صوت الحق
05-01-2006, 01:50 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الخطبه لاحد خطباء الجوامع في الرياض ليوم الجمعة الموافق 23/3/1427 هـ ولمل تحتويه من مناقشه لموضوع مهم لعموم المسلمين احببت ايرادها هنا
الحمد لله ....
أما بعد : فقد مات محمد , وقد مات أبو بكر وعمر والصحابة الكرام , وقد وافت المنية الأئمة الأعلام ,
وقد داهم هادم اللذات الملوك والأمراء والوزراء والأغنياء , وبيديك هاتين واريت أحبابا وإخوانا وأمهات و أباء , تالله لقد احتضنتهم الأرض فشقيٌّ معذَّب وسعيد مكرَّم , وإن في المقابر لحفرا قد حفرت فلا نعلم والله أينا يكون صاحبها .
أمرّ على المقابر كل حين ولا أدري بأي الأرض قبري
ألا فاتقوا الله حق تقاته , ألا فاتقوا يوما ً ترجعون فيه إلى الله , ثم نوفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون .
عباد الله إن الله سبحانه وتعالى قد اختص بعلم الغيب : (( قـُل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون )) ] النمل : 65 [, لكن الناس اليوم وفي مثل هذه العصور المتأخرة تولعوا تولعا شديدا بالحديث عن الغيبيات , وتاقت نفوس ضعيفة إلى مكاشفتها , ما بين مؤمن بالخرافة وراض بالكهانة , وآخرين سادرين في السجع والتخمين , يقذفون بالغيب في كل حين , والناجون من هذا وذاك تطلعت نفوسهم إلى أمر آخر , واشرأبت نفوسهم إليه , ألا وهي تلك المنامات التي يرونها , وقـُل في بعضهم : يتراءونها , مما أصبحت اليوم هي حديث الناس وسؤالهم .
وتكالبت همم كثير من الناس عليها , وتعلقت النفوس بهذه الرؤى والمنامات , وأصبحت شغل الناس الشاغل عبر المجالس والمنتديات والمجامع , بل أصبحت سوقا رائجة لها زبائن كثر في القنوات الفضائية , فجلبت الفضائيات بخيلها في ذلك , وعقدت مجالس للرؤى والمنامات لما رأت تهافت الناس السريع لذلك .
وأصبحت ترى اليوم إن كان السائل عن الأمور الشرعية واحدا فالسائل عن الرؤى والمنامات عشرة , ورأيت مهمومين مغمومين يكلمك أحدهم أنه لم ينم ليالي عددا , لمه ؟ لرؤيا مقلقة رآها , وقد يكون عبّرها له جاهل بسوء , وأصبحتَ ترى فرحين سعداء , لكأنهم يترقبون بيوتهم تنقلب بساتين وقصورا , أو وسائدهم تنقلب ذهباً , بسبب رؤيا رأوها .
من أجل ذلك كلّه كان لزاما علينا أن نسلط الضوء على المنهج الشرعي والهدي النبوي تجاه الرؤى والأحلام , قال تعالى في كتابه الكريم : (( ألا إنّ أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ لا تبديلَ لكلماتِ اللهِ ذلكَ هُوَ الفوزُ العظيمُ )) ]يونس: 62 – 64 [.
قال عدد من الصحابة والتابعين عند هذه الآية : " ( لهمْ البُشرَى في الحياةِ الدُّنيَا ) هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو تُرى له " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات )) , قالوا : وما المبشرات ؟ قال (( الرؤيا الصالحة )) رواه البخاري .
وهذه الرؤيا – يا عباد الله – هي التي قال عنها الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه : (( إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب , وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا , ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة )) رواه البخاري ومسلم .
لذلك فإن الرؤيا لها منزلة عظيمة ومكانة رفيعة في الإسلام , ولا ينكرها إلا جاهل , وتعجّب كثيرون من حقيقتها , وكيف تأتي الإنسان , وخاض علماء النفس وأصحاب الفلسفة في ذلك كثيرا , لكن أجاب عن حقيقتها العالِم المسلم المازري رحمه الله إذ قال في حقيقتها :" والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات , كما يخلقها في قلب اليقظان , وهو سبحانه يفعل ما يشاء , لا يمنعه نوم ولا يقظـة , فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها علمًا على أمور يخلقها في ثاني الحال أو كان قد خلقها " .
والرؤى – يا رعاكم الله – ثلاثة أنواع , جلاَّها لنا رسول الله كما رواه ابن ماجه في سننه وصححه الألباني أنه عليه الصلاة والسلام قال : (( إن الرؤيا ثلاث : منا أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم , ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه , ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة )) .
يقول البغوي رحمه الله : " في هذا الحديث بيان أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحًا ويجوز تعبيره , إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل , وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها".
إذا النوع الأول هي الرؤيا السيئة التي من الشيطان ، وهناك آداب شرعية تجاهها ، فقد روى مسلم في صحيحه أن أبا سلمة قال : كنت أرى الرؤيا فأمرض منها ، حتى لقيت أبا قتادة فذكرت ذلك له فقال : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول : (( الرؤيا من الله ، والحلم من الشيطان ، فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا ويتعوذ بالله من شرها ، فإنها لن تضره )) ،قال أبو سلمة : إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من الجبل ، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها .
لذلك جاء أعرابي كما في مسلم إلى النبي فقال : يا رسول الله ، رأيت في المنام كأن رأسي ضُرب فتدحرج فاشتددت على أثره !! فقال رسول الله للأعرابي : (( لا تحدث الناس بتلعُّب الشيطان بك في منامك )).
لذلك للسنة تجاه مثل هذه الرؤى السيئة آداب : أ، يتعوذ بالله من شرما رأى ثلاث مرات ، ويتعوذ بالله من شر الشيطان ثلاث مرات ، وأن يتفل عن يساره ثلاث مرات ، وأن لا يحدّث بها أحداً ولا يطلب تفسيرها ، وقد صح في مسلم أيضاً أن يتحول من الجنب الذي كان عليه ، وان يصلي عقبها .
وأما النوع الثاني من الرؤى فهو ما يحدّث به المرء نفسه في يقظته ، كمن يكون مشغولاً بسفر أو تجارة أو نحو ذلك ، فينام فيرى في منامه ما كان يفكّر فيه في يقظته ، وهذا من أضغاث الأحلام التي لا تعبير لها .
وأما النوع الثالث فهو الرؤيا الصادقة الصالحة التي تكون من الله ، قال : ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها )) أخرجه البخاري ، وعند مسلم : ((ولا يخبر بها إلا من يحب )) وجاء عند ابن عبد البر أنه يطلب تفسيرها .
وكثيرون هم في هذا الزمان الذين يتهافتون على المفسرين للرؤى ويشعلون أهل العلم بأحلام سيئة أو أخلاط مواقف لا رابط لها ، لذا شرع أهل العلم في بيان علامات لأضغاث الأحلام أو الرؤيا السيئة ، وعلامات للرؤيا الصادقة حتى يفرق الناس .
فمن علامات أضغاث الأحلام أو الرؤى الفاسدة أن النائم يرى في منامه مناظر متناقضة ومتداخلة , لا يعرف أولها من آخرها , ومن علاماتها أن بعض الناس يمرض فيرى في منامه ما يوافق مرضه , ومن علاماتها كأن يرى مستحيلات لا يمكن أن تقع , أو يرى ما تحدث به نفسه في اليقظة , ومن علامات الرؤيا الصادقة انتفاء جميع ما تقدم من علامات الرؤيا الفاسدة , ومن علاماتها أن يكون الرائي معروفا بالصدق في كلامه , كما قال : (( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا )) وهذا في الغالب , و إلا فقد يرى غير الصادق رؤيا صادقة يكون فيها إيقاظ لغفلته , ومن علاماتها أن يعرف أولها وآخرها , فلا تكون متقطعة لا ترابط بينها , ومن علاماتها أن تكون تبشيرا بالثواب على الطاعة أو تحذيرا من المعصية .
والرؤيا الصالحة قد تكون واضحة لا تحتاج إلى تأويل كما رأى إبراهيم عليه السلام أنه يذبح ابنه في المنام , وقد تكون خافية برموز تحتاج فيها إلى عابر يعبرها كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام .
عباد الله :
إن الرائي لحال كثير من الناس اليوم يرى أخطاء فادحة تجاه الرؤى وجهلا ذريعا بسنة المصطفى في ذلك , لذا فهذه تنبيهات على بعض أخطاء الناس في ذلك .
أولا : انشغال الناس بهذه الرؤى وتقديسها , وصرف الأوقات الكثيرة في تذاكرها والسؤال عنها , ولو سألت كثيرين من أولئك عن صلواتهم وبعض أحكام دينهم لرأيت ما يحزنك , ولا أدل على ذلك من واقع الناس اليوم , انظر إلى مجالس المعبرين ولقاءا تهم كم يحضرها , ومجالس تعلم أحكام الشرع والدين , ألا فاقدروا للأمر قدرة فلا إفراط ولا تفريط .
ثانيا : إقامة المجالس واللقاءات الطويلة في تعبير الرؤى , مما زاد في إشغال الناس بهذا أكثر وأكثر , ويتبجح بعضهم بما جاء في صحيح مسلم من أن رسول الله كان كثيرا ما يسال أصحابه بعد الفجر : (( من رأى منكم رؤيا ؟ )) , فيجاب عن هذا بأن هذا رسول الله , ولا يقاس عليه غيره , وكان في طور تنزّل الوحي , ومن ثم فإنه لم يثبت عن أحد من الصحابة كالخلفاء الأربعة ولا من بعدهم أنهم كانوا يقيمون المجالس من أجل تعبير الرؤى , لا سيما أبو بكر الصديق "رضي الله عنه " وقد شهد له النبي "صلى الله عليه وسلم " بأنه عارف بتعبير الرؤى .
ثالثا : من الأخطاء في الرؤيا خطورة الكذب فيها , ففيه إثم عظيم , أخرج البخاري في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( من تحلم بحلم لم يره كلَّف – أي يوم القيامة – أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل )) , قال الإمام الطبري رحمه الله : " الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره "
رابعا : بعض الناس إذا رأى رؤيا لم يترك أحدًا إلا وقد سأله عنها , وقد يسأل أحيانًا جهالا لا يفقهون فيها شيئا . تفسير الرؤى – يا رعاكم الله – علم ليس لأي أحد أن يتكلم فيه , سئل الأمام مالك رحمه الله : أيعبر الرؤيا كل أحد ؟ فقال مالك : أبالنبوة يلعب ؟! والنبي يقول :(( إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحا أو عالما )) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
وهنا تعلم خطورة نصب الإنسان نفسه مفتيا في الرؤى , يتكلم بتخمينه وظنونه , فأينه من قول الله : (( ولا تَقْــفُ مَا لَيْسَ لكَ بهِ عِلـْـمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كَانَ عَنْهُ مسْئُولا)) ] الإسراء :36 [ ..
خامسا : يخطىء بعض الناس في اقتنائه لكتب الرؤى والاعتماد عليها , فكلما رأى في منامه سيئا فتح كتابه , ألا فليعلم أن الرؤى يعبرها أهل العلم باعتبارات مختلفة , فقد تكون الرؤيا واحدة لشخصين لكن التأويل مختلف . جاء رجل صالح لابن سيرين فقال : رأيت أني أؤذن في المنام , فعبرها له بأنه سيحج لقوله تعالى : (( وأذّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ )) ] الحج : 27 [ , وجاء بعده آخر رأى أنه يؤذن في المنام , فعبرها له بأنه يسرق لقوله تعالى : (( ثُمَّ أذَّنَ مُؤَذِّنٌ أيَّتُهَا العِيرُ إنَّكُمْ لَسارِقُونَ )) ] يوسف : 70 [ .
سادسا : تنتشر بين الفينة والأخرى ورقة مذكور فيها رؤيا للرجل الصالح أحمد خادم الحجرة النبوية , وفيها بعض الوصايا , وكذلك ورقة أخرى أن فتاة رأت أم المؤمنين زينب أو بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة تأمرها بأن تقرأ (( قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ )) ] الإخلاص : 1 [ كذا مرة وسيحصل لها كذا وكذا, وكل هذه خزعبلات وأكاذيب لا تنتشر إلا عند الجهلاء , وقد نبهت عليها اللجنة الدائمة , وتكلم عنها الشيخ ابن باز رحمه الله في إيضاح قبل أكثر من خمسة عشر عاما , ألا فليعلم أن رسول الله ما مات إلا والدين قد كمل , وأن أي مدع يدعي أنه اكتشف سنة عبر منام فهو كاذب , فليس هناك سنة إلا وقد بينها , وانتهى التشريع بموته .
وختاما من أراد الرؤيا الصالحة فعليه بالصدق في أقواله وأفعاله , وأن لا ينام إلا على وضوء , وينام على جنبه الأيمن , ويأتي بالأوراد الثابتة عند النوم ويسأل الله الخير , بما يرى ولو عبر بما عبر فالإمام أحمد رحمه الله يقول : " الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره ".
هذه الخطبه لاحد خطباء الجوامع في الرياض ليوم الجمعة الموافق 23/3/1427 هـ ولمل تحتويه من مناقشه لموضوع مهم لعموم المسلمين احببت ايرادها هنا
الحمد لله ....
أما بعد : فقد مات محمد , وقد مات أبو بكر وعمر والصحابة الكرام , وقد وافت المنية الأئمة الأعلام ,
وقد داهم هادم اللذات الملوك والأمراء والوزراء والأغنياء , وبيديك هاتين واريت أحبابا وإخوانا وأمهات و أباء , تالله لقد احتضنتهم الأرض فشقيٌّ معذَّب وسعيد مكرَّم , وإن في المقابر لحفرا قد حفرت فلا نعلم والله أينا يكون صاحبها .
أمرّ على المقابر كل حين ولا أدري بأي الأرض قبري
ألا فاتقوا الله حق تقاته , ألا فاتقوا يوما ً ترجعون فيه إلى الله , ثم نوفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون .
عباد الله إن الله سبحانه وتعالى قد اختص بعلم الغيب : (( قـُل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون )) ] النمل : 65 [, لكن الناس اليوم وفي مثل هذه العصور المتأخرة تولعوا تولعا شديدا بالحديث عن الغيبيات , وتاقت نفوس ضعيفة إلى مكاشفتها , ما بين مؤمن بالخرافة وراض بالكهانة , وآخرين سادرين في السجع والتخمين , يقذفون بالغيب في كل حين , والناجون من هذا وذاك تطلعت نفوسهم إلى أمر آخر , واشرأبت نفوسهم إليه , ألا وهي تلك المنامات التي يرونها , وقـُل في بعضهم : يتراءونها , مما أصبحت اليوم هي حديث الناس وسؤالهم .
وتكالبت همم كثير من الناس عليها , وتعلقت النفوس بهذه الرؤى والمنامات , وأصبحت شغل الناس الشاغل عبر المجالس والمنتديات والمجامع , بل أصبحت سوقا رائجة لها زبائن كثر في القنوات الفضائية , فجلبت الفضائيات بخيلها في ذلك , وعقدت مجالس للرؤى والمنامات لما رأت تهافت الناس السريع لذلك .
وأصبحت ترى اليوم إن كان السائل عن الأمور الشرعية واحدا فالسائل عن الرؤى والمنامات عشرة , ورأيت مهمومين مغمومين يكلمك أحدهم أنه لم ينم ليالي عددا , لمه ؟ لرؤيا مقلقة رآها , وقد يكون عبّرها له جاهل بسوء , وأصبحتَ ترى فرحين سعداء , لكأنهم يترقبون بيوتهم تنقلب بساتين وقصورا , أو وسائدهم تنقلب ذهباً , بسبب رؤيا رأوها .
من أجل ذلك كلّه كان لزاما علينا أن نسلط الضوء على المنهج الشرعي والهدي النبوي تجاه الرؤى والأحلام , قال تعالى في كتابه الكريم : (( ألا إنّ أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ لا تبديلَ لكلماتِ اللهِ ذلكَ هُوَ الفوزُ العظيمُ )) ]يونس: 62 – 64 [.
قال عدد من الصحابة والتابعين عند هذه الآية : " ( لهمْ البُشرَى في الحياةِ الدُّنيَا ) هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو تُرى له " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات )) , قالوا : وما المبشرات ؟ قال (( الرؤيا الصالحة )) رواه البخاري .
وهذه الرؤيا – يا عباد الله – هي التي قال عنها الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه : (( إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب , وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا , ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة )) رواه البخاري ومسلم .
لذلك فإن الرؤيا لها منزلة عظيمة ومكانة رفيعة في الإسلام , ولا ينكرها إلا جاهل , وتعجّب كثيرون من حقيقتها , وكيف تأتي الإنسان , وخاض علماء النفس وأصحاب الفلسفة في ذلك كثيرا , لكن أجاب عن حقيقتها العالِم المسلم المازري رحمه الله إذ قال في حقيقتها :" والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات , كما يخلقها في قلب اليقظان , وهو سبحانه يفعل ما يشاء , لا يمنعه نوم ولا يقظـة , فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها علمًا على أمور يخلقها في ثاني الحال أو كان قد خلقها " .
والرؤى – يا رعاكم الله – ثلاثة أنواع , جلاَّها لنا رسول الله كما رواه ابن ماجه في سننه وصححه الألباني أنه عليه الصلاة والسلام قال : (( إن الرؤيا ثلاث : منا أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم , ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه , ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة )) .
يقول البغوي رحمه الله : " في هذا الحديث بيان أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحًا ويجوز تعبيره , إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل , وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها".
إذا النوع الأول هي الرؤيا السيئة التي من الشيطان ، وهناك آداب شرعية تجاهها ، فقد روى مسلم في صحيحه أن أبا سلمة قال : كنت أرى الرؤيا فأمرض منها ، حتى لقيت أبا قتادة فذكرت ذلك له فقال : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول : (( الرؤيا من الله ، والحلم من الشيطان ، فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا ويتعوذ بالله من شرها ، فإنها لن تضره )) ،قال أبو سلمة : إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من الجبل ، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها .
لذلك جاء أعرابي كما في مسلم إلى النبي فقال : يا رسول الله ، رأيت في المنام كأن رأسي ضُرب فتدحرج فاشتددت على أثره !! فقال رسول الله للأعرابي : (( لا تحدث الناس بتلعُّب الشيطان بك في منامك )).
لذلك للسنة تجاه مثل هذه الرؤى السيئة آداب : أ، يتعوذ بالله من شرما رأى ثلاث مرات ، ويتعوذ بالله من شر الشيطان ثلاث مرات ، وأن يتفل عن يساره ثلاث مرات ، وأن لا يحدّث بها أحداً ولا يطلب تفسيرها ، وقد صح في مسلم أيضاً أن يتحول من الجنب الذي كان عليه ، وان يصلي عقبها .
وأما النوع الثاني من الرؤى فهو ما يحدّث به المرء نفسه في يقظته ، كمن يكون مشغولاً بسفر أو تجارة أو نحو ذلك ، فينام فيرى في منامه ما كان يفكّر فيه في يقظته ، وهذا من أضغاث الأحلام التي لا تعبير لها .
وأما النوع الثالث فهو الرؤيا الصادقة الصالحة التي تكون من الله ، قال : ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها )) أخرجه البخاري ، وعند مسلم : ((ولا يخبر بها إلا من يحب )) وجاء عند ابن عبد البر أنه يطلب تفسيرها .
وكثيرون هم في هذا الزمان الذين يتهافتون على المفسرين للرؤى ويشعلون أهل العلم بأحلام سيئة أو أخلاط مواقف لا رابط لها ، لذا شرع أهل العلم في بيان علامات لأضغاث الأحلام أو الرؤيا السيئة ، وعلامات للرؤيا الصادقة حتى يفرق الناس .
فمن علامات أضغاث الأحلام أو الرؤى الفاسدة أن النائم يرى في منامه مناظر متناقضة ومتداخلة , لا يعرف أولها من آخرها , ومن علاماتها أن بعض الناس يمرض فيرى في منامه ما يوافق مرضه , ومن علاماتها كأن يرى مستحيلات لا يمكن أن تقع , أو يرى ما تحدث به نفسه في اليقظة , ومن علامات الرؤيا الصادقة انتفاء جميع ما تقدم من علامات الرؤيا الفاسدة , ومن علاماتها أن يكون الرائي معروفا بالصدق في كلامه , كما قال : (( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا )) وهذا في الغالب , و إلا فقد يرى غير الصادق رؤيا صادقة يكون فيها إيقاظ لغفلته , ومن علاماتها أن يعرف أولها وآخرها , فلا تكون متقطعة لا ترابط بينها , ومن علاماتها أن تكون تبشيرا بالثواب على الطاعة أو تحذيرا من المعصية .
والرؤيا الصالحة قد تكون واضحة لا تحتاج إلى تأويل كما رأى إبراهيم عليه السلام أنه يذبح ابنه في المنام , وقد تكون خافية برموز تحتاج فيها إلى عابر يعبرها كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام .
عباد الله :
إن الرائي لحال كثير من الناس اليوم يرى أخطاء فادحة تجاه الرؤى وجهلا ذريعا بسنة المصطفى في ذلك , لذا فهذه تنبيهات على بعض أخطاء الناس في ذلك .
أولا : انشغال الناس بهذه الرؤى وتقديسها , وصرف الأوقات الكثيرة في تذاكرها والسؤال عنها , ولو سألت كثيرين من أولئك عن صلواتهم وبعض أحكام دينهم لرأيت ما يحزنك , ولا أدل على ذلك من واقع الناس اليوم , انظر إلى مجالس المعبرين ولقاءا تهم كم يحضرها , ومجالس تعلم أحكام الشرع والدين , ألا فاقدروا للأمر قدرة فلا إفراط ولا تفريط .
ثانيا : إقامة المجالس واللقاءات الطويلة في تعبير الرؤى , مما زاد في إشغال الناس بهذا أكثر وأكثر , ويتبجح بعضهم بما جاء في صحيح مسلم من أن رسول الله كان كثيرا ما يسال أصحابه بعد الفجر : (( من رأى منكم رؤيا ؟ )) , فيجاب عن هذا بأن هذا رسول الله , ولا يقاس عليه غيره , وكان في طور تنزّل الوحي , ومن ثم فإنه لم يثبت عن أحد من الصحابة كالخلفاء الأربعة ولا من بعدهم أنهم كانوا يقيمون المجالس من أجل تعبير الرؤى , لا سيما أبو بكر الصديق "رضي الله عنه " وقد شهد له النبي "صلى الله عليه وسلم " بأنه عارف بتعبير الرؤى .
ثالثا : من الأخطاء في الرؤيا خطورة الكذب فيها , ففيه إثم عظيم , أخرج البخاري في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( من تحلم بحلم لم يره كلَّف – أي يوم القيامة – أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل )) , قال الإمام الطبري رحمه الله : " الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره "
رابعا : بعض الناس إذا رأى رؤيا لم يترك أحدًا إلا وقد سأله عنها , وقد يسأل أحيانًا جهالا لا يفقهون فيها شيئا . تفسير الرؤى – يا رعاكم الله – علم ليس لأي أحد أن يتكلم فيه , سئل الأمام مالك رحمه الله : أيعبر الرؤيا كل أحد ؟ فقال مالك : أبالنبوة يلعب ؟! والنبي يقول :(( إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحا أو عالما )) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
وهنا تعلم خطورة نصب الإنسان نفسه مفتيا في الرؤى , يتكلم بتخمينه وظنونه , فأينه من قول الله : (( ولا تَقْــفُ مَا لَيْسَ لكَ بهِ عِلـْـمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كَانَ عَنْهُ مسْئُولا)) ] الإسراء :36 [ ..
خامسا : يخطىء بعض الناس في اقتنائه لكتب الرؤى والاعتماد عليها , فكلما رأى في منامه سيئا فتح كتابه , ألا فليعلم أن الرؤى يعبرها أهل العلم باعتبارات مختلفة , فقد تكون الرؤيا واحدة لشخصين لكن التأويل مختلف . جاء رجل صالح لابن سيرين فقال : رأيت أني أؤذن في المنام , فعبرها له بأنه سيحج لقوله تعالى : (( وأذّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ )) ] الحج : 27 [ , وجاء بعده آخر رأى أنه يؤذن في المنام , فعبرها له بأنه يسرق لقوله تعالى : (( ثُمَّ أذَّنَ مُؤَذِّنٌ أيَّتُهَا العِيرُ إنَّكُمْ لَسارِقُونَ )) ] يوسف : 70 [ .
سادسا : تنتشر بين الفينة والأخرى ورقة مذكور فيها رؤيا للرجل الصالح أحمد خادم الحجرة النبوية , وفيها بعض الوصايا , وكذلك ورقة أخرى أن فتاة رأت أم المؤمنين زينب أو بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة تأمرها بأن تقرأ (( قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ )) ] الإخلاص : 1 [ كذا مرة وسيحصل لها كذا وكذا, وكل هذه خزعبلات وأكاذيب لا تنتشر إلا عند الجهلاء , وقد نبهت عليها اللجنة الدائمة , وتكلم عنها الشيخ ابن باز رحمه الله في إيضاح قبل أكثر من خمسة عشر عاما , ألا فليعلم أن رسول الله ما مات إلا والدين قد كمل , وأن أي مدع يدعي أنه اكتشف سنة عبر منام فهو كاذب , فليس هناك سنة إلا وقد بينها , وانتهى التشريع بموته .
وختاما من أراد الرؤيا الصالحة فعليه بالصدق في أقواله وأفعاله , وأن لا ينام إلا على وضوء , وينام على جنبه الأيمن , ويأتي بالأوراد الثابتة عند النوم ويسأل الله الخير , بما يرى ولو عبر بما عبر فالإمام أحمد رحمه الله يقول : " الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره ".