فلان_999
11-12-2006, 11:02 AM
الإسـبال حكمـه وصـوره
عامر بن عيسى اللهو
الحمد لله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد؛ هدى وأضلّ، وأعزّ وأذلّ، وأصحّ وأعلّ، وبكل ما دقّ وجلّ استقلّ، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين الذي أرسله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فلا شك أن الله تعالى قد سخّر لعباده ما في السموات وما في الأرض جميعا منه وأباح لهم الطيبات من المآكل والمشارب والملابس ولكنه سبحانه قد وضع حدوداً لتلك المباحات لا ينبغي تجاوزها قال تعالى ( يا بني آدم خُذوا زينتكم عند كل مسجدٍ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) سورة الأعراف 31، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم ( كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مَخِيلة ) رواه البخاري معلقا، ووصله ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر. قاله ابن حجر. الفتح 10 / 253.
ومما تجاوز كثير من الناس فيه حدود المباح فيما يخص اللباس ( الإسبال ) وهو الإرخاء إلى ما دون الكعبين من الثياب بالنسبة للرجال وهذا أمر محرّم قد جاءت النصوص بتحريمه قال صلى الله عليه وسلم ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) رواه البخاري، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فقرأها ثلاثاً، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله ؟ قال: المسبل والمنان والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب ) رواه مسلم، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما رجل يجر إزاره إذ خُسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ). رواه البخاري.
لماذا الحديث عن الإسبال ؟
رغم ما تقدم من الوعيد الشديد وكون الإسبال من الكبائر العظيمة إلا أن كثيراً من الرجال قد وقع في هذا الذنب غافلاً أو متغافلاً عن حكمه الشرعي، فأحببنا أن نذكر الناسي وننبه الغافل ونعلم الجاهل، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صاحبي القبرين: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) متفق عليه، ومن معاني ( وما يعذبان في كبير ) أي ليس كبيراً في ظنهما وإلا فإنه كبير في الحقيقة وتؤيده رواية البخاري ( وإنه لكبير )، وهكذا فبعض الناس يعميه عن عظم ذنب الإسبال ويدعوه إلى استصغاره ما يراه من فعل الناس له واستمرائهم إيّاه، ولعَمْري فإن هذا لا يغني من الحقيقة شيئاً ولا يُغيّر من الحكم الشرعي قيد أنملة، فالمسلم وقّاف رجّاع لا يُقلدُ دينه الرجال.
شــبهة مردودة
قد يحتج بعض الناس على جواز الإسبال ببعض الأحاديث الواردة بشأن تخصيص الوعيد بالخيلاء والكبر كقوله صلى الله عليه وسلم ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) ، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لستَ ممن يصنعه خيلاء . رواه البخاري.
وللإجابة عن هذه الشبهة نذكر كلام أهل العلم في الجمع بين أحاديث الإسبال:
1) ذكر ابن حجر رحمه الله أن رواية الترمذي فيها زيادة بعد قوله صلى الله عليه وسلم ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبراً، فقالت : إذا تنكشف أقدامهن ؛ قال: فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه. قال ابن حجر: فهمت – أي أم سلمة – الزجر عن الإسبال مطلقاً سواء كان عن مخيلة أو لا، فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهنّ إلى الإسبال من أجل ستر العورة ... ثم قال رحمه الله: وقد نقل القاضي عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء ، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على فهمها. فتح الباري 10/ 259 .
2) وقال – أي ابن حجر- رحمه الله: وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه. ثم قال : وإن كان الثوب زائداً على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع من جهة التشبه بالنساء وهو أمكن فيه من الأول، وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسة المرأة، وقد يتجه المنع من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به . الفتح 10/263.
3) قال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجره خيلاء؛ لأن النهي قد تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول: لا أمتثله لأن تلك العلة ليست فيَّ، فإنها دعوى غير مسلَّمة؛ بل إطالته ذيله دالة على تكبره. الفتح 10/264
4) أن الإسبال مظنة الخيلاء. قال ابن حجر رحمه الله: الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه ( وإيّاك وجر الإزار، فإن جر الإزار من المخيلة ). الفتح 10/264 .
5) قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - عند حديث ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) وحديث ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ): فلما اختلفت العقوبتان امتنع أن يحمل المطلق على المقيد لأن قاعدة حمل المطلق على المقيد من شرطها اتفاق النصين في الحكم، أما إذا اختلف الحكم فإنه لا يقيد أحدهما بالآخر، ولهذا لم نقيد آية التيمم التي قال الله تعالى عنها ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) لم نقيدها بآية الوضوء التي قال الله تعالى عنها ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) فلا يكون التيمم إلى المرافق.
6) قال الشيخ مشهور آل سلمان – حفظه الله - : وأفاد شيخنا الألباني – رحمه الله – في بعض مجالسه أنه لا يجوز للمسلم أن يتعمد إطالة ثوب بدعوى أنه لا يفعل ذلك خيلاء ، ويتعلق بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ( إنك لا تفعل ذلك خيلاء ) ؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يتخذ ثوباً طويلاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( إنك لا تفعل ذلك خيلاء )، وإنما كان قوله صلى الله عليه وسلم جواباً لقوله بأنه يسقط الثوب عنه، فيصبح كما لو أطال ذيله، فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذا أمر لا تؤاخذ عليه؛ لأنك لا تفعله قصداً ولا تفعله خيلاء.
فلذلك لا يجوز أن نُلحق بأبي بكر ناساً يتعمدون إطالة الذيول، ثم يقولون: نحن لا نفعل ذلك خيلاء. فحادثة أبي بكر لا تشهد لهؤلاء مطلقاً.
7) قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – إن أبا بكر رضي الله عنه زكّاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد
له أنه ليس ممن يصنع ذلك خيلاء فهل نال أحد من هؤلاء تلك التزكية والشهادة ؟!
ولكن الشيطان يفتح لبعض الناس اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة ليبرر لهم ما كانوا يعملون والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم نسأل الله لنا ولهم الهداية.
ولعلنا أخي الكريم نختم الرد عن هذه الشبهة بفتوى لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – حول هذا الموضوع :
س – في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما معناه أن الذي يسبل ثيابه في النار، فنحن ثيابنا تحت الكعبين وليس قصدنا التكبر ولا الافتخار وإنما هي عادة اعتدنا عليها فهل فعلنا حرام، وهل الذي يسبل ثيابه وهو مؤمن بالله يكون في النار. أرجو الإفادة ؟
ج – لقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار ) رواه الإمام البخاري في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل إزاره والمنان في ما أعطى والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب ) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على تحريم الإسبال مطلقاً ولو زعم صاحبه أنه لم يرد التكبر والخيلاء لأن ذلك وسيلة للتكبر، ولما في ذلك من الإسراف وتعريض الملابس إلى النجاسات والأوساخ، أما إن قصد بذلك التكبر فالأمر أشد والإثم أكبر لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) ، والحد في ذلك هو الكعبان ، فلا يجوز للمسلم الذكر أن تنزل ملابسه عن الكعبين للأحاديث المذكورة ، أما الأنثى فيشرع لها أن تكون ملا بسها ضافية تغطي قدميها ، وأما ما ثبت عن الصديق رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن إزاري يرتخي إلا أن أتعاهده ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( إنك لست ممن يفعله خيلاء ) فالمراد بذلك أن من ارتخى إزاره بغير قصد وتعاهده وحرص على رفعه لم يدخل في الوعيد لكونه لم يتعمد ذلك ، ولم يقصد الخيلاء وهذا بخلاف من تعمد إرخاءه فإنه متهم بقصد الخيلاء وعمله وسيلة على ذلك والله سبحانه هو الذي يعلم ما في القلوب ، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأحاديث في التحذير من الإسبال وشدد في ذلك ، ولم يقل من أرخاها بغير خيلاء، فالواجب على المسلم أن يحذر مما حرّم الله عليه، وأن يبتعد عن أسباب غضب الله ، وأن يقف عند حدود الله يرجو ثوابه ويخشى عقابه عملاً بقول الله سبحانه وتعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) وقوله عز وجل ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ، ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين ) وفق الله المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمرهم في دينهم ودنياهم إنه خير مسؤول .
ما وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طُعن ؟
روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون – في قصة مقتل عمر رضي الله عنه - قال: إني لقائم ما بيني وبينَه ( أي عمر رضي الله عنه ) إلا عبدالله بن عباس غداة أُصيب ، وكان إذا مرّ بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللاً تقدّم فكبّر ، فما هو إلا أن كبّر فسمعته يقول: قتلني – أو أكلني – الكلب حين طعنه – ثم ذكر قصة نقله إلى بيته ثم قال – وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه ، وجاء رجل شابّ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقدَمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة. قال : وددت أن ذلك كفافٌ لا عليّ ولا لي ، فلما أدبر إذا إزاره يمسُّ الأرض قال: ردّوا عليّ الغلام . قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك ، فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك .
يا لله !! تأمل يا أخي هذه الوصية العجيبة ووقتها !! دماؤه رضي الله عنه تسيل وهو يشرف على الموت والهلاك ومع ذلك كله لما رأى منظر إزار الشاب وقد مسّ الأرض لم يمنعه ما هو فيه من نصيحته برفع ثوبه، مما يدل على أن هذا الفعل عنده أمر منكر لا يجوز السكوت عنه.
صور الإســبال
قال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية . فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي . قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك .
ثم قال ابن حجر رحمه الله : ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة . الفتح 10/262
وقد بوّب البخاري رحمه الباب بقوله ( باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار ) قال ابن حجر: لم يقيده بالإزار كما في الخبر إشارة إلى التعميم في الإزار والقميص وغيرها .
قال الذهبي رحمه الله في كتابه الكبائر: وكل من اتخذ فَرَجيّة ( نوع من اللباس ) تكاد أن تمس الأرض أو جُبّة أو سراويل خفاجية، فهو داخل في الوعيد المذكور نسأل الله العافية .
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – : أما من يتعمد إرخاءها سواء كانت بشتاً أو سراويل أو إزارا أو قميصاً فهو داخل في الوعيد، وليس معذوراً في إسباله ملابسه لأن الأحاديث الصحيحة المانعة من الإسبال تعمه بمنطوقها وبمعناها ومقاصدها .
وبـعـــــد
أخي الكريم .. ها قد وصلت وإيّاك إلى خاتمة هذا البحث المبارك، وقد تبيّن لك من خلاله حرمة الإسبال مطلقاً وأنه من الكبائر كما عدّه الذهبي في كتابه ( الكبائر ) وعرفت أنه لا فرق بين جر الثوب بقصد الخيلاء أو بغير قصد الخيلاء في التحريم ؛ إلا أن جرّه خيلاء أشد وأخطر وأعظم في العقوبة ، وأن جرّ الثوب بغير قصد الخيلاء مظنة للخيلاء ووسيلة إليه والوسائل لها حكم الغايات.
ولو تأملت أخي الكريم غاية ما أتوجه إليك بالنصيحة فيه هو أن ترفع إزارك إن كان مسبلاً بمقدار ( 2 أو 3 سنتيمتر ) لتتخلص من عقوبة عظيمة وعذاب أليم والله ثم والله لستَ له بمطيق. أفتكون هذه ( السنتيمترات ) أخي العزيز أحب إليك من نجاة نفسك يوم القيامة ؟!!
ثم اعلم أخي الحبيب أنك خُلقتَ وحدك وستموت وحدك وستُحشر وحدك ، وتحاسب وحدك، فلا يغرنّك ما تشاهده من انتشار هذه الكبيرة بين الناس فتكون بذلك كالإمّعة ؛ فأنت في زمن العجائب أما ترى الرجال قد أرخوا ثيابهم إلى ما دون الكعبين وهم مُنهَون عن ذلك في حين ترفع كثير من النساء ثيابهنّ إلى نصف الساق أحياناً وهنّ مأمورات بالإرخاء إلى ما دون الكعبين !!
فاحرص أخي على نجاة نفسك، وكن كالشمعة التي تضيء الطريق بتعليمك الناس السنة في لبسك وسائر شؤون حياتك.
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يجعلنا مباركين أينما كنا وأن يجعلنا هادين مهديين صالحين مصلحين وأن يكفينا بحلاله عن حرامه وبطاعته عن معصيته وبفضله عمن سواه ، كما أسأله أن يمنّ علينا بالإخلاص والمتابعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
وكتبه / عامر بن عيسى اللهو
المدرس بكلية المعلمين بالدمام
allahuo@hotmail.com
عامر بن عيسى اللهو
الحمد لله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد؛ هدى وأضلّ، وأعزّ وأذلّ، وأصحّ وأعلّ، وبكل ما دقّ وجلّ استقلّ، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين الذي أرسله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فلا شك أن الله تعالى قد سخّر لعباده ما في السموات وما في الأرض جميعا منه وأباح لهم الطيبات من المآكل والمشارب والملابس ولكنه سبحانه قد وضع حدوداً لتلك المباحات لا ينبغي تجاوزها قال تعالى ( يا بني آدم خُذوا زينتكم عند كل مسجدٍ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) سورة الأعراف 31، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم ( كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مَخِيلة ) رواه البخاري معلقا، ووصله ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر. قاله ابن حجر. الفتح 10 / 253.
ومما تجاوز كثير من الناس فيه حدود المباح فيما يخص اللباس ( الإسبال ) وهو الإرخاء إلى ما دون الكعبين من الثياب بالنسبة للرجال وهذا أمر محرّم قد جاءت النصوص بتحريمه قال صلى الله عليه وسلم ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) رواه البخاري، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فقرأها ثلاثاً، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله ؟ قال: المسبل والمنان والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب ) رواه مسلم، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما رجل يجر إزاره إذ خُسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ). رواه البخاري.
لماذا الحديث عن الإسبال ؟
رغم ما تقدم من الوعيد الشديد وكون الإسبال من الكبائر العظيمة إلا أن كثيراً من الرجال قد وقع في هذا الذنب غافلاً أو متغافلاً عن حكمه الشرعي، فأحببنا أن نذكر الناسي وننبه الغافل ونعلم الجاهل، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صاحبي القبرين: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) متفق عليه، ومن معاني ( وما يعذبان في كبير ) أي ليس كبيراً في ظنهما وإلا فإنه كبير في الحقيقة وتؤيده رواية البخاري ( وإنه لكبير )، وهكذا فبعض الناس يعميه عن عظم ذنب الإسبال ويدعوه إلى استصغاره ما يراه من فعل الناس له واستمرائهم إيّاه، ولعَمْري فإن هذا لا يغني من الحقيقة شيئاً ولا يُغيّر من الحكم الشرعي قيد أنملة، فالمسلم وقّاف رجّاع لا يُقلدُ دينه الرجال.
شــبهة مردودة
قد يحتج بعض الناس على جواز الإسبال ببعض الأحاديث الواردة بشأن تخصيص الوعيد بالخيلاء والكبر كقوله صلى الله عليه وسلم ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) ، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لستَ ممن يصنعه خيلاء . رواه البخاري.
وللإجابة عن هذه الشبهة نذكر كلام أهل العلم في الجمع بين أحاديث الإسبال:
1) ذكر ابن حجر رحمه الله أن رواية الترمذي فيها زيادة بعد قوله صلى الله عليه وسلم ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبراً، فقالت : إذا تنكشف أقدامهن ؛ قال: فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه. قال ابن حجر: فهمت – أي أم سلمة – الزجر عن الإسبال مطلقاً سواء كان عن مخيلة أو لا، فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهنّ إلى الإسبال من أجل ستر العورة ... ثم قال رحمه الله: وقد نقل القاضي عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء ، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على فهمها. فتح الباري 10/ 259 .
2) وقال – أي ابن حجر- رحمه الله: وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه. ثم قال : وإن كان الثوب زائداً على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع من جهة التشبه بالنساء وهو أمكن فيه من الأول، وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسة المرأة، وقد يتجه المنع من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به . الفتح 10/263.
3) قال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجره خيلاء؛ لأن النهي قد تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول: لا أمتثله لأن تلك العلة ليست فيَّ، فإنها دعوى غير مسلَّمة؛ بل إطالته ذيله دالة على تكبره. الفتح 10/264
4) أن الإسبال مظنة الخيلاء. قال ابن حجر رحمه الله: الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه ( وإيّاك وجر الإزار، فإن جر الإزار من المخيلة ). الفتح 10/264 .
5) قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - عند حديث ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) وحديث ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ): فلما اختلفت العقوبتان امتنع أن يحمل المطلق على المقيد لأن قاعدة حمل المطلق على المقيد من شرطها اتفاق النصين في الحكم، أما إذا اختلف الحكم فإنه لا يقيد أحدهما بالآخر، ولهذا لم نقيد آية التيمم التي قال الله تعالى عنها ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) لم نقيدها بآية الوضوء التي قال الله تعالى عنها ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) فلا يكون التيمم إلى المرافق.
6) قال الشيخ مشهور آل سلمان – حفظه الله - : وأفاد شيخنا الألباني – رحمه الله – في بعض مجالسه أنه لا يجوز للمسلم أن يتعمد إطالة ثوب بدعوى أنه لا يفعل ذلك خيلاء ، ويتعلق بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ( إنك لا تفعل ذلك خيلاء ) ؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يتخذ ثوباً طويلاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( إنك لا تفعل ذلك خيلاء )، وإنما كان قوله صلى الله عليه وسلم جواباً لقوله بأنه يسقط الثوب عنه، فيصبح كما لو أطال ذيله، فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذا أمر لا تؤاخذ عليه؛ لأنك لا تفعله قصداً ولا تفعله خيلاء.
فلذلك لا يجوز أن نُلحق بأبي بكر ناساً يتعمدون إطالة الذيول، ثم يقولون: نحن لا نفعل ذلك خيلاء. فحادثة أبي بكر لا تشهد لهؤلاء مطلقاً.
7) قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – إن أبا بكر رضي الله عنه زكّاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد
له أنه ليس ممن يصنع ذلك خيلاء فهل نال أحد من هؤلاء تلك التزكية والشهادة ؟!
ولكن الشيطان يفتح لبعض الناس اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة ليبرر لهم ما كانوا يعملون والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم نسأل الله لنا ولهم الهداية.
ولعلنا أخي الكريم نختم الرد عن هذه الشبهة بفتوى لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – حول هذا الموضوع :
س – في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما معناه أن الذي يسبل ثيابه في النار، فنحن ثيابنا تحت الكعبين وليس قصدنا التكبر ولا الافتخار وإنما هي عادة اعتدنا عليها فهل فعلنا حرام، وهل الذي يسبل ثيابه وهو مؤمن بالله يكون في النار. أرجو الإفادة ؟
ج – لقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار ) رواه الإمام البخاري في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل إزاره والمنان في ما أعطى والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب ) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على تحريم الإسبال مطلقاً ولو زعم صاحبه أنه لم يرد التكبر والخيلاء لأن ذلك وسيلة للتكبر، ولما في ذلك من الإسراف وتعريض الملابس إلى النجاسات والأوساخ، أما إن قصد بذلك التكبر فالأمر أشد والإثم أكبر لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) ، والحد في ذلك هو الكعبان ، فلا يجوز للمسلم الذكر أن تنزل ملابسه عن الكعبين للأحاديث المذكورة ، أما الأنثى فيشرع لها أن تكون ملا بسها ضافية تغطي قدميها ، وأما ما ثبت عن الصديق رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن إزاري يرتخي إلا أن أتعاهده ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( إنك لست ممن يفعله خيلاء ) فالمراد بذلك أن من ارتخى إزاره بغير قصد وتعاهده وحرص على رفعه لم يدخل في الوعيد لكونه لم يتعمد ذلك ، ولم يقصد الخيلاء وهذا بخلاف من تعمد إرخاءه فإنه متهم بقصد الخيلاء وعمله وسيلة على ذلك والله سبحانه هو الذي يعلم ما في القلوب ، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأحاديث في التحذير من الإسبال وشدد في ذلك ، ولم يقل من أرخاها بغير خيلاء، فالواجب على المسلم أن يحذر مما حرّم الله عليه، وأن يبتعد عن أسباب غضب الله ، وأن يقف عند حدود الله يرجو ثوابه ويخشى عقابه عملاً بقول الله سبحانه وتعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) وقوله عز وجل ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ، ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين ) وفق الله المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمرهم في دينهم ودنياهم إنه خير مسؤول .
ما وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طُعن ؟
روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون – في قصة مقتل عمر رضي الله عنه - قال: إني لقائم ما بيني وبينَه ( أي عمر رضي الله عنه ) إلا عبدالله بن عباس غداة أُصيب ، وكان إذا مرّ بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللاً تقدّم فكبّر ، فما هو إلا أن كبّر فسمعته يقول: قتلني – أو أكلني – الكلب حين طعنه – ثم ذكر قصة نقله إلى بيته ثم قال – وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه ، وجاء رجل شابّ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقدَمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة. قال : وددت أن ذلك كفافٌ لا عليّ ولا لي ، فلما أدبر إذا إزاره يمسُّ الأرض قال: ردّوا عليّ الغلام . قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك ، فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك .
يا لله !! تأمل يا أخي هذه الوصية العجيبة ووقتها !! دماؤه رضي الله عنه تسيل وهو يشرف على الموت والهلاك ومع ذلك كله لما رأى منظر إزار الشاب وقد مسّ الأرض لم يمنعه ما هو فيه من نصيحته برفع ثوبه، مما يدل على أن هذا الفعل عنده أمر منكر لا يجوز السكوت عنه.
صور الإســبال
قال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية . فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي . قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك .
ثم قال ابن حجر رحمه الله : ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة . الفتح 10/262
وقد بوّب البخاري رحمه الباب بقوله ( باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار ) قال ابن حجر: لم يقيده بالإزار كما في الخبر إشارة إلى التعميم في الإزار والقميص وغيرها .
قال الذهبي رحمه الله في كتابه الكبائر: وكل من اتخذ فَرَجيّة ( نوع من اللباس ) تكاد أن تمس الأرض أو جُبّة أو سراويل خفاجية، فهو داخل في الوعيد المذكور نسأل الله العافية .
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – : أما من يتعمد إرخاءها سواء كانت بشتاً أو سراويل أو إزارا أو قميصاً فهو داخل في الوعيد، وليس معذوراً في إسباله ملابسه لأن الأحاديث الصحيحة المانعة من الإسبال تعمه بمنطوقها وبمعناها ومقاصدها .
وبـعـــــد
أخي الكريم .. ها قد وصلت وإيّاك إلى خاتمة هذا البحث المبارك، وقد تبيّن لك من خلاله حرمة الإسبال مطلقاً وأنه من الكبائر كما عدّه الذهبي في كتابه ( الكبائر ) وعرفت أنه لا فرق بين جر الثوب بقصد الخيلاء أو بغير قصد الخيلاء في التحريم ؛ إلا أن جرّه خيلاء أشد وأخطر وأعظم في العقوبة ، وأن جرّ الثوب بغير قصد الخيلاء مظنة للخيلاء ووسيلة إليه والوسائل لها حكم الغايات.
ولو تأملت أخي الكريم غاية ما أتوجه إليك بالنصيحة فيه هو أن ترفع إزارك إن كان مسبلاً بمقدار ( 2 أو 3 سنتيمتر ) لتتخلص من عقوبة عظيمة وعذاب أليم والله ثم والله لستَ له بمطيق. أفتكون هذه ( السنتيمترات ) أخي العزيز أحب إليك من نجاة نفسك يوم القيامة ؟!!
ثم اعلم أخي الحبيب أنك خُلقتَ وحدك وستموت وحدك وستُحشر وحدك ، وتحاسب وحدك، فلا يغرنّك ما تشاهده من انتشار هذه الكبيرة بين الناس فتكون بذلك كالإمّعة ؛ فأنت في زمن العجائب أما ترى الرجال قد أرخوا ثيابهم إلى ما دون الكعبين وهم مُنهَون عن ذلك في حين ترفع كثير من النساء ثيابهنّ إلى نصف الساق أحياناً وهنّ مأمورات بالإرخاء إلى ما دون الكعبين !!
فاحرص أخي على نجاة نفسك، وكن كالشمعة التي تضيء الطريق بتعليمك الناس السنة في لبسك وسائر شؤون حياتك.
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يجعلنا مباركين أينما كنا وأن يجعلنا هادين مهديين صالحين مصلحين وأن يكفينا بحلاله عن حرامه وبطاعته عن معصيته وبفضله عمن سواه ، كما أسأله أن يمنّ علينا بالإخلاص والمتابعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
وكتبه / عامر بن عيسى اللهو
المدرس بكلية المعلمين بالدمام
allahuo@hotmail.com