. والمجلد 7، صص 554-555. ومدونة كيوك، صص 348-351.
(2) - J. O. Hunwick, « An Andalusian in Mali : a contrbution to the biography of Abu Ishâq al-Sâhilî, c. 1290-1346», Paideuma, XXXVI (1990),59-66.
(3) - John O. Hunwick, A little-known diplomatic episode in the history of Kebbi (c. 1594), Journal of the Historical Society of Nigeria, V, 4 (1971), 575-81.
(4) - يظهر أن البحاثة القدير جان هنويك، ربما قفز سهوا على العلاقات المغربية السودانية على عهد الوطاسيين. ذلك أنه في سياق العلاقات الحميمية التي جمعت بين الأسر الحاكمة في كل من المغرب و بلاد السودان، حاول الوطاسيون ملوك فاس إنع ـ اش هذه العلاقات التقليدية ، فبادر محمد الوطاسي البرتغالي بإرسال سفارة إلى الحاج أسكيا محمد (1493-1528م) . وكان ممن سار في الوفد السّـفاري المغربي الحسن الوزان المعروف بليون الإفريقي، الذي دوّن وسجّـل لنا الكثير من مشاهداته وملاحظاته حول بلاد السودان في مؤلفه المشهور:" وصف إفريقيا ". [المترجم]
(5) - تقدم لنا المواد المصدرية العربية خلال العصر الوسيط، لوحة ذات قيمة معتبرة بخصوص التوزيع الجغرافي للقبيل الصنهاجي لمتونة. ذلك أنه فضلا عن مواقهم الصحراوية المعهودة وتنقلاتهم في المغرب المرابطي بما فيه الأندلس، يمكننا أن نجد آثارهم في أعماق بلاد السودان بجني أو نياني مثلا، أو في الحواضر السودانية من الحوض الأوسط لنهر النيجر إلى المحيط الأطلسي جنوب نهر السنغال، خاصة في منطقتي فوت تور وفوت جلو. [المترجم]
(6) - J. Sauvaget, « Les épitaphes Royales de Gao » , Bull. de l’I. F. A. N., XII (1940), 418-440.
ـ وجل الأسماء المنقوشة والمرسومة ذات شحنة دينية بالغة، حيث تحيلنا على أسماء الصحابة أو الخلفاء الراشدين، أو زوجات الرسول(صلعم). [المترجم]
(7) - استعملت المصادر العربية القرسطوية مصطلح "البيضان" للدلالة على مجموع القبائل الصحراوية المنتشرة فيما بين المحيط الأطلسي إلى حواف بحيرة التشاد. والتوظيف هنا يعتمد تمييزهم عن السودان المجاورين لهم من جهة الجنوب. بيد أن الاصطلاح منذ مطلع القرن 18م عرف تطورا في شحنته الدلالية، فأصبح دالا على بعد ثقافي أكثر منه عرقي.[ المترجم]
(8) - حسان: يحتكرون القوة العسكرية ويمارسون السلطة السياسية بالغصب والغزو، ضمن ما عرف بالنظام الأميري. الزويا: اختصوا بالعلم والتعليم والقضاء والفتوى، الأمر الذي جعلهم يحتكرون المعرفة الدينية، مما وفر لهم سلطة رمزية فاعلة داخل المجتمع البيضاني. اللّحمة أو ازناﮔـة: وهم الأتباع أو القبائل الغارمة، يعملون في الأنشطة الاقتصادية، خاصة في مجال الرعي، ويقومون بخدمة حسان والزوايا مقابل توفير الحماية لهم. [المترجم]
(9) - كلمة القبلة في المصادر العربية القرسطوية (كما مر بنا في نص اليعقوبي) تعني الجنوب. لكنها في الثقافة البيضانية، تستعمل للدلالة على المنطقة الجنوبية الغربية من بلاد شنقيط (= موريتانيا الحالية)، أي المنطقة المنحصرة فيما بين المحيط الأطلنتي ونهر السنغال. [ المترجم]
(10) - شكلت هذه القضية موضوع أطروحة متميزة، لباحثة مغربية، تمت مناقشتها مؤخرا برسم نيل الدكتوراه بباريس. انظر:
- Zahra Tamouh, Le Maroc et le Soudan au XIXe siècle. Contribution à une histoire régionale. Thèse de 3e cycle, Université de Panthéon- Sorbonne (Paris I), 1982.
(11) - بصفة عامة، فإن منطقة السينغامبيا، تضم مجموع الدول الواقعة بين نهري السينغال والنيجر، وتمتد أفقيا من المحيط الأطلسي لتشمل عددا من الدول، منها: السنغال ومالي وغينيا وسيراليون وساحل العاج وغانا ونيجيريا والنيجر...الخ. وقد كان الباحث بوباكر باري، من أبرز المؤرخين الأفارقة الذين روجوا لاستعمال المصطلح بمفهوم جغرافي- استراتيجي، أكثر منه تاريخي، حيث يضم بالنسبة له حوالي 16 دولة. [المترجم]
(12) - الدراسة الوحيدة التي أنجزت لحد الآن حول الموضوع، هي لبيفار:
- A. D. H . Bivar, «The Arabic calligraphy of West Africa», African ******************************** Review, VI (1968), 3-15.
(13) - للاستزادة حول الموضوع، يمكن الرجوع للدراسة القيمة التي أنجزها الأستاذ الباحث أحمد الأزمي: الطريقة التجانية في المغرب والسودان الغربي خلال القرن 19م. الرباط: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2000. [المترجم]
(14) - فودي: تعني في لغة الفلان الفقيه. وبالنسبة لمراحل وأطوار جهاد الشيخ عثمان بن فودي، فقد تناولها ابنه محمد بلّ في كتابه الموسوم ب: " إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور ". وقد اشتغلت عليه الباحثة بهيجة الشاذلي وحققته، برسم نيل د.د.ع.، جامعة محمد الخامس بالرباط، السنة الجامعية 1989-1990. وبعد التصحيح والمقابلة بنسخ جديدة، صدر هذا العمل ضمن منشورات معهد الدراسات الإفريقية بالرباط، 1996 .
(15) - تجدر الإشارة هنا أن الكثير من مخطوطات هؤلاء الأعلام الثلاثة،، متوفرة بالخزانات المغربية.
(16) - المخطوط محفوظ في الخزانة العامة بالرباط، ورقمه، د 6/471.
(17) - توجد نسخة فريدة من المخطوط، تحتفظ بها إحدى الخزانات المغربية الخاصة. انظر: محمد إبراهيم الكتاني، مصادر تاريخ إفريقيا من خلال المخطوطات المغربية. الرباط: منشورات الأكاديمية المغربية، العدد الرابع، 1987. ص 242.
3-3- في عهد المرينيين
وإذا عدنا لغرب بلاد السودان خلال القرن 14م، سنلاحظ مع ابن خلدون أن العلاقات المغربية السودانية، تطورت بشكل لم يسبق له مثيل، حيث سارت بين السلاطين من ملوك بني مرين وملوك إمبراطورية مالي العديد من السفارات. ويظهر أن السلطان أبا الحسن المريني (1330-1349م) بجانب عاهل امبراطورية مالي منسى موسى (1312-1337م)، كان لهما الدور البالغ في تقعيد أسس هذه العلاقة وبناء عمارتها،" [فـ] توارث تلك الوصلة أعقابهما" على قول ابن خلدون، الذي كان شاهدا ومتتبعا للكثير من أحوال العلاقات المرينية المالية، والسفارات المتبادلة بين البلاطين.
وقد لا نجد نصا أفصح في التعبير عن ظروف وحيثيات هذه المرحلة، مثلما عبر عنها مؤرخنا صاحب العبر، حينما قال:" كان بين السلطان منسى موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة ومهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحف ممالكه مما تحدث عنه الناس [...] ولما استولى السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط وغلب بني زيان على ملكهم، عظم قدره وطال ذكره وشاعت أخباره في الآفاق. وسما السلطان منسى موسى إلى مخاطبة السلطان أبي الحسن [...] فأوفد عليه جماعة من أهل مملكته مع ترجمان من الملثمين المجاورين لبلادهم من صنهاجة، فوفدوا على السلطان أبي الحسن في سبيل التهنئة بالظفر [عام1337م]. ونزع [ أبو الحسن] إلى مذهبه في الفخر، فانتخب طرفا من متاع المغرب وماعونه وشيئا من ذخيرة داره. وأسنى الهدية وعين رجالا من أهل دولته [...] أوفدهم بها على ملك مالي، وتوغل [الرّكب] في القفر إلى بلد مالي بعد الجهد وطول الشّقة، وأحسن منسى سليمان [1341-1361م] مبرتهم ومنقلبهم وعادوا إلى مرسلهم في وفد من كبار مالي يعظمون سلطان الحسن ويوجبون حقّه ويؤدون طاعته ويذكرون من خضوع مُرسلهم وقيامه بحق السلطان أبي الحسن واعتماله في مرضاته ما استوصاهم به".(1)
ولعل خير ما يترجم المستوى الرفيع الذي بلغته العلاقات المرينية المالية، إنما يكمن في الحفل الديني الذي صنعه السطان منسى سليمان بعاصمة ملكه برسم التعزية في فقدان السلطان أبي الحسن المريني. ووافق إقامة الحفل الديني، وجود ابن بطوطة بالعاصمة نياني في أحد شهور عام 1353م، فدعاه السلطان المالي لحضور وقائع التعزية، فتأثر رحالتنا غاية التأثر بهذه المبادرة التي ظلت عالقة بذهنه، فسجلها ضمن ما سجله عن مملكة مالي المسلمة.
والغالب على الظن، أن الشاعر الأندلسي أبا إسحاق الساحلي الذي تعرف عليه منسى موسى بمكة أثناء حجته المشهورة عام 1324م، ثم استقدمه معه لمالي في السنة الموالية بغاية الاستفادة من علمه وخبرته الهندسية في العمارة، كان له دور لا يستهان به في توطيد العلاقات بين البلاطين المريني والمالي. ذلك أن الساحلي أثناء إقامته واستقراره بعاصمة مالي، كان يتردد على المغرب، بل إنه دخل يوما على السلطان أبي الحسن المريني، وأنشده قصيدة شعرية، حفزه فيها على ضم تلمسان.(2)
3-4- في عهد السعديين
وعلى عهد السعديين، استمرت العلاقات المغربية السودانية على نفس الوثيرة خلال القرن 16م، وتوطدت مع العديد من الممالك والإمارات الواقعة على الضفة الجنوبية للصحراء، منها ما أشرنا إليه سابقا بخصوص مملكة كانم-برنو، ومنها المستجدة مثل تلك التي قامت بين السعديين ومملكة أغاديس، ثم مملكة كِبي الواقعة شمال شرق بلاد حوس.(3)
وما من شك في أن أهم العلاقات الديبلوماسية التي نسجها السعديون مع بلاد السودان، إنما تمثلت في تلك التي ربطتهم بمملكة سنغاي على عهد الأسكيين(1493-1591). على أن ما أحاط بهذه التجربة من صعوبات مختلفة، وما ترتب عليها من مخلفات، أدت في نهاية المطاف بأحمد المنصور للقيام بحملة عسكرية، استعمل عليها القائد جودر باشا عام 1591م، استهدفت ضم مملكة سنغاي. وتشكلت بذلك وحدة مغربية شملت مجال سنغاي، مما سمح أكثر من أي وقت مضى بتوثيق وترسيخ عرى التواصل بين جميع جهات الدولة السعدية.
وقد قام بالمنطقة السودانية من الدولة السعدية، نظام حكم عرف تحت اسم الرُّماة، اتخذ من مدينة تنبكت مقر سلطته. وكلما دعت الضرورة، كان أحمد المنصور الذهبي يعيّن على رأس النظام أحد قواد جنده المخلصين، يُطلَق عليهم الباشوات.
3-5- في عهد العلويين
وعلى إثر انهيار الدولة السعدية، خاصة بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي عام 1603م، أخذ الباشوات(الرّماة) يستقلون بنفوذهم عن السلطة المركزية بمراكش. وجراء الأحوال الداخلية والمستجدات الدولية، فإنه باستثناء المحاولات الجادة للسلطان مولاي إسماعيل (1672-1727م)، لم يتوفق سلاطين الدولة العلوية في تجديد وإنعاش العلاقات السياسية مع تنبكت باعتبارها القلب النابض لمنطقة الحوض الأوسط لنهر النيجر؛ لكن العلاقات التجارية والثقافية الروحية، ظلت على ما كانت عليه، وهذا ما يفسر استنجاد السودان وفقهاء تنبكت (عام 1893م) بالسلطان العلوي مولاي الحسن بغاية درء وصد الغزو الاستعماري الفرنسي للمنطقة.(4)
4 ـ الهجرات
تمثل التحركات البشرية والهجرات القبلية، القناة الثالثة التي ساهمت في إخصاب العلاقات المغربية السودانية. فمنذ القرون الإسلامية الأولى، شكل الفضاء الجغرافي الممتد من نهر السنغال والحوض الأوسط لنهر النيجر إلى الأندلس، مجالا سهلا ومتيسرا لتحركات القبائل الصنهاجية.(5) ولعل أوضح شاهد أو نموذج يعكس هذه السيولة البشرية في المجالات المعنية، يتجلى في شواهد قبور ﮔـاو الرخامية، التي صنعت في أغلبها بألميريا الأندلسية، ثم عبرت البحر الأبيض المتوسط والصحراء إلى أن وصلت للمدينة السنغائية في ملتقى القرنين 11 و12م.
والكثير من هذه الشواهد تحمل أسماء عربية لأمراء وأميرات سنغيين، كما رسم على بعضها آيات من القرآن الكريم. ويظهر أن بعض هذه الشواهد هي من صنع محلّي، حاول تمثّل النموذج المستورد على المستوى الفني ومنه رسم الخط.(6)
وشهدت المنطقة هجرات واسعة فيما بين القرن 14 و16م، إذ خلال هذه الفترة تنامى زحف قبائل بني هلال العربية في اتجاه المحيط الأطلنتي، ثم تدافعت بعض فروعها (حسان) من الجنوب المغربي إلى الصحراء، فزاحمت القبائل الصنهاجية المنتشرة هنالك منذ قرون عديدة. وبعد ذلك داخلتها بوسائل سلمية (مثل المصاهرة والتحالف) أو حربية عسكرية(حرب شرببه). ونتيجة لهذا التثاقف والاحتكاك مختلف الأبعاد بين العناصر العربية والأمازيغية، ظهرت ثقافة المور [ = Maures ] أو البيضان،(7) التي تستعمل لهجة عربية مختلطة بالعديد من الكلمات المحلية الزناﮔية، و هي اللهجة التي أصبحت تعرف بـ الحسانية.
وعلى المستوى الاجتماعي– السياسي، انقسم المجتمع البيضاني منذئذ إلى ثلاث فئات متمايزة في وظائفها، ثم ترسخ التقسيم أو التراتب الاجتماعي بعد حرب شرببه أواخر القرن 17م، وظل قائما إلى حين دخول الاستعمار الفرنسي للمنطقة؛ والفئات المعنية، هي: حسان والزوايا و اللحمة أو ازناﮔـة.(8)
وكانت حياة القبائل المحاربة من حسان تقوم على الترحال وتربية الماشية والغزو والنهب. فيما كانت قبائل الزوايا (جمع زاوي) مختصة ومهتمة بالشأن الديني والتعليم الإسلامي، مما أهلها لتولي الخطط الدينية. وقد ارتبط اسم الزوايا بالعديد من المراكز الحضرية التي أنشأوها، واستقر الكثير منهم بها، مثل وادان وشنقيط وتيشيت وولاتة.
وترتبط هذه المراكز بشبكة من الطرق الواصلة فيما بينها، كما أنها تشكل في جملتها حلقة وصل بين المغرب وبلاد الصحراء. ويظهر أن زوايا منطقة القبلة(= الـﮔـبلة)،(9) كان لهم دور هام وحاسم في نشر الثقافة المغربية العربية الإسلامية بمنطقة السنغامبيا وما يوجد وراءها من جهات وأقاليم، وامتد تأثيرهم الديني والثقافي بعد نهاية القرن 17م، ليشمل الحوض الأوسط لنهر النيجر.
وحينما برزت قبيلة كنتة التي تدعي الأصل العربي شأن الكثير من قبائل الصحراء، وأصبحت تمثل قوة قبلية وثقافية – دينية ضاربة في جل المجالات الصحراوية من شرق منطقة القبلة إلى تنبكت، أخذت تلعب دور الوسيط فيما بين ضفتي الصحراء خلال القرنيين 18 و19م، خاصة فيما بين واحات توات وأزواد وتنبكت. وكان لأسرة البكاي الكنتية بتنبكت علاقات وطيدة بعلماء وفقهاء المغرب، وتمكنت بفضل نفوذها الروحي والتجاري من أن تلعب دورا بالغ الأهمية بمنطقة الساحل والصحراء وبلاد السودان خلال القرن 19م، إن على المستوى الديني أو السياسي.(10)
5 ـ انتشار الإسلام: الأسلمة
ألمعت سابقا للتأثيرات الثقافية المغربية التي بلغت إفريقيا الغربية عبر الفقهاء والعلماء والدعاة المسلمين. ومظاهر التأثير التي أود التوقف عندها، تتمثل في ثلاثة عناصر، وهي: الكتابة العربية والرسم بالخط العربي، والمذهب المالكي، والطرق الصوفية.
لا شك أن مختلف طرائق رسم الخط العربي المنتشرة في الصحراء وإفريقيا الغربية، إنما تجد جذورها أو تنهل من الرسم الموسوم بالخط المغربي. ويبدو أن سبل انتقاله إلى نيجيريا والحوض الأوسط لنهر النيجر، تم انطلاقا من طرابلس الغرب والقيروان، بينما انتقل لبلدان منطقة السنغامبيا(11) من المغرب الأقصى والأندلس مرورا ببلاد شنقيط. ولم يستقر الرسم المغربي بإفريقيا الغربية على حاله، بل خضع واستجاب للحاجيات الروحية والمادية المحلية، فصبغه النسّاخ هنالك بتحويرات فنية خاصة ومميزة.
ويمكننا القول إن أهل المنطقة، استعملوا الحرف العربي مع التغييرات التي أدخلوها، للتعبير عن ثقافتهم الأم. فعلى سبيل المثال استعانت لغات ولهجات الولوف والفلان والحوس بالحرف العربي قبل وصول الأوروبيين للمنطقة، وقبل إدخال الألفبائية الرومانية إليها. وبذلك توفر لنا أدب إفريقي خالص مكتوب بالحرف العربي يعرف بالأدب الأعجمي، وهو بحاجة شديدة للدراسة العميقة، مثلما الأمر بالنسبة لموضوع انتشار استعمال الحرف العربي بإفريقيا الغربية والتطورات التي شهدها رسمه. وتدلنا مجموع هذه المظاهر على إنسية مغربية بالغة التأثير في إفريقيا، ومَجمَع الباحثين مدعو لأن يخصّها بقدر كبير من الاهتمام والبحث العلمي.(12)
5-1- المذهب المالكي هبة بلاد المغرب
أعتقد أن المذهب المالكي هبة بلاد المغرب. ظهر أول الأمر بالمدينة المنورة، غير أن الغرب الإسلامي شكل التربة الخصبة التي احتضنته ورعته إلى أن استقام عوده واشتد عضده. وكان لمدارس القيروان وقرطبة، فيما بين القرن 9 و القرن 11م، الدور الرائد بهذا الشأن.
وقبل قيام الحركة المرابطية، لم يكن المذهب المالكي سائدا في المغرب الأقصى، لكنه لم يكن غائبا، حيث كان حضوره مزاحما بقوة من المذاهب والنحل الأخرى، مثل المذهب الشيعي والخارجي، دون الحديث عن هرطقة برغواطة بتامسنا.
وحينما انتصر المذهب المالكي بصفة نهائية بشمال إفريقيا، انتقلت سيادته لإفريقيا الغربية منذ بداية القرن 12م، وذلك بحكم مالكية التجار والدعاة والفقهاء الذين عملوا على نشر الإسلام فيما وراء الصحراء. وكذلك بحكم فعالية القبائل السودانية التي اعتنقت الإسلام المالكي مبكرا، ثم أخذت تنشره بين بني جلدتها، نخص بالذكر منهم قبيل الديولا (وريث الماندينغ: Manding )، الذي اشتهر بممارسة التجارة في بلاد السودان طيلة العصر الوسيط.
5-2- لطرق الصوفية بإفريقيا جنوبي الصحراء
وعلى غرار عمل المغاربة على نشر الإسلام المالكي بإفريقيا جنوبي الصحراء، فقد كان لهم كذلك الدور الحاسم في نشر الطرق الصوفية بها، خاصة منها الشاذلية والتجانية، اللتين اصطبغتا بروح مغربية خالصة. كما عرفت الطريقة القادرية، التي نشأت ببغداد وانتقلت لبلاد المغرب، انتشارا ملحوظا في الحوض الأوسط لنهر النيجر بعد القرن 17م، وذلك على يد المريدين من الأسرة الكنتية.
وما من شك في أن هناك شخصيتين كان لهما فضل كبير في الانتشار الواسع للطريقة التجانية بإفريقيا الغربية خلال القرن 19م وما بعده. أولهما، الشيخ الحاج عمر بن سعيد الفوتي (ت.1864)، الذي تزعم حركة إصلاحية وجهادية بالمنطقة، وخلف لنا كتابه الموسوم بـ " رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم".(13) وثانيهما، الزعيم السنغالي الشيخ إبراهيم نياس (ت. 1975)، الذي عمل واجتهد في نشر الطريقة ببلده الأصلي وما جاوره من بلدان مثل غانا وشمال نيجيريا، حيث يوجد الكثير من مريديه.
وبالنسبة للطريقة القادرية، يُعدّ الشيخ عثمان بن فودي أو عثمان بن فوديو كما هو شائع لدى أهل حوس (ت. 1817)، الشخصية البارزة التي ساهمت بحظ وافر في انتشارها. والشيخ عثمان من أصل فلاني، ازداد عام 1754 شمال شرق نيجيريا الحالية. وفي عام 1804، قاد حركة جهادية ضد ملوك وأمراء بلاد حوس، وتمكّن في نهاية المطاف من تأسيس دولة مركزية شملت الفضاء الثقافي الحوسي وهوامشه، وعُرفت بالدولة السّـكتية نسبة لاسم العاصمة: سُكُتُ.(14)
وبالنظر للدور الكبير الذي لعبه الشيخ عثمان في تاريخ الحياة الدينية والثقافية والسياسية في المجال الحوسي وهوامشه، فإن أصداء ذكراه، وذكرى أعماله الجليلة ما تزال حية في ذاكرة النيجيريين لحد الآن؛ والكثير من أبناء وأحفاد الأمراء الذين عيّنهم الشيخ ورتّبهم على رأس الجهات والأقاليم يتمتعون إلى الوقت الراهن بتقدير كبير لدى الأهالي، وإن افتقدوا السلطة السياسية.
وقد خلّف الشيخ عثمان وأخوه عبد الله وابنه محمد بلّ ما يزيد عن ثلاثمائة مؤلف، غالبا ما يعود فيها السند على العلماء المغاربة، مما يبرز مدى تأثرهم بالإنتاج العلمي المغربي سواء في جانبه الفقهي أو الصوفي.(15)
وإذا كانت التأثيرات في العلاقات ما بين ضفتي الصحراء غالبا ما تأتي من الشمال، فإننا لا نعدم بعض الحالات الاستثنائية، منها نموذج رحلة الولي أحمد اليمني، الذي خرج عام 1668م من زاوية بقرية صغيرة على النيل الأزرق (بجمهورية السودان)، وجال في إفريقيا من أقصاها الشرقي إلى أقصاها الغربي.
وأثناء تجواله كان يقصد أهل الصلاح ورجال التصوف والمريدين، حيث زار الكثير منهم في بَرْنُو والإير، وحينما بلغ فاس، تعلق بمريدي الزاوية الدلائية، مما جعل أحدهم: محمد المسناوي يكتب نبذة عنه، لم يتم بعد تحقيقها وإخراجها. (16) ومن أولياء الله العارفين الذين التقى بهم أحمد اليمني في رحلاته، نجد ولي الله سيدي عبد الله بن عبد الجليل البرنوي، الذي ذاعت كراماته واشتهرت في المغرب بفضل رواية أحمد اليمني، وبفضل ما كتبه عنه أحمد بن عبد الحي الحلبي، وهو رجل شامي الأصل كما يظهر من نسبته، اتخذ من فاس مستقرا له. ومضمون التأليف يندرج ضمن الكتابات المناقبية، حمل عنوان:" ريحان القلوب فيما للشيخ عبد الله البرنوي من أسرار الغيوب".(17)
الهوامش:
(1) - ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن والاهم من السلطان الأكبر. بـيـروت: دار الكتاب اللبناني، 1968. المجلد 6، صص 416-417. والمجلد 7، صص 554-555. ومدونة كيوك، صص 348-351.
(2) - J. O. Hunwick, « An Andalusian in Mali : a contrbution to the biography of Abu Ishâq al-Sâhilî, c. 1290-1346», Paideuma, XXXVI (1990),59-66.
(3) - John O. Hunwick, A little-known diplomatic episode in the history of Kebbi (c. 1594), Journal of the Historical Society of Nigeria, V, 4 (1971), 575-81.
(4) - يظهر أن البحاثة القدير جان هنويك، ربما قفز سهوا على العلاقات المغربية السودانية على عهد الوطاسيين. ذلك أنه في سياق العلاقات الحميمية التي جمعت بين الأسر الحاكمة في كل من المغرب و بلاد السودان، حاول الوطاسيون ملوك فاس إنع ـ اش هذه العلاقات التقليدية ، فبادر محمد الوطاسي البرتغالي بإرسال سفارة إلى الحاج أسكيا محمد (1493-1528م) . وكان ممن سار في الوفد السّـفاري المغربي الحسن الوزان المعروف بليون الإفريقي، الذي دوّن وسجّـل لنا الكثير من مشاهداته وملاحظاته حول بلاد السودان في مؤلفه المشهور:" وصف إفريقيا ". [المترجم]
(5) - تقدم لنا المواد المصدرية العربية خلال العصر الوسيط، لوحة ذات قيمة معتبرة بخصوص التوزيع الجغرافي للقبيل الصنهاجي لمتونة. ذلك أنه فضلا عن مواقهم الصحراوية المعهودة وتنقلاتهم في المغرب المرابطي بما فيه الأندلس، يمكننا أن نجد آثارهم في أعماق بلاد السودان بجني أو نياني مثلا، أو في الحواضر السودانية من الحوض الأوسط لنهر النيجر إلى المحيط الأطلسي جنوب نهر السنغال، خاصة في منطقتي فوت تور وفوت جلو. [المترجم]
(6) - J. Sauvaget, « Les épitaphes Royales de Gao » , Bull. de l’I. F. A. N., XII (1940), 418-440.
ـ وجل الأسماء المنقوشة والمرسومة ذات شحنة دينية بالغة، حيث تحيلنا على أسماء الصحابة أو الخلفاء الراشدين، أو زوجات الرسول(صلعم). [المترجم]
(7) - استعملت المصادر العربية القرسطوية مصطلح "البيضان" للدلالة على مجموع القبائل الصحراوية المنتشرة فيما بين المحيط الأطلسي إلى حواف بحيرة التشاد. والتوظيف هنا يعتمد تمييزهم عن السودان المجاورين لهم من جهة الجنوب. بيد أن الاصطلاح منذ مطلع القرن 18م عرف تطورا في شحنته الدلالية، فأصبح دالا على بعد ثقافي أكثر منه عرقي.[ المترجم]
(8) - حسان: يحتكرون القوة العسكرية ويمارسون السلطة السياسية بالغصب والغزو، ضمن ما عرف بالنظام الأميري. الزويا: اختصوا بالعلم والتعليم والقضاء والفتوى، الأمر الذي جعلهم يحتكرون المعرفة الدينية، مما وفر لهم سلطة رمزية فاعلة داخل المجتمع البيضاني. اللّحمة أو ازناﮔـة: وهم الأتباع أو القبائل الغارمة، يعملون في الأنشطة الاقتصادية، خاصة في مجال الرعي، ويقومون بخدمة حسان والزوايا مقابل توفير الحماية لهم. [المترجم]
(9) - كلمة القبلة في المصادر العربية القرسطوية (كما مر بنا في نص اليعقوبي) تعني الجنوب. لكنها في الثقافة البيضانية، تستعمل للدلالة على المنطقة الجنوبية الغربية من بلاد شنقيط (= موريتانيا الحالية)، أي المنطقة المنحصرة فيما بين المحيط الأطلنتي ونهر السنغال. [ المترجم]
(10) - شكلت هذه القضية موضوع أطروحة متميزة، لباحثة مغربية، تمت مناقشتها مؤخرا برسم نيل الدكتوراه بباريس. انظر:
- Zahra Tamouh, Le Maroc et le Soudan au XIXe siècle. Contribution à une histoire régionale. Thèse de 3e cycle, Université de Panthéon- Sorbonne (Paris I), 1982.
(11) - بصفة عامة، فإن منطقة السينغامبيا، تضم مجموع الدول الواقعة بين نهري السينغال والنيجر، وتمتد أفقيا من المحيط الأطلسي لتشمل عددا من الدول، منها: السنغال ومالي وغينيا وسيراليون وساحل العاج وغانا ونيجيريا والنيجر...الخ. وقد كان الباحث بوباكر باري، من أبرز المؤرخين الأفارقة الذين روجوا لاستعمال المصطلح بمفهوم جغرافي- استراتيجي، أكثر منه تاريخي، حيث يضم بالنسبة له حوالي 16 دولة. [المترجم]
(12) - الدراسة الوحيدة التي أنجزت لحد الآن حول الموضوع، هي لبيفار:
- A. D. H . Bivar, «The Arabic calligraphy of West Africa», African ******************************** Review, VI (1968), 3-15.
(13) - للاستزادة حول الموضوع، يمكن الرجوع للدراسة القيمة التي أنجزها الأستاذ الباحث أحمد الأزمي: الطريقة التجانية في المغرب والسودان الغربي خلال القرن 19م. الرباط: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2000. [المترجم]
(14) - فودي: تعني في لغة الفلان الفقيه. وبالنسبة لمراحل وأطوار جهاد الشيخ عثمان بن فودي، فقد تناولها ابنه محمد بلّ في كتابه الموسوم ب: " إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور ". وقد اشتغلت عليه الباحثة بهيجة الشاذلي وحققته، برسم نيل د.د.ع.، جامعة محمد الخامس بالرباط، السنة الجامعية 1989-1990. وبعد التصحيح والمقابلة بنسخ جديدة، صدر هذا العمل ضمن منشورات معهد الدراسات الإفريقية بالرباط، 1996 .
(15) - تجدر الإشارة هنا أن الكثير من مخطوطات هؤلاء الأعلام الثلاثة،، متوفرة بالخزانات المغربية.
(16) - المخطوط محفوظ في الخزانة العامة بالرباط، ورقمه، د 6/471.
(17) - توجد نسخة فريدة من المخطوط، تحتفظ بها إحدى الخزانات المغربية الخاصة. انظر: محمد إبراهيم الكتاني، مصادر تاريخ إفريقيا من خلال المخطوطات المغربية. الرباط: منشورات الأكاديمية المغربية، العدد الرابع، 1987. ص 242.